يوم تسميته رئيساً للوزراء، خرج النائب الأول للرئيس الفريق أول بكري حسن صالح من اجتماع «المكتب القيادي» للحزب الحاكم بعد خروج الرئيس عمر البشير مباشرة، وعلى نصف وجهه «ابتسامة غامضة» اشتهر بها، فيما رسم على النصف الآخر من الوجه علامات لا مبالاة بادية، كأنه يقول للكل: «ليس هناك جديد». خروجه بطوله الفارع وجلبابه الناصع و«السديري» وخلفه سلفه علي عثمان محمد طه بقصر قامته، ودون أن ينطق بكلمة، كان علامة، أما تحيته المقتضبة للصحافيين الذين كانوا يحرسون المكان بانتظار الخبر «الصاعق»، فقد أوصلت رسالة مضللة، دفعت مراسل وكالة أنباء عالمية شهيرة للقول: «لا يوجد خبر، سهرنا على الفاضي». لكن الخبر المقتضب الذي تلاه نائب الرئيس لشؤون الحزب إبراهيم محمود على الصحافيين بعد دقائق قليلة على مغادرة الرجل، طارت به عاجلات وكالات الأنباء، ونقلته عناوين صحف ذلك اليوم يقرأ: «أجاز المكتب ترشيح الرئيس لنائبه بكري حسن صالح رئيساً للوزراء مع احتفاظه بموقعه في القصر نائباً أول».
كان الخبر مفاجئاً على الرغم من أن «التسريبات» والتكهنات والترشيحات جعلته متوقعاً، لكن المفاجأة فيه أن الرجل جمع ثاني وثالث أهم وظيفتين في الدولة السودانية: «النائب الأول للرئيس، ورئيس الوزراء».
ربما أراد الرئيس البشير إيصال رسائل عدة في آن واحد باختياره هذا؛ فهو من جهة عزز «الدائرة العسكرية» المقربة منه وجدد ثقة القوات المسلحة؛ لأن الرجل يحظى بتأثير واضح داخلها، وفي ذات الوقت جاء برجل يعرفه جيداً، ويثق فيه كثيراً ذخراً لأيام مقبلة يضمن خلالها التناغم داخل القصر الرئاسي ومجلس الوزراء، وربما رسالة أخرى تقطع عشم «الطامعين» من حزبه، أو أحزاب أخرى في المنصب الذي سال له لعاب كثيرين، حتى أن بعضهم وظف نفسه في المنصب من خلال «بروباغندا» التواصل الاجتماعي عن طريق حملات «منسقة» تهدف إلى وضعه في «عين الرئيس» حين يختار.
خرج الرئيس بنفسه في اليوم التالي ليشرح للميديا لِمَ اختار الرجل لـ«المنصبين»، والمرحلة التي كلفه بالمنصب المستحدث فيها، وقال: إن تعيينه خطوة مهمة باتجاه تحقيق الاستقرار والسلام في البلاد، وإنه «الرجل المناسب؛ لإلمامه بكل ما يدور داخل أجهزة الدولة»، وإن كل الذين شاركوا في الحوار الوطني وافقوا على تعيينه، وإن رئاسته للجنة العليا لإصلاح أجهزة الدولة أتاحت له فرصة التعرف إلى الوحدات الحكومية؛ ما سيساعده كثيراً في أداء مهمته.
ويتفق الجميع على أن الرجل غير محب الظهور، ولا يهتم كثيراً للإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام التي تعده صيداً ثميناً، وهو ما جعل البعض يظنونه «لا يحسن الكلام»، لكنه فاجأهم في مؤتمر صحافي من منصته بصفته رئيساً للجنة العليا لإصلاح الدولة في أغسطس (آب) 2015، بأنه رجل دولة «مرتب»؛ وهو ما دفع أحد الحضور للقول وقتها «لماذا يصمت هذا الرجل طالما يحسن الحديث؟!».
هذا العزوف عن الظهور يفسره دفعته في سلاح المظلات ونائب مدير الطيران المدني الحالي الفريق يوسف إبراهيم أحمد، بقوله إنه «شخصية لا تحب الظهور، بل ويرفض أن ترافق تحركاته سيارة المراسم (سارينة)، وإنه لا يفضل الاقتراب من الإعلام بحكم طبيعته، بل ولا يبدي اهتماماً بذلك».
ويوضح الفريق إبراهيم في إفادته لـ«الشرق الأوسط» بأن الرجل ومن خلال معرفته وزمالته له في قوات المظلات، كان غير ميال للعنف اللفظي، وأن ذلك جعله قريباً من كل المحيطين به. ويضيف إن علاقته بالرئيس البشير يحكمها الاحترام المتبادل، وإنهما كانا قريبين من بعضها بعضا، ولا يتصور حدوث خلاف بينهما.
ووفقاً لابن الدفعة، فإن الرجل يملك ذاكرة قوية «فوتوغرافية» تحتفظ بأدق التفاصيل، ويتمتع بخيال واسع وطموح عريض، ومقدرة على التنسيق والعمل ضمن فريق، وهي صفات تمكنه من كسب ولاء الوزراء الجدد الذين سيترأسهم بسهولة.
أما قوى المعارضة السياسية، فترى في إيلاء المنصب لصالح «أفرغه» من مضمونه، يقول الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني المعارض بكري يوسف، إن استحداث منصب رئيس الوزراء، كان أحد مخرجات «ما يسمى» بالحوار الوطني، لكن تعيين صالح أفرغ المنصب من الفلسفة التي بني عليها من محتواها.
ويوضح يوسف بأنها فلسفة قصد منها عرّابها حسن الترابي «إضعاف» الرئيس البشير بتنصيب رئيس وزراء قوي، لكن الأمر تحول إلى إجراء شكلي في المناصب والأسماء وتعديلات دستورية محدودة، لا توفر مخرجاً لمشكلات البلاد وأزماتها المستمرة في المتفاقمة منذ 27 عاماً.
يقول يوسف: «من أين لبكري حسن صالح بهذه الوصفة السحرية، وهو لم يغادر كابينة القيادة طوال هذه الفترة، ولم يورد السودان غير مورد الهلاك»، ويضيف إن حزبه ومن اللحظة التي أطلق فيها الحوار وصفه بأنه غير موضوعي، ولا يؤسس لحوار جدي ومثمر، ويتابع: «بعد ثلاث سنوات تؤكد نتائج الحوار ما تنبأنا به، وهو الدوران في حلقة مفرغة، وإهدار زمن وأموال البلاد في اللاشيء».
ويعتبر المعارض البارز مجيء صالح لمنصب رئيس الوزراء «تغييراً مزعوماً»، منح المزيد من السلطات والصلاحيات للرئيس، وهو تغيير لا يستطيع مخاطبة قضايا الحريات والفساد، ومعالجة مشكلات الحرب والاقتصاد والإدارة.
ويرى يوسف في تعيين صالح اختطافاً لمسار «خريطة الطريق» الأفريقية، التي- حسب رأيه- رسمت طريقاً مغايراً إلى حوار جدي ومتكافئ، يقطع الطريق أمام مجهودات المجتمع الدولي، الرامية إلى إحداث سلام وتحول في السودان.
ويعتقد أن الجمع بين منصبي النائب الأول للرئيس ورئيس مجلس الوزراء، كشف حيرة النظام وورطته باستحداث المنصب الذي استخدمه لـ«إغراء» القوى السياسية للمشاركة للحوار، لكنها اكتشفت أنها اصطادت فأراً بعد أن كانت تظنه فيلاً.
ووفقاً ليوسف، فإن البشير لجأ إلى أسهل الحلول غير المزعجة لينفرد بالسلطة، فجاء بصديقه «المطيع» ليضرب عصفورين بحجر، يبعد الإسلاميين من جهة، ويرضي تحالفاته الجديدة بشخص من غير الإسلاميين.
أما العقيد المتقاعد محمد الأمين خليفة، وعضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني، فهو على الرغم من خروجه من المجلس ومن السلطة مغاضباً ومسانداً لزعيم الإسلاميين الراحل حسن الترابي في الانقسام الشهير، فيقول عن الرجل «اجتماعي، يواصل الناس في الفرح والكره»، ويصف شخصيته بأنها مرحة وميالة للمداعبة وصناعة الطرف والنكات، وإنه مع ميله للمزاح فهو منضبط وحازم وشجاع في اتخاذ القرار، لدرجة إلغاء قرارات رئاسية يقول خليفة ضاحكاً: «لا أدرى إن كان هذا يتم بالاتفاق أم لتبادل الأدوار»، لكن الرئيس كان يوافق على القرارات التي يتخذها، وإن أوقفت تنفيذ بعض قراراته.
يقول خليفة إن رئيس الوزراء تأثر بعمله ضابطاً في المظلات كثيراً، وإنه كان «عسكري مظلات ماكرا» يجيد التخفي وإيهام العدو بغير ما ينوي فعله، هذا فضلاً عن حبه ووفائه لوحدته العسكرية؛ وهو الأمر الذي يفسر سر علاقته بالرئيس البشير، يقول خليفة: «منذ أن كان برتبة النقيب كان يعمل مديراً لمكتب الرئيس، ويطلق عليها أركان حرب القائد».
وحول دوره في صناعة الانقلاب في 30 يونيو (حزيران) 1989 يقول خليفة، إنه كان من المؤثرين في الحدث، ولعب دوراً فاعلاً في تأمين القيادة العامة ونجح فيه بشكل لافت؛ ما جعله عنصراً فاعلاً في مجلس قيادة الثورة، وفي الدولة منذ ذلك الوقت.
وحول علاقته بالحركة الإسلامية السودانية، قال أحد قيادات الإسلاميين النافذين للصحيفة، إن القيادي الإسلامي الراحل ياسين عمر الإمام هو من جنده لصفوفها، لكنه وبحكم طبيعته المرنة غير المتعصبة، لم يكن يحب الالتزام العقائدي المتطرف، مثل غيره من قادة وعسكريي الإسلاميين.
لكن للمحلل السياسي ورئيس تحرير صحيفة «إيلاف» الاقتصادية د. خالد التجاني رأي آخر، ينطلق من أن صالح لم يشترك في الأفعال التي خلقت مرارات بين السودانيين، سواء كان ذلك عن طريق الأفعال أو الخطاب، وأن هذا يجعل منه شخصاً مقبولاً، لم تعرف عنه خصومات سياسية.
ويوضح التجاني أن مجيء الرجل لمنصب رئيس الوزراء يحمل إرهاصات يمكن أن تقرأ بأكثر من زاوية، فهو من جهة يعني أن معادلة الحكم المستمرة منذ 1989 القائمة على أنه حكم إسلاميين مدنيين وعسكريين قد تغيرت، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر.
ويرجع التجاني جذور التحول إلى ما أسماه «الإطاحة بالحرس القديم»، بخروج علي عثمان محمد طه، ونافع علي نافع وآخرين، والمجيء بصالح نائباً أولاً، يقول: «الحركة الإسلامية كانت تظن أنها أوجدت نظاماً وظفت فيه عضويتها من العسكريين، لكنها اكتشفت أن المؤسسة العسكرية أكثر عراقة وتماسكاً، فبدلاً من أسلمة المؤسسة العسكرية، فإن المؤسسة هي التي ابتلعت الحركة الإسلامية».
ويشير التجاني إلى مؤتمر الحركة الإسلامية الماضي الذي جاء بالرئيس البشير رئيساً لها، ويقول إنه كان تمهيداً لتهميشها الذي اكتمل بتعيين صالح رئيساً للوزراء، ويقول: «مجيء صالح للمنصب يقطع الطريق أمام أي خلافة مدنية إسلامية للبشير، وإنه سيكون خليفة البشير الذي سيقطع الطريق أمام الإسلاميين ويشرعن المؤسسة العسكرية».
ويرى التجاني في اختيار الرجل أن النظام يريد التخفف من محموله الإسلاموي باتجاه نظام أكثر قومية، على حساب دور الحركة الإسلامية، وتحويلها إلى «متفرج»، ويضيف: «حين بدأ الحوار الوطني، كان الناس يظنونه سيكون بابا يتوحد عبره الإسلاميون من جديد، لكنه تحول لمدخل لتجاوز هيمنتهم». ويقطع التجاني بأن تسمية صالح رئيساً للوزراء «نهاية حقبة، وبداية حقبة جديدة في تاريخ الإنقاذ».
ويصفه موظف عمل معه طويلاً بأنه مثال لشخصية الجندي المنضبط، وبأنه يتمتع بدرجة عالية من الدقة في التعامل مع الأشياء، يقول: «هو لا يقدِم على عمل فيه مفاجآت، ولا يتيح مجالاً للمصادفات، ويوظف ذاكرته (الكربونية) الحادة في متابعة تنفيذ المهام التي يكلف بها مرؤوسيه، بما لا يتيح لأحد استغفاله». ويضيف: «يتمتع الرجل بصرامة بغير قسوة، وحسم من دون طغيان، ويملك حس طرافة يستطيع به امتصاص القلق والتوتر».
ينحدر صالح المولود في عام 1949 من منطقة «حفير مشو» شمالي دنقلة بشمال السودان، وتلقى تعليمه بمدارس المنطقة، وفي عام 1971 دخل الكلية الحربية السودانية، وتخرج فيها ضابطاً في الدفعة الـ24، وبعد تخرجه عمل في سلاح المظلات، وهناك التقى الرئيس البشير ووقتها كان برتبة «النقيب»، وعملا معاً لأكثر من عشر سنوات اتسم خلال بانضباط شديد، وكان مسؤولاً عن إدارة تسليح القوة.
وبحكم قربه من الرئيس البشير، شارك في الانقلاب الذي أتى بالجبهة الإسلامية للحكم 1989، وأوكلت له إدارة التأمين، فعمل خلال الفترة 1990 – 1995 مديراً لجهاز الأمن، ثم وزيراً للداخلية 1995 – 1998، ومستشاراً أمنياً لرئيس الجمهورية في الوقت ذاته. تقلب في المناصب السيادية في الدولة إلى أن شغل منصب وزير شؤون الرئاسة 1998 – 2000، ثم وزيراً للدفاع 2000 – 2005، ثم وزيراً لشؤون الرئاسة 2005 – 2013.
ثم نائباً أول للرئيس منذ 6 ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلفاً لرجل الإسلاميين الشهير علي عثمان محمد طه، بعد إعفائه وعدد من قادة الإسلاميين من وظائفهم، وأشهرهم رجل الحكم المثير للجدل ومساعد الرئيس نافع علي نافع، إلى أن صدر قرار تعيينه رئيساً للوزراء إلى جانب منصبه نائباً أولاً للرئيس في الثاني من مارس (آذار) الحالي.
بكري حسن صالح رجل مظلات «ماكر» يجيد التخفي
رئيس الوزراء السوداني الجديد بذاكرة فوتوغرافية ومزاج مرح لا يمكن استغفاله
بكري حسن صالح رجل مظلات «ماكر» يجيد التخفي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة