السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

إسرائيل وأميركا تعدانه «إرهابياً»... والحركة تقول إنه «صاحب فكاهة»

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين
TT

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

لم يتردد يحيى السنوار قبل نحو 3 عقود في خنق متعاونين مع إسرائيل بكلتا يديه، حتى الموت وعلى الأقل فإن اثنين منهم ماتا خنقا بكوفيته الخاصة، بعد انتهاء التحقيق الميداني معهم. وأثناء 22 سنة أمضاها في السجون الإسرائيلية، قبل أن يطلق سراحه ضمن صفقة تبادل مع إسرائيل، شكل السنوار صداعا شديدا لكل مشتبه به، بسبب ما وصف «بالهوس الأمني» الذي يسيطر عليه. وفي غزة التي عاد لها بعد غياب طويل، ظل الفتك بالمتورطين في قضايا لا تحتمل المساومات بالنسبة له، هوايته الخاصة، إذ أمر في السنوات القليلة الماضية بتصفية البعض، بينهم مسؤولون في حماس والقسام، لم يعرف فيما تورطوا بالضبط. لقد رسمت هذه القصص بالنسبة لكثيرين صورة كافية للذين عرفوا السنوار عن قرب أو سمعوا عنه لاحقا أسيرا ومحررا.
لم يحتج يحيى السنوار، القائد الجديد لحركة حماس في قطاع غزة، بفعل «سيرته» السياسية والأمنية أي وقت لبث الهيبة في غزة، بعدما تحرر من سجنه، إذ سبقته إلى هناك حتى عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية التي انتقدت تحرير الحركي «الأكثر تطرفًا»، ووسائل الإعلام الفلسطينية التي بثت بشكل استثنائي أن «القيادي القسامي» يحيى السنوار شوهد فعلا في الحافلات، التي تقل الأسرى المحررين من السجون إلى غزة في عام 2011.
لقد حظي السنوار بتغطية استثنائية سبقت وصوله، وحظي كذلك بعناق طويل من كل قادة ومسؤولي حماس على بوابات غزة التي عانق ترابها طويلا، ثم توارى فورا عن الأنظار. ويذكر أنه منذ سنوات طويلة لم يظهر السنوار إلا نادرا. لم يتحدث إلى وسائل إعلام، واكتفى بما يبثه الآخرون عنه. واليوم بعدما أصبح على رأس حركة حماس في غزة، حافظ على نمط حياة محدد، بلا ظهور، بلا وسائل إعلام.
إنه باختصار رجل أمن وليس رجل سياسة.

سنمر مرهم!
قبل 11 سنة، عندما كان السنوار معتقلا في السجون الإسرائيلية، قال لمراسل القناة الإسرائيلية الثانية: «لن نعترف بإسرائيل، ولكننا مستعدون لقبول هدنة طويلة الأمد تحقق هدوءا وازدهارا في المنطقة، في هذا الجيل، على الأقل، وربما في الجيل القادم... مع ذلك، سنمر مر حياة الإسرائيليين أثناء المحادثات حول الهدنة، مثلما فعلنا في المقاومة والحرب». وتختصر هذه الجملة المقتضبة إلى حد كبير «عقلية» السنوار الذي أصبح مرة واحدة قائد حماس في غزة متجاوزا أسماء كبيرة للغاية.
وبسبب عقليته تلك يتوقع أعداؤه أنه سيملي خطا أكثر تشددا على الحركة، في الشأن الداخلي وفي طريقة حكم القطاع، ومع الآخرين، وهو انطباع عام لفرط ما هو راسخ حتى لدى الغزيين، حاولت حماس طمأنة الجميع بأن لديها مجلس شورى يقرر، وليس شخصا واحدا فقط على رأس الحركة.

أول عسكري يرأس الجسم السياسي
بشكل غير متوقع، تزعم السنوار حركة حماس في قطاع غزة بصفته أول عسكري على رأس الجسم السياسي، بعد أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية، وكلهم سياسيون، في مؤشر على قوة «كتائب القسام» التي طغت على السياسيين، وقوة السنوار التي طغت على «كتائب القسام». إلا أن طريق السنوار لم يكن صعبا نحو القمة. فبعد أن تحرر من السجون الإسرائيلية بقليل نجح في الوصول إلى ما يعرف بمكتب سياسيي حماس في غزة أي قيادة القطاع، كعضو في هذا المكتب. وكان السنوار ممثلا لـ«القسام» في القيادة السياسية، لكنه كان معروفا بين الناس وزير دفاع «القسام» الذي لا يكترث كثيرا بالمستوى السياسي حتى.
وبعد تحريره أصبح فورا لاعبا مهما ومؤثرا، ليس بسبب عضويته في قيادة غزة، وليس لأنه صار يقرر في شؤون كثيرة سياسية وأمنية - وكذلك فيما يخص التهدئة مع إسرائيل -، بل بسبب علاقته الخاصة والمميزة بقائد «القسام» محمد الضيف، الرجل الأكثر مهابة في حماس. وبسبب هذه العلاقة، إضافة إلى سيرته المعروفة، تسلم الأمن في «القسام»، وأصبح مسؤولا في عام 2015 عن الملف الأكثر حساسية وأمنا، في حماس ولدى الإسرائيليين، أي ملف الأسرى الإسرائيليين. وبالتالي، بات مسؤولا عن أي مفاوضات مع إسرائيل بهذا الشأن.

نشأته وهوسه بقتل العملاء
ولد يحيى إبراهيم حسن السنوار عام 1962 في مخيم خان يونس للاجئين بجنوب قطاع غزة، وتعود جذوره إلى مجدل - عسقلان.
عرف عنه منذ صغره الانضباط الشديد، ونزعته الدينية. وأنهى دراسته الثانوية في مدرسة خان يونس الثانوية للبنين، قبل أن يلتحق بالجامعة الإسلامية في غزة مطلع الثمانينات ويبرز واحدا من نشطاء العمل الإسلامي.
وأصبح مسؤولا للجنة الفنية، ومن ثم اللجنة الرياضية ونائبا لرئيس المجلس ورئيسا للمجلس. ومن ثم، أصبحت علاقته بالشيخ أحمد ياسين - الذي أسس حماس لاحقًا، واغتالته إسرائيل - قوية جدًا، واتفقا على تأسيس جهاز «مجد» الأمني الذي تخصّص في ملاحقة «المتعاونين» مع إسرائيل. وكان السنوار يشرف شخصيا على الملفات، وتولّى بنفسه قتل «عملاء».
ولقد اتهمته إسرائيل على الأقل بقتل 4 منهم وحكمت عليه عام 1988 بالسجن المؤيد 4 مرات. وأظهرت اعترافاته في التحقيقات في إسرائيل، التي كُشف عنها في موقع الأخبار الإسرائيلي «والاه» أنه قتل العملاء بنفسه. كذلك نقل عن السنوار قوله «ربطتُ عينيه بخرقة لئلا يرى إلى أين نسافر، أدخلت (رسمي) إلى قبر كبير داخل المقبرة... وعندها خنقته مستخدما كوفية كانت معي»... وتحدث السنوار أيضًا عن «معلومات» وصلت إليه عن «متعاونين» مع إسرائيل. وصلت معلومات كهذه عن «عدنان» من سكان غزة، وفورًا اختطفه السنوار ورجاله مهدديه بالسلاح، وبعدما اعترف «عدنان» بعلاقته مع الاستخبارات الإسرائيلية، قتله السنوار فورا.
اعتقل السنوار لأول مرة عام 1982 لمدة أربعة أشهر، وخرج ليعتقل بعد ذلك بأسابيع قليلة وحكم عليه مرة ثانية بالسجن 6 أشهر إداريًا في سجن الفارعة، وفي عام 1988 اعتقل مجددًا، ونقل للتحقيق، وحكم عليه بالسجن أربع مرات بالمؤبد و30 سنة. وتنقل أثناء اعتقاله عشرات المرات بين السجون، وقضى غالبية فترة الاعتقال في العزل الانفرادي. وذكرت تقارير إسرائيلية أن السنوار حاول كسر قيوده عدة مرات. وانتخب رئيسًا للهيئة القيادية العليا لأسرى حماس في سجون الاحتلال لدورتين متتاليتين، وقاد كثيرا من المفاوضات المباشرة مع إدارة السجون الإسرائيلية، وقاد إضرابات عن الطعام كذلك.

سجنه وسكتته الدماغية
بصفة السنوار ممثلا للأسرى التقى مع مسؤولين إسرائيليين ومن بينهم رئيس جهاز «الشاباك» السابق يوفال ديسكين. وكانت هناك رقابة مشددة على السنوار من قبل سلطات الأمن عندما كان مسجونا، وكانت الوحدات الخاصة في مصلحة السجون تفحص أغراضه كل أسبوع. كان يخطط سياسة حماس داخل السجون وله رأس مسموع في الخارج، ولقد شكل أيضا مصدر قلق كبير للعملاء داخل السجون.
وفي عام 2005، تعرّض السنوار لسكتة دماغية فمكث في مستشفى سوروكا بمدينة بئر السبع، عاصمة النقب، وعالجه الإسرائيليون، لاحقا تعلم اللغة العبرية وصار يتكلمها بطلاقة.

لحظة الحرية
عام 2011 وضع اسم يحيى السنوار في رأس قائمة حماس التي وضعتها مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بعد احتجازه في غزة 5 سنوات. ونقلت تقارير آنذاك أن السنوار عارض الصفقة بشكلها الحالي حتى مع وجود اسمه، إذ كان يطلب الإفراج عن كل معتقلي القسام من داخل السجون. وخرج السنوار، من ثم، إلى غزة محرّرا، وفورًا تولى مهامه المختلفة حتى أصبح قائد الحركة.
لكن كيف يرى الأصدقاء والأعداء قائد حماس الجديد؟

حماس: صاحب فكاهة
يقول الإسرائيليون عن السنوار إن حماس تخشاه، وركز الإعلام الإسرائيلي على حادثة قتل القيادي في القسام أبو المجد شتيوي، الذي كان معروفا بصفته مسؤولا كبيرا في «القسام»، واتهامات والدته للسنوار بقتل ابنها بسبب صراع نفوذ. وربما ساعدت هذه الحادثة على رسم صورة مخيفة لقائد حماس الغزي الجديد، إلى الحد الذي غرّد معه كثير من الناشطين الغزيين على مواقع التواصل الاجتماعي مبشرين بحرب جديدة بعد إعلان فوز السنوار.
لكن حماس الرسمية حاولت رسم صورة مغايرة له بعد فوزه؛ إذ قال صلاح البردويل، عضو قيادة غزة الجديدة: «اختيار يحيى السنوار قائدا لحركة حماس في غزة، جاء بعملية ديمقراطية انتخابية معقدة وهادئة، وبإرادة ووعي من عشرات الآلاف من كوادر الحركة». وأضاف البردويل في تصريحات لقناة «الأقصى» التابعة للحركة: «أن يأتي قائد بحجم يحيى السنوار هذا أمر تحدده قاعدة حماس ووفق القانون والنظام واللوائح المعمول بها. لكن لا ينبغي التركيز على شخصيته دون النظر إلى العملية الكبيرة التي تمت والمؤسسة التي اختارته ليكون قائدا لها».
وقلل البردويل من أهمية ما وصفه بـ«التخوّفات والهواجس التي حاول الإعلام الصهيوني ترويجها وانساق معها البعض، بعد انتخاب السنوار»، وقال: «إنها لا تغني عن حقيقة أن حماس ماضية في طريقها الشوري الديمقراطي ولا تفارق مبادئها ولا أهداف شعبها». ورسم صورة شخصية للسنوار قائلا: «إنه يؤمن بالوحدة الوطنية وبالعلاقات مع الفصائل وهو رجل مصالحة، وعربي يكن لمصر احتراما خاصا»، مضيفا: «هذا سيكون له انعكاسات كبيرة جدا، وسيرى الناس كيف يستحق السنوار أن يكون قائدا لحماس». وتابع: «إنه خلوق وإنسان وصاحب فكاهة، ولن يحدث تغيير سوى في نشاطه».

واشنطن: إرهابي دولي
لم تعقب الولايات المتحدة على فوز يحيى السنوار، لكن كان لها موقف مسبق منه، ففي سبتمبر (أيلول) من عام 2015 أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، إدراجها إياه وعددا من قادة حماس على لائحتها السوداء حيث اتهمتهم بأنهم «إرهابيون دوليون». ويومذاك ضمت القائمة كلاً من صديقه المقرّب روحي مشتهى، وقائد «القسام» محمد الضيف، ووزير الداخلية السابق في حماس فتحي حماد، ومسؤول الجهاد الإسلامي رمضان شلح، ونائبه زياد النخالة.

الإسرائيليون: «شيخ القتلة» مندفع وخطير
قبل انتخاب السنوار اتهمه الإسرائيليون بأنه متشدد وعنيد. ويملي خطا أكثر تشددا على كل حماس، وبعد إعلان فوزه في الانتخابات مسؤولا للحركة في غزة، شنت وسائل إعلام إسرائيلية، حملة كبيرة ضده بوصفه «الأكثر تطرفا»، وتناولت كل تفصيلة ممكنة عنه، ونشرت حتى عن إلمامه باللغة العبرية، وكيف خضع لعملية خطيرة على أيدي أطباء إسرائيليين عندما كان في السجن، باعتبار الأطباء الإسرائيليين «أنقذوا حياته». وعزز وزير الطاقة يوفال شتاينتس المخاوف الإسرائيلية بأن السنوار سيقود المنطقة إلى حرب، بقوله إن المواجهة القادمة مع حركة حماس «هي مسألة وقت ليس إلا». وعد وزير الطاقة، انتخاب السنوار لقيادة حماس بأنه «خطر للغاية بسبب طابعه الاندفاعي»، مضيفا: «كلما تعزّزت مكانته ازداد الخطر الذي يشكله». وتابع: «إنه شخص قد يردّ بشكل هستيري نابع من أوهام جهادية».
وانضم رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، آفي ديختر، للمتشائمين في إسرائيل، ودعا إلى تعزيز القدرات لتدمير البنية التحتية لحماس، بعد وصول السنوار. ووصفه ديختر بأنه «شيخ القتلة»، ثم قال بنبرة تهديد: «خسارة أننا لم نقتل يحيى السنوار، لكن اليوم هو ليس محصنًا».
وباختصار شديد، فإن الانطباع العام في دهاليز القرار الإسرائيلي عن القائد الحماسي، مبني على معرفتهم القريبة بالرجل أثناء التحقيق وعندما كان في السجون لمدة 22 سنة، وكذلك من مواقفه غير المهادنة.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.