خطة للنهوض الثقافي في لبنان تجمع فنانين ووزراء في «قصر اليونيسكو»

القطاع الخاص متحمس للتمويل بالملايين

حين تتناغم الآثار مع الموسيقى في بيت الدين  ({الشرق الأوسط})
حين تتناغم الآثار مع الموسيقى في بيت الدين ({الشرق الأوسط})
TT

خطة للنهوض الثقافي في لبنان تجمع فنانين ووزراء في «قصر اليونيسكو»

حين تتناغم الآثار مع الموسيقى في بيت الدين  ({الشرق الأوسط})
حين تتناغم الآثار مع الموسيقى في بيت الدين ({الشرق الأوسط})

دعت وزارة الثقافة إلى لقاء نادر أليوم، في «قصر اليونيسكو» في بيروت، يجمع سياسيين ومسؤولين في الدولة بمثقفين وفنانين وعلماء آثار وعاملين في مجال التراث والفولكلور والسينما والرقص والمسرح، كما الموسيقى والرسم والمكتبات.
وإذا سارت الأمور، كما هو مرسوم لها، سيكون للبنان وللمرة الأولى، رؤية مستقبلية، وخطة استراتيجية ثقافية لخمس سنوات مقبلة، تشمل كل المجالات الثقافية بما فيها صيانة المباني التراثية، التي تعلو صيحات المجتمع المدني احتجاجاً على التفريط بها.
وبعد فترة طويلة من الجمود، لا بل الشلل السياسي، الذي أرخى بظلاله على عمل وزارة الثقافة وقيامها بمهامها، جاءت لحظة المصالحات، لتجعل العمل بفاعلية ممكناً.
وكانت وزارة الثقافة كلفت شركة لبنانية لإجراء مسح ميداني شامل استغرق ما يقارب السنة، قامت خلالها بالبحث ومقابلة أصحاب الاختصاص، خرجت بعدها بخلاصات، ووضعت اقتراحات لمبادرات، نشرت على موقع الوزارة. واليوم تعرض الخطة الشاملة على المثقفين اللبنانيين الذين يحضرون اللقاء، وتعقد ورش عمل متزامنة، لأهل «الكتابة والتأليف»، و«التراث المنقول»، و«الرقص»، و«التراث غير المادي»، و«الفنون التشكيلية»، و«المسرح والسينما»، و«الموسيقي»، حيث يفتح النقاش، ويستمع إلى المقترحات، وتتم بلورة المقررات التي ترفع إلى وزير الثقافة ثم يعرضها على الحكومة لإقرارها، والبدء بتنفيذها.
يعاني لبنان، من ضعف في إمكانيات وزارة الثقافة المادية وفي هيكلها البشري، مع تشعب الميادين التي هي مسؤولة عنها، في بلد لا تهدأ حركته الثقافية ومبادرات فنانيه.
صالح فروخ، مدير مكتب وزير الثقافة يرى أن «الخطة الاستراتيجية الخمسية» حين تقرّ «فإنها ستؤمن استمرارية العمل، مع تغير الوزراء والعهود»، معتبراً أن «الوقت قد حان ليقتنع الناس بأن لا اقتصاد ولا تنمية دون أن تكون الثقافة هي الداعم الأساسي». هذا عدا «أن الروح الوطنية لا تنمو إلا بمعرفة التراث الوطني. وكلما عرفنا وطننا أكثر أحببناه». وبالتالي فإن تعزيز مكانة المتاحف والآثار وتحفيز المواطنين على زيارتها هو واجب وضرورة.
وكان وزير الثقافة اللبناني غطاس خوري قد قام بزيارة لـ«قصر البيكاديلي» أحد أهم المرافق الثقافية التي لم يعد تشغيلها بعد الحرب، ووعد بعودته إلى الحياة كما وعد بإعادة تأهيل «قصر اليونيسكو» متحدثاً عن تمويلات بملايين الدولارات، كما أن الخطة الاستراتيجية الثقافية الخمسية بتشعباتها التي تشمل المتاحف والمكتبات والمسارح ودار الأوبرا، التي يسعى لإقرارها، تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، في بلد يعاني ديوناً تزيد على 55 مليار دولار. فهل تسعى الوزارة لمشاريع نظرية لن ترى طريقها إلى التنفيذ؟ أم أن النظرة إلى الثقافة في لبنان تغيرت؟ الأسئلة مطروحة بقوة، خصوصاً أن الوزير غطاس خوري يقدم وعوداً لا يعرف، لغاية اللحظة، كيف ستمول؟
مدير مكتب الوزير صالح فروخ، يطمئن إلى أن التوجه الحالي مدعوم على أعلى مستوى، والتصور الذي يتم العمل وفقه آتٍ من رئيس الوزراء سعد الحريري، الذي كان حريصاً رغم انشغالاته الكثيرة على افتتاح «الشهر الفرنكوفوني» بنشاطاته الثقافية، كما أن توزيع «جائزة بيار صادق» لرسم الكاريكاتير تم تحت رعايته.
أما تمويل الخطة الثقافية، فالعمل جارٍ مع القطاع الخاص ليكون شريكاً حقيقياً. ويؤكد فروخ «أن الحماسة موجودة، والاتصالات قائمة، وليس هناك من يسأل عن أرباح ومداخيل، وإنما عن نهوض، لأن هذا سيعود بالفائدة على الجميع. والقطاع الخاص يدرك ذلك جيداً. فحين سيكونون شركاء في إعادة ترميم وتأهيل (قصر اليونيسكو)، وفي إدارته وبرمجة عروضه سيشعرون بالفخر والرضا».
وزارة الثقافة تعوّل على ما تسميه «التشبيك» ومد الجسور مع القطاع الخاص للمساعدة، ومع المثقفين للتشاور وبلورة الأفكار وإطلاق المبادرات. و«المؤتمر التحضيري للخطة الخمسية للنهوض بالثقافة في لبنان» الذي ينعقد اليوم، هو حلقة في سلسلة عمل بدأت مع الوزير السابق روني عريجي، لكن المسار يحتاج وقتاً وعهوداً. والمرحلة الحالية مواتية للدفع بالأمور إلى الأمام، خصوصاً أن بعض المراسيم التنظيمية التي تخص هيكلة وزارة الثقافة والهيئة العامة للمتاحف وهيكلية التوظيف، كانت قد أقرت سابقاً ويمكن أن يبنى عليها لتسريع العمل.
للمرة الأولى، يبدو أن الثقافة تعني الجميع. 9 وزراء مدعوون للمشاركة في المؤتمر؛ وزير الداخلية الذي هو شريك في الحفاظ على المباني التراثية، ووزير الأشغال الذي يفترض أن يمهد البنية التحتية للوصول إلى الأماكن الأثرية والأنشطة التي تقام، ووزير السياحة الذي يفترض أن المهرجانات الفنية من ضمن عمل وزارته، وأيضاً وزير التنمية الإدارية، ووزير الإعلام والشؤون الاجتماعية. وجميعهم بحسب صالح فروخ «يشعرون بأنهم معنيون بما نطرح وهم شركاء معنا».
من بين المشاركين في المؤتمر المديرة التنفيذية لمشروع النهوض بالمكتبة الوطنية جلنار عطوي سعد، الآتية لتتحدث عن الخطوات المتبقية لإعادة افتتاح هذه المكتبة التي هجّرتها الحرب وشتتت محتوياتها، وحرمت اللبنانيين منها، ولا تزال عودتها، رغم استكمال العمل في المبنى قريباً، حلماً بالنسبة لكثير من اللبنانيين. إذ كما تقول عطوي «فإن الأمر يحتاج عودة الكتب وتنظيمها وترتيبها، واستكمال توظيف الكادر البشري الذي بمقدوره خدمة الزائرين والرد على احتياجاتهم».
كلٌ يأتي حاملاً همومه اليوم، إلى «قصر اليونيسكو». الحلم كبير، والآمال كثيرة. فرغم مرور ربع قرن على توقف الحرب الأهلية اللبنانية اللعينة، لا تزال شظايا لم تقتلع من بعض الأبنية والمديريات، مثل «المحفوظات الوطنية» أو «المكتبة الوطنية»، أو «قصر البيكاديلي». الخطة المنوي إقرارها، تتجاوز بيروت، الرؤية تتسع لتشمل كل المناطق، وإعادة تشغيل وتحفيز المراكز الثقافية في البقاع والشمال والجنوب. فالثقافة تذهب إلى الناس حيث هم، وهي التي تجمع وتوحّد وتعزز الإحساس بالهوية. وهو ما يبدو أنه أصبح معلوماً، في وقت تعاني فيه المنطقة من أزمة فكر وانتماء كبيرين.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».