السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

إسرائيل وأميركا تعدانه «إرهابياً»... والحركة تقول إنه «صاحب فكاهة»

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين
TT

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

لم يتردد يحيى السنوار قبل نحو 3 عقود في خنق متعاونين مع إسرائيل بكلتا يديه، حتى الموت وعلى الأقل فإن اثنين منهم ماتا خنقا بكوفيته الخاصة، بعد انتهاء التحقيق الميداني معهم. وأثناء 22 سنة أمضاها في السجون الإسرائيلية، قبل أن يطلق سراحه ضمن صفقة تبادل مع إسرائيل، شكل السنوار صداعا شديدا لكل مشتبه به، بسبب ما وصف «بالهوس الأمني» الذي يسيطر عليه. وفي غزة التي عاد لها بعد غياب طويل، ظل الفتك بالمتورطين في قضايا لا تحتمل المساومات بالنسبة له، هوايته الخاصة، إذ أمر في السنوات القليلة الماضية بتصفية البعض، بينهم مسؤولون في حماس والقسام، لم يعرف فيما تورطوا بالضبط. لقد رسمت هذه القصص بالنسبة لكثيرين صورة كافية للذين عرفوا السنوار عن قرب أو سمعوا عنه لاحقا أسيرا ومحررا.
لم يحتج يحيى السنوار، القائد الجديد لحركة حماس في قطاع غزة، بفعل «سيرته» السياسية والأمنية أي وقت لبث الهيبة في غزة، بعدما تحرر من سجنه، إذ سبقته إلى هناك حتى عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية التي انتقدت تحرير الحركي «الأكثر تطرفًا»، ووسائل الإعلام الفلسطينية التي بثت بشكل استثنائي أن «القيادي القسامي» يحيى السنوار شوهد فعلا في الحافلات، التي تقل الأسرى المحررين من السجون إلى غزة في عام 2011.
لقد حظي السنوار بتغطية استثنائية سبقت وصوله، وحظي كذلك بعناق طويل من كل قادة ومسؤولي حماس على بوابات غزة التي عانق ترابها طويلا، ثم توارى فورا عن الأنظار. ويذكر أنه منذ سنوات طويلة لم يظهر السنوار إلا نادرا. لم يتحدث إلى وسائل إعلام، واكتفى بما يبثه الآخرون عنه. واليوم بعدما أصبح على رأس حركة حماس في غزة، حافظ على نمط حياة محدد، بلا ظهور، بلا وسائل إعلام.
إنه باختصار رجل أمن وليس رجل سياسة.

سنمر مرهم!
قبل 11 سنة، عندما كان السنوار معتقلا في السجون الإسرائيلية، قال لمراسل القناة الإسرائيلية الثانية: «لن نعترف بإسرائيل، ولكننا مستعدون لقبول هدنة طويلة الأمد تحقق هدوءا وازدهارا في المنطقة، في هذا الجيل، على الأقل، وربما في الجيل القادم... مع ذلك، سنمر مر حياة الإسرائيليين أثناء المحادثات حول الهدنة، مثلما فعلنا في المقاومة والحرب». وتختصر هذه الجملة المقتضبة إلى حد كبير «عقلية» السنوار الذي أصبح مرة واحدة قائد حماس في غزة متجاوزا أسماء كبيرة للغاية.
وبسبب عقليته تلك يتوقع أعداؤه أنه سيملي خطا أكثر تشددا على الحركة، في الشأن الداخلي وفي طريقة حكم القطاع، ومع الآخرين، وهو انطباع عام لفرط ما هو راسخ حتى لدى الغزيين، حاولت حماس طمأنة الجميع بأن لديها مجلس شورى يقرر، وليس شخصا واحدا فقط على رأس الحركة.

أول عسكري يرأس الجسم السياسي
بشكل غير متوقع، تزعم السنوار حركة حماس في قطاع غزة بصفته أول عسكري على رأس الجسم السياسي، بعد أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية، وكلهم سياسيون، في مؤشر على قوة «كتائب القسام» التي طغت على السياسيين، وقوة السنوار التي طغت على «كتائب القسام». إلا أن طريق السنوار لم يكن صعبا نحو القمة. فبعد أن تحرر من السجون الإسرائيلية بقليل نجح في الوصول إلى ما يعرف بمكتب سياسيي حماس في غزة أي قيادة القطاع، كعضو في هذا المكتب. وكان السنوار ممثلا لـ«القسام» في القيادة السياسية، لكنه كان معروفا بين الناس وزير دفاع «القسام» الذي لا يكترث كثيرا بالمستوى السياسي حتى.
وبعد تحريره أصبح فورا لاعبا مهما ومؤثرا، ليس بسبب عضويته في قيادة غزة، وليس لأنه صار يقرر في شؤون كثيرة سياسية وأمنية - وكذلك فيما يخص التهدئة مع إسرائيل -، بل بسبب علاقته الخاصة والمميزة بقائد «القسام» محمد الضيف، الرجل الأكثر مهابة في حماس. وبسبب هذه العلاقة، إضافة إلى سيرته المعروفة، تسلم الأمن في «القسام»، وأصبح مسؤولا في عام 2015 عن الملف الأكثر حساسية وأمنا، في حماس ولدى الإسرائيليين، أي ملف الأسرى الإسرائيليين. وبالتالي، بات مسؤولا عن أي مفاوضات مع إسرائيل بهذا الشأن.

نشأته وهوسه بقتل العملاء
ولد يحيى إبراهيم حسن السنوار عام 1962 في مخيم خان يونس للاجئين بجنوب قطاع غزة، وتعود جذوره إلى مجدل - عسقلان.
عرف عنه منذ صغره الانضباط الشديد، ونزعته الدينية. وأنهى دراسته الثانوية في مدرسة خان يونس الثانوية للبنين، قبل أن يلتحق بالجامعة الإسلامية في غزة مطلع الثمانينات ويبرز واحدا من نشطاء العمل الإسلامي.
وأصبح مسؤولا للجنة الفنية، ومن ثم اللجنة الرياضية ونائبا لرئيس المجلس ورئيسا للمجلس. ومن ثم، أصبحت علاقته بالشيخ أحمد ياسين - الذي أسس حماس لاحقًا، واغتالته إسرائيل - قوية جدًا، واتفقا على تأسيس جهاز «مجد» الأمني الذي تخصّص في ملاحقة «المتعاونين» مع إسرائيل. وكان السنوار يشرف شخصيا على الملفات، وتولّى بنفسه قتل «عملاء».
ولقد اتهمته إسرائيل على الأقل بقتل 4 منهم وحكمت عليه عام 1988 بالسجن المؤيد 4 مرات. وأظهرت اعترافاته في التحقيقات في إسرائيل، التي كُشف عنها في موقع الأخبار الإسرائيلي «والاه» أنه قتل العملاء بنفسه. كذلك نقل عن السنوار قوله «ربطتُ عينيه بخرقة لئلا يرى إلى أين نسافر، أدخلت (رسمي) إلى قبر كبير داخل المقبرة... وعندها خنقته مستخدما كوفية كانت معي»... وتحدث السنوار أيضًا عن «معلومات» وصلت إليه عن «متعاونين» مع إسرائيل. وصلت معلومات كهذه عن «عدنان» من سكان غزة، وفورًا اختطفه السنوار ورجاله مهدديه بالسلاح، وبعدما اعترف «عدنان» بعلاقته مع الاستخبارات الإسرائيلية، قتله السنوار فورا.
اعتقل السنوار لأول مرة عام 1982 لمدة أربعة أشهر، وخرج ليعتقل بعد ذلك بأسابيع قليلة وحكم عليه مرة ثانية بالسجن 6 أشهر إداريًا في سجن الفارعة، وفي عام 1988 اعتقل مجددًا، ونقل للتحقيق، وحكم عليه بالسجن أربع مرات بالمؤبد و30 سنة. وتنقل أثناء اعتقاله عشرات المرات بين السجون، وقضى غالبية فترة الاعتقال في العزل الانفرادي. وذكرت تقارير إسرائيلية أن السنوار حاول كسر قيوده عدة مرات. وانتخب رئيسًا للهيئة القيادية العليا لأسرى حماس في سجون الاحتلال لدورتين متتاليتين، وقاد كثيرا من المفاوضات المباشرة مع إدارة السجون الإسرائيلية، وقاد إضرابات عن الطعام كذلك.

سجنه وسكتته الدماغية
بصفة السنوار ممثلا للأسرى التقى مع مسؤولين إسرائيليين ومن بينهم رئيس جهاز «الشاباك» السابق يوفال ديسكين. وكانت هناك رقابة مشددة على السنوار من قبل سلطات الأمن عندما كان مسجونا، وكانت الوحدات الخاصة في مصلحة السجون تفحص أغراضه كل أسبوع. كان يخطط سياسة حماس داخل السجون وله رأس مسموع في الخارج، ولقد شكل أيضا مصدر قلق كبير للعملاء داخل السجون.
وفي عام 2005، تعرّض السنوار لسكتة دماغية فمكث في مستشفى سوروكا بمدينة بئر السبع، عاصمة النقب، وعالجه الإسرائيليون، لاحقا تعلم اللغة العبرية وصار يتكلمها بطلاقة.

لحظة الحرية
عام 2011 وضع اسم يحيى السنوار في رأس قائمة حماس التي وضعتها مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بعد احتجازه في غزة 5 سنوات. ونقلت تقارير آنذاك أن السنوار عارض الصفقة بشكلها الحالي حتى مع وجود اسمه، إذ كان يطلب الإفراج عن كل معتقلي القسام من داخل السجون. وخرج السنوار، من ثم، إلى غزة محرّرا، وفورًا تولى مهامه المختلفة حتى أصبح قائد الحركة.
لكن كيف يرى الأصدقاء والأعداء قائد حماس الجديد؟

حماس: صاحب فكاهة
يقول الإسرائيليون عن السنوار إن حماس تخشاه، وركز الإعلام الإسرائيلي على حادثة قتل القيادي في القسام أبو المجد شتيوي، الذي كان معروفا بصفته مسؤولا كبيرا في «القسام»، واتهامات والدته للسنوار بقتل ابنها بسبب صراع نفوذ. وربما ساعدت هذه الحادثة على رسم صورة مخيفة لقائد حماس الغزي الجديد، إلى الحد الذي غرّد معه كثير من الناشطين الغزيين على مواقع التواصل الاجتماعي مبشرين بحرب جديدة بعد إعلان فوز السنوار.
لكن حماس الرسمية حاولت رسم صورة مغايرة له بعد فوزه؛ إذ قال صلاح البردويل، عضو قيادة غزة الجديدة: «اختيار يحيى السنوار قائدا لحركة حماس في غزة، جاء بعملية ديمقراطية انتخابية معقدة وهادئة، وبإرادة ووعي من عشرات الآلاف من كوادر الحركة». وأضاف البردويل في تصريحات لقناة «الأقصى» التابعة للحركة: «أن يأتي قائد بحجم يحيى السنوار هذا أمر تحدده قاعدة حماس ووفق القانون والنظام واللوائح المعمول بها. لكن لا ينبغي التركيز على شخصيته دون النظر إلى العملية الكبيرة التي تمت والمؤسسة التي اختارته ليكون قائدا لها».
وقلل البردويل من أهمية ما وصفه بـ«التخوّفات والهواجس التي حاول الإعلام الصهيوني ترويجها وانساق معها البعض، بعد انتخاب السنوار»، وقال: «إنها لا تغني عن حقيقة أن حماس ماضية في طريقها الشوري الديمقراطي ولا تفارق مبادئها ولا أهداف شعبها». ورسم صورة شخصية للسنوار قائلا: «إنه يؤمن بالوحدة الوطنية وبالعلاقات مع الفصائل وهو رجل مصالحة، وعربي يكن لمصر احتراما خاصا»، مضيفا: «هذا سيكون له انعكاسات كبيرة جدا، وسيرى الناس كيف يستحق السنوار أن يكون قائدا لحماس». وتابع: «إنه خلوق وإنسان وصاحب فكاهة، ولن يحدث تغيير سوى في نشاطه».

واشنطن: إرهابي دولي
لم تعقب الولايات المتحدة على فوز يحيى السنوار، لكن كان لها موقف مسبق منه، ففي سبتمبر (أيلول) من عام 2015 أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، إدراجها إياه وعددا من قادة حماس على لائحتها السوداء حيث اتهمتهم بأنهم «إرهابيون دوليون». ويومذاك ضمت القائمة كلاً من صديقه المقرّب روحي مشتهى، وقائد «القسام» محمد الضيف، ووزير الداخلية السابق في حماس فتحي حماد، ومسؤول الجهاد الإسلامي رمضان شلح، ونائبه زياد النخالة.

الإسرائيليون: «شيخ القتلة» مندفع وخطير
قبل انتخاب السنوار اتهمه الإسرائيليون بأنه متشدد وعنيد. ويملي خطا أكثر تشددا على كل حماس، وبعد إعلان فوزه في الانتخابات مسؤولا للحركة في غزة، شنت وسائل إعلام إسرائيلية، حملة كبيرة ضده بوصفه «الأكثر تطرفا»، وتناولت كل تفصيلة ممكنة عنه، ونشرت حتى عن إلمامه باللغة العبرية، وكيف خضع لعملية خطيرة على أيدي أطباء إسرائيليين عندما كان في السجن، باعتبار الأطباء الإسرائيليين «أنقذوا حياته». وعزز وزير الطاقة يوفال شتاينتس المخاوف الإسرائيلية بأن السنوار سيقود المنطقة إلى حرب، بقوله إن المواجهة القادمة مع حركة حماس «هي مسألة وقت ليس إلا». وعد وزير الطاقة، انتخاب السنوار لقيادة حماس بأنه «خطر للغاية بسبب طابعه الاندفاعي»، مضيفا: «كلما تعزّزت مكانته ازداد الخطر الذي يشكله». وتابع: «إنه شخص قد يردّ بشكل هستيري نابع من أوهام جهادية».
وانضم رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، آفي ديختر، للمتشائمين في إسرائيل، ودعا إلى تعزيز القدرات لتدمير البنية التحتية لحماس، بعد وصول السنوار. ووصفه ديختر بأنه «شيخ القتلة»، ثم قال بنبرة تهديد: «خسارة أننا لم نقتل يحيى السنوار، لكن اليوم هو ليس محصنًا».
وباختصار شديد، فإن الانطباع العام في دهاليز القرار الإسرائيلي عن القائد الحماسي، مبني على معرفتهم القريبة بالرجل أثناء التحقيق وعندما كان في السجون لمدة 22 سنة، وكذلك من مواقفه غير المهادنة.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.