بولا فوكس.. من أكثر الكتاب ذكاء وأقلهم شهرة

تركت أكثر من 20 كتاباً للفتيان

بولا فوكس
بولا فوكس
TT

بولا فوكس.. من أكثر الكتاب ذكاء وأقلهم شهرة

بولا فوكس
بولا فوكس

برحيل الكاتبة البارزة بولا فوكس الأسبوع الماضي في بروكلين عن 93 عاما، يكون فصل مهم من تاريخ الأدب الأميركي في القرن العشرين قد انطوى. فهذه الكاتبة قد عكست هامش المجتمع الأميركي، وما يعانيه من أوضاع اجتماعية بائسة بعد حياة حافلة بالأعمال الأدبية الموجهة إلى الأطفال والبالغين، سلطت الضوء عبرها على حياة شخصيات عانت مرارة الفقدان والهجر والتشريد؛ وتجارب حياتية عايشتها بنفسها منذ سن مبكرة للغاية.
ويبلغ مجمل حصيلة فوكس الأدبية 6 روايات موجهة للبالغين، وأكثر من 20 كتاباً للصبية والفتيات. أما العنصر الثابت في كتاباتها المختلفة فيتمثل في أسلوبها الأنيق واللطيف الذي يغلف ملاحظاتها الدقيقة وإتقانها الواضح للسيطرة على نبرة العمل ووتيرة أحداثه، واهتمامها الدائم بفكرة التفسخ على مستويات الأسرة والمنزل والصحة والثقة.
وتتميز شخصياتها بالتعقيد وغالباً ما تفضل الانزواء، لكن تأملاتهم الداخلية العاصفة تضفي على السرد تألقا هادئا. أما أشهر أعمال فوكس الموجهة للبالغين فهي رواية «شخصيات يائسة»، (1970)، التي تتناول تفكك علاقة زوجية. وتحولت الرواية إلى فيلم يحمل العنوان ذاته من المقرر عرضه العام المقبل، من بطولة شيرلي ماكلين وكينيث مارز.
ونالت فوكس «ميدالية نيوبري»، التي تعد بمثابة جائزة «بوليتزر» في أدب الأطفال، عام 1974 عن «العبد الراقص»، وهي رواية مثيرة للجدل تركزت حول تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي في منتصف القرن الـ19.
كما تضمنت أعمالها مذكرات لها في عملين: «الأناقة المقترضة»، (2001) حول طفولتها التي تنقلت خلالها عبر أماكن عدة، و«الشتاء الأبرد: مراسلة صحافية في أوروبا المحررة»، (2005)، حول فترة شبابها.
وتتضمن أعمال فوكس كتبا مصورة للأطفال الصغار، مثل «آثار»، (2008)، وهي قصيدة وضعت الصور المصاحبة لها كارلا كوسكين، وتتناول الآثار سريعة الزوال، مثل آثار الأقدام، التي يتركها زائرون لا يراهم أحد. كما تتضمن كثيرا من الأعمال الموجهة إلى المراهقين، منها «سمكة منتفخة تعيش بالبحر»، (1970) التي ترسم ملامح رحلة لطفل لزيارة والده الذي لم يلتقه من قبل قط. وهناك أيضاً قصة بعنوان: «قطة بعين واحدة»، (1984)، حول التداعيات المؤلمة للعب صبي ببندقية هواء، ورواية «طائرة النسر الورقية» حول صبي يعاني والده من مرض الإيدز.
ونظراً لأن النصيب الأكبر من أعمال فوكس كان موجهاً إلى الصبية والفتيات، فقد تعرضت أعمالها الأدبية الموجهة للبالغين للتجاهل في معظمها. عام 1984 وصفتها صحيفة «ذي نيشن» بأنها «واحدة من أكثر الروائيين المعاصرين ذكاءً وأقلهم تقديراً».
ومع ذلك، تمتعت أعمالها الموجهة إلى البالغين في سنوات لاحقة بتسليط الضوء عليها، الأمر الذي يعود الفضل الأكبر وراءه إلى جهود الروائي جوناثان فرانزين بعد اطلاعه مصادفة على رواية «شخصيات يائسة».
وفي عام 1999 أصدرت دار «دبليو دبليو نورتون آند كمباني» نسخة جديدة من «شخصيات يائسة» كتب التقديم لها فرانزين. كما أصدرت الدار ذاتها أعمالاً أخرى من فوكس موجهة للبالغين منها «أطفال الأرملة» و«قصة خادم» و«إله الكوابيس». ووضع مقدمات هذه الروايات كتاب بارزون مثل فريدريك بوش وأندريا باريت وروزيلين براون.
من ناحية أخرى، اشتهرت فوكس بتصويرها شديد الدقة الأقرب إلى التشريح للعالم المادي من حولها. في عالم بولا فوكس، تكتسب الأشياء أهمية مضاعفة، كما لو أنها تحاول سد الفجوات التي يخلفها إخفاق الشخصيات.
كانت فوكس قد ولدت في مانهاتن في 22 أبريل (نيسان) 1923 لأبوين لم يكونا راغبين في وجودها. كان والدها، بول هارفي فوكس، روائياً وكاتب مسرحيات غير معروف. أما والدتها فكانت تحمل مزيجاً من أصول إسبانية وكوبية وكانت شابة متعجرفة وباردة المشاعر «تبدي رغبتها المحمومة للتخلص مني»، حسبما كتبت فوكس في مذكراتها المعنونة «الأناقة المقترضة».
من ناحية أخرى، جاءت ردود فعل النقاد حيال أعمال فوكس على مر السنوات إيجابية في معظمها، رغم وجود بعض الأصوات المنشقة أحياناً. على سبيل المثال، اندلعت مظاهرة رافضة لحصولها على «ميدالية نيوبري» عن رواية «العبد الراقص» التي تتناول قصة شباب من نيو أورليانز جرت الاستعانة بهم للعب الناي على متن سفينة للعبيد خلال أربعينات القرن التاسع عشر. وانتقد بعض النقاد الرواية لتصويرها العبيد الأفارقة مجموعة سلبية من البشر ليس ثمة ما يميز أحدهم عن الآخر.
في نهاية مذكراتها «الأناقة المقترضة»، تصف فوكس لقاءها بابنة كانت قد ولدتها في سن الـ20 نتاجا لعلاقة عاطفية عابرة في أعقاب انفصالها عن زوجها الأول. كانت فوكس قد عرضت الطفلة للتبني؛ القرار الذي قالت «إنه ظل يؤلمها باقي حياتها».
ومن بين الجوائز الأخرى التي حصدتها فوكس، «جائزة هانز كريستيان آندرسن»، التي نالتها عام 1978 عن مجمل أعمالها الأدبية الموجهة للأطفال.
ومع هذا، فإنه بالنظر إلى طبيعة الموضوعات التي تناولتها فوكس في أعمالها، لم يكن من المثير للدهشة أن ينتقدها البعض بوصفها مثيرة للإحباط واليأس، الأمر الذي لم يرقْ لها بطبيعة الحال.
* خدمة «نيويورك تايمز»



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.