يقع قصر دار الأمان أو السلام على أحد المرتفعات في غرب العاصمة الأفغانية كابل، بني القصر في عهد الملك الأفغاني الراحل «أمان الله خان» سنة 1920 ليكون مقرا لحكومته ولباقي مؤسسات الدولة آنذاك، شيد القصر بتصاميم ألمانية، أشرف المهندس الألماني الشهير جوزيف بريكس على عملية البناء التي استغرقت عشر سنوات كاملة، وشارك فيها 22 مهندسا ألمانيا وبإشراف مباشر من المهندس الألماني الكبير والتر هارتس.
وبني القصر الذي نسب إلى الملك الأفغاني «أمان الله خان» ثلاث طبقات ويحتوي على 150 غرفة من مختلف الأحجام حيث توجد فيه صالات استقبال كبيرة، وفي كل طابق توجد غرف صغيرة لاستخدامها لأغراض حكومية وغرف خاصة لخدم الملك، إضافة إلى عشرات الحمامات، اكتمل بناء القصر عام 1929، ولم يتذوق الملك الأفغاني العيش في قصر دار الأمان إلا سنتين حتى أطيح بنظام حكمه عقب تمرد شعبي كبير قادته مجموعة من علماء أفغانستان بحجة أن الملك ابتعد عن مبادئ الإسلام، وخرج على عادات وتقاليد أفغانستان من خلال زيارات متكررة أجراها إلى تركيا في ذلك الزمن.
وكان الملك أمان الله خان متأثرا جدا بأفكار الزعيم التركي كمال أتاتورك، وأراد أن ينقل تجربته في تطور تركيا إلى أفغانستان من خلال السماح للفتيات بالالتحاق بالجامعات، وإرسالهن إلى الدراسة في جامعات تركيا، لكن الأمر الذي قصم ظهر البعير وأدى إلى خروج جماعي على حكم الملك هو ظهور «الملكة ثريا» زوجة الملك إلى العلن ومن دون حجاب أفغاني، ما أثار غضب الشعب الأفغاني المحافظ، وثار ضد الملك، مما اضطر إلى الخروج إلى المنفى في تركيا.
وكان قصر دار الأمان يتمتع بكل مزايا المباني الملكية على النمط الأوروبي؛ من أشكال هندسية رائعة ومنحوتات حجرية على شكل أسود تتربع على أعمدة القصر، إضافة إلى حديقة مربعة وأشكال هندسية دائرية غاية في الفن والهندسة على واجهة القصر.
وشهد القصر حروبا كثيرة اندلعت في العاصمة الأفغانية كابل، وهو خير شاهد على حجم الدمار الذي لحق بالمدينة؛ وهو لم يسلم من الدمار الذي لحق بمؤسسات الدولة الأفغانية خلال 90 سنة من تاريخها المليء بالتطورات وحروب المجاهدين، وحالات عدم الاستقرار السياسي، ففي عام 1969 اندلع حريق هائل في أحد أجنحة القصر، ما أدى إلى وقوع أضرار فادحة به، ثم أعيد ترميمه من قبل الحكومة الأفغانية في تلك الفترة، ليتحول بعد ذلك إلى متحف وطني جمعت فيه كثير من القطع الفنية التي تتحدث عن تاريخ أفغانستان العريق.
وفي عام 1978 بالتزامن مع الغزو السوفياتي السابق لأفغانستان، وسيطرة الحزب الشيوعي على مقاليد الحكم في كابل، أحرق قصر دار الأمان وجرى العبث بمحتوياته وسرقة آثاره، وبعد فترة وجيزة أعيد بناؤه من جديد ليصبح لمدة قليلة مقرا لوزارة الدفاع الأفغانية، وفي آخر أيام حكم آخر رؤساء الحزب الشيوعي في كابل الدكتور نجيب الله الذي أعدمته طالبان بعد سيطرتها على كابل عام 1996، وهروب قوات تحالف شمال السابق إلى شمال أفغانستان انقلب «شهنوا زتني» وزير الدفاع في حكومة نجيب الله عليه ونفذ سلسلة غارات جوية على قصر دار الأمان، ما أدى إلى تدمير جزء كبير من القصر جراء الغارات.
وفي عام 1992 وعندما سيطرت أحزاب المجاهدين على كابل، سقطت المدينة بأيديهم وتضرر ما تبقى من القصر، حيث اتخذته بعض المجموعات المسلحة مقرا لعملياتها في حروب أهلية استمرت أربع سنوات، دمرت فيها كابل المدينة، ودمر قصر دار الأمان وسرقت ونهبت جميع محتوياته.
وهو اليوم على تلك الحالة من التدمير والخراب ليكون شاهدا على هول المعارك والمآسي التي خلفت آلاف القتلى والجرحى من تاريخ أفغانستان، الطويل المليء بالصراعات والحروب والمؤامرات، ثم انتقلت السيطرة على قصر دار الأمان بين أحزاب المجاهدين، التي كانت تحاول بسط سيطرتها على أجزاء واسعة من كابل حتى ظهرت طالبان فاتخذت من القصر مقرا لعملياتها العسكرية.
وبعد الإطاحة بحكم طالبان إثر الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) استقرت في القصر فرقة من قوات حلف شمال الأطلسي لفترة وجيزة ثم تركته على حاله.
واليوم عندما تزور القصر تجد على جدرانه شعارات مختلفة وتواقيع تركها كل من سيطر عليه في فترات متلاحقة من الأزمة الأفغانية، إن تاريخ أفغانستان تاريخ مؤلم بحق البلد والبشر، فكل من حكم البلد وسيطر عليه ترك توقيعه الخاص على جدران القصر الجميلة، لكن بالرصاص وليس بقلم الرصاص.
وفي عام 2005 قررت الحكومة الأفغانية برئاسة حميد كرزاي إعادة بناء القصر، وأعلنت بلدية كابل فتح باب جمع التبرعات لإعادة الروح إلى القصر وجعلته قبلة للزوار ليكون شاهدا على حجم المعارك ليتعظ به من يتعظ. وقالت بلدية كابل إنها بحاجة إلى 30 مليون دولار، على أقل تقدير، ليعاد بناء القصر ومحيطه، لكن بعد مضي أكثر من تسع سنوات فإن المبلغ لم يجمع، ولم يشهد القصر أي نوع من الصيانة.
يقول غلام سخي، وهو مواطن أفغاني يعيش بالقرب من القصر منذ عشرات السنين، إنه يجب ترك القصر على حاله المدمر، حتى يكون عبرة للأجيال القادمة، لأن الحرب لا تجلب الدمار والخراب، وحال القصر هو خير دليل على ذلك.
واليوم تشهد مناطق مقربة من القصر حركة عمران واسعة لبناء مقر جديد للبرلمان الأفغاني، إضافة إلى مساكن خاصة لأعضاء البرلمان، وتبرعت الحكومة الهندية ببناء مقر البرلمان وسكن للبرلمانيين في مواجهة قصر دار الأمان الذي تحول إلى رمز لانهيار الدولة الأفغانية ومؤسساتها الحيوية.
قصر دار الأمان.. رمز انهيار الدولة الأفغانية
من مقر للحكم على النمط الأوروبي إلى خرائب بفعل قذائف المجاهدين
قصر دار الأمان.. رمز انهيار الدولة الأفغانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة