هل لدينا أدب عربي أم آداب عربية؟

روحي الخالدي
روحي الخالدي
TT

هل لدينا أدب عربي أم آداب عربية؟

روحي الخالدي
روحي الخالدي

حين بدأت الدراسات المقارنة في ألمانيا وفرنسا أوائل القرن التاسع عشر كان أحد أهدافها الأساسية ربط الآداب الأوروبية بعضها ببعض بعد أن تفرقت إثر انتهاء العصور الوسطى التي رأت أوروبا موحدة أو شبه موحدة ضمن ما عرف بالعالم المسيحي (كريسيندوم Christendom) وضمن اللغة اللاتينية التي كانت لغة الكتابة الرئيسية. كان ضرورياً كما عبر أحد المقارنين الفرنسيين في ذلك الوقت إعادة لم الشمل الأوروبي على مستوى الثقافة والأدب إن تعذر ذلك على مستوى السياسة والدين. لكن الدراسات المقارنة المعروفة بالأدب المقارن لم تأخذ هذا المنحى حين عبرت الحدود وتلقفتها ثقافات أخرى منها الثقافة العربية على يد أناس مثل الفلسطيني روحي الخالدي في مرحلة مبكرة من القرن العشرين. ولعل فرضية أن الأدب العربي واحد صرفت الاهتمام عن درسه من زاوية مقارنة وجعلته ينصب عند أوائل المقارنين العرب ومن تلاهم على التعرف على آداب أوروبا والربط بينها وبين الأدب العربي.
تلك الفرضية ما زالت قائمة عند كثيرين، بل هي أقرب إلى اللامفكر فيه عند أولئك. وحدة اللغة والتاريخ تجعل الأدب العربي واحداً في نظر أكثرنا، مع أننا ندرك أكثر من أي وقت مضى أن العزلة قائمة وإن كانت نسبية. صحيح أن اللغة توحد لكن الدراسات لا تسير بمقتضى اللغة في كثير من الأحيان، بل ربما في معظمها. فإذا تجاوزنا العصور السابقة للعصر الحديث ظهر لدينا الأدب الإقليمي: أدب مصر وأدب لبنان وأدب الخليج وأدب المغرب إلخ. ثم ظهر مع ذلك متخصصون في الأدب السعودي وفي الأدب المصري وفي الأدب التونسي والعراقي...إلخ. لكن لا أعرف أن لدينا متخصصاً في الأدب العربي، باحثاً أو ناقداً واحداً يستطيع أن يقول إنه يعرف أدباً عربياً غير أدب بلاده بقدر ما يعرف أدب بلاده أو يعرفه بدرجة مقاربة. دارسو الرواية في لبنان سيتحدثون عن الرواية في لبنان أكثر مما يتحدثون عنها في المغرب أو السعودية، ودارسو الشعر في الكويت سيعرفون عن الشعر الكويتي أكثر مما يعرفون عن الشعر في تونس أو اليمن، وقس عليه.
سيقال إن ذلك أمر طبيعي وناتج عن الانتماء الإقليمي والتعليم، وهو صحيح، لكن ألا يؤكد ذلك الحاجة إلى متخصصين يعرفون الأنواع الأدبية بشمولية أكثر؟ أولئك سيكونون دارسين مقارنين، تماماً مثل الذين احتاجتهم أوروبا عندما اخترعوا المقارنة وسيلة للم الشمل. نعم هناك اختلاف، واختلاف كبير يتمثل في أن أوروبا فرقتها اللغات المتفرعة من اللاتينية أو السكسونية الشمالية أو غيرها. لكن وحدة اللغة في الوطن العربي لم تؤدِ إلى تماثل التجارب الأدبية التي تعكس في نهاية المطاف الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية وتباين الظروف الاجتماعية التي جاءت نتيجة طبيعية للشتات العربي في العصور الحديثة وخضوع المناطق العربية إلى حكم أجنبي ابتداءً بالعثمانيين ثم الاستعمار الأوروبي إلى أن استقلت بحدود تعزل بعضها عن بعض. لقد كان ظهور دول عربية بحد ذاته كفيلاً بتباين التجارب على الرغم من وحدة اللغة والتاريخ.
قبل أعوام سألني بعض الباحثين المنتمين إلى جمعية الأدب المقارن في الولايات المتحدة، أثناء حضوري مؤتمراً للأدب المقارن، عما إذا كانت لدينا دراسات مقارنة للأدب العربي. وأذكر أنني دهشت للسؤال لاستبعادي أن أدباً موحداً وعالي التجانس كالأدب العربي يحتاج إلى مقارنات تبرز ما بين أجزائه أو أقطاره من صلات، ناهيك بأن تستعيد صلاته المفقودة. كان في ذهني أن تلك الصلات أوضح من أن تحتاج إلى بحث ودراسة، لكني بعد تفكير لم يدم طويلاً شعرت أن الاقتراح كان بمثابة قرع جرس لواقع مغيب عني وعن آخرين. فنحن أو أكثرنا يفترض فعلاً أن أدباً يحمل اسماً واحداً كالأدب العربي لا يحتاج إلى مقارنات، لأنه جسم واحد متماسك. غير أن قراءة كتاب أو بحث عن الرواية أو الشعر أو غير ذلك من الأنواع الأدبية سيجد أن الكتاب أو البحث يسلط الضوء على قطر دون غيره، وأن حضور المنتج الأدبي في قطر عربي آخر - إن حضر - فهو حضور هامشي وباهت. والسبب في ذلك إما الفرضية التي ذكرت أو عدم الإلمام الكافي بما ينتجه ذلك القطر بحيث يتناوله الباحث أو الناقد بيسر وكأنه منتج بلده.
المؤتمرات والندوات الأدبية الكثيرة التي تعقد في غير قطر عربي تؤكد التلاحم الأساسي للأدب العربي، لكن تبلور ذلك التلاحم في دراسات شاملة ضعيف. هو تلاحم كامن أو افتراضي لكنه ضعيف التحقق أو غائب تماماً عن الظهور في دراسات تستوعب الرواية هنا والقصة هناك والقصيدة والمسرحية على النحو الذي يؤكد أنها جزء من جسم واحد على الرغم من التنوع. والحق أن البحث المقارن ليس معنياً دائماً أو بالضرورة بتأكيد اللحمة الواحدة، بل إن هدفاً رئيسياً من أهدافه هي إبراز التنوع في ظل التشابه، أو التعدد في إطار التجانس، أي عدم إغفال التمايزات الطبيعية بين إقليم وآخر حتى ضمن القطر الواحد أحياناً. المهم هو معرفة الخطوط المشتركة من ناحية والخطوط المميزة للعمل أو للإقليم من ناحية أخرى.
المشكلة التي ستواجه مشروعاً مقارناً كالذي أشير إليه هي تعذر وجود الباحث أو الناقد الذي يعرف الأدب العربي في كل قطر بدرجة متقاربة. كل باحث يعرف أدب بلاده أفضل من معرفته بأدب البلاد العربية الأخرى، ومن هنا فإن مقارنته سترجح كفة على كفات وعلى نحو مخل. لذا يبدو لي أن الحل المنهجي سيكون واحداً من اثنين:
إما أن يتوفر باحث واحد على دراسة نوع أدبي واحد، وليكن الرواية مثلاً، دراسة مقارنة تتأسس على عدد من الروايات المهمة من كل قطر أو من مجمل الأقطار بحيث تكون أعمالاً ممثلة لغيرها، أو أن يختار ظاهرة رئيسة ويختار لدراستها أعمالاً من كل قطر فتتبين له أو لها السمات المشتركة وتلك المميزة للأعمال والأقطار.
أو، الحل الآخر، أن ينهض بالمشروع عدد من الباحثين يتناول كل منهم أعمالاً من نوع أدبي محدد من الأقطار المختلفة ثم تناقش النتائج التي تتوصل إليها كل دراسة بحيث تبرز الخطوط المشتركة وغير المشتركة في النوع الواحد في أقطار مختلفة لتعرض تلك النتائج في بحث مشترك واحد.
من دون الدرس المقارن سيظل الأدب العربي يسير في اتجاهات مختلفة لا نعرفها إلا معرفة جزئية وليس غير المقارنة طريقاً إلى الربط وإبراز ما يجعل ذلك الأدب أدباً عربياً بجسم متجانس يبرر وضعه تحت اسم واحد على نحو علمي، أي دون اتكاء على النوستالجيا أو العواطف أو الفرضيات غير الممحصة.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.