كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

يمنى طريف الخولي تبشر بنموذج إسلامي يسمح بتوطين العلم في ثقافتنا

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟
TT

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

صدر أخيراً، عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع ببيروت، كتاب جديد للدكتورة يمنى طريف الخولي، بعنوان رئيسي: «نحو منهجية علمية إسلامية»، وعنوان فرعي: «توطين العلم في ثقافتنا». والكتاب جاء تتويجاً لمسار الباحثة في مجال «الابستمولوجيا»، مستجيباً هذه المرة، لهموم عالمنا العربي - الإسلامي. فالخولي عملت لسنوات، كأستاذة لفلسفة العلوم بالقاهرة، وكباحثة زائرة في جامعات عربية ودولية، وحصلت على الكثير من الجوائز، ولها رصيد يتجاوز العشرين كتاباً ما بين التأليف والترجمة، ويكفي ذكر عملها عن الفيلسوف الكبير كارل بوبر: «منطق العلم ومنهج العلم»، وترجمة كتابه: «أسطورة الإطار».
تندرج جهود طريف الخولي ضمن مباحث فلسفة العلوم. وقد أشبعت نهمها منها انطلاقاً من بحوث رصينة، حيث تعاملت ولوقت طويل، مع أعمدة فلاسفة العلم في القرن العشرين، أمثال: كارل بوبر وتوماس كون، اللذين شكلا تياراً نظرياً، تحرك عكس النزعة الوضعية، التي لا ترى في العلم إلا مناهجه وطرق اشتغاله من الداخل وآلياتها، ضاربة عرض الحائط الإطار الاجتماعي الذي تجري فيه العملية العلمية. وهذا ما أصبح مرفوضاً. فللعلم تاريخيته وطابعه الاجتماعي. وهو يمارس في إطار حضاري مخصوص. بمعنى آخر، يعد العلم ليس فقط تقنيات معزولة عن السياق المعرفي العام والاجتماعي الخاص، بل هو ينتج معجونا وممزوجا بالثقافة السائدة والمكونة من الاعتقاد والسياسة والأخلاق ومختلف القيم. فيمنى الخولي ستقتنع بضرورة التخلي عن الفكرة الوضعية التي ولى عهدها في الغرب، والتي أعاد إنتاجها كبار الفلاسفة العرب من أمثال زكي نجيب محمود، والتي تحكم على العلم ومنهجيته من خلال ذاته فقط، وكونه بلا وطن أو هوية، إلى وجوب الحكم عليه انطلاقاً من البعد الحضاري والقيمي، خاصة مع ظهور «مفهوم البراديم» الذي نحته توماس كون، في كتابه الذائع «بنية الثورات العلمية». وهو المفهوم الذي زلزل أركان المباحث الفلسفية في العلوم الكلاسيكية، وأبرز أن العلم لا ينفصل أبدا عن شروط إنتاجه السوسيولوجية. هذا المفهوم الذي تعول عليه الخولي كثيراً في كتابها الجديد الذي تترجمه: «بالنموذج الإرشادي»، على الرغم من أن هناك ترجمات أخرى للمفهوم، نراها أقوى (كالنموذج الموجه، الإبدال، المنوال وغير ذلك.
توطين العلم في الثقافة الإسلامية
لا ننكر أن هذا الزمن، الذي نعجز عن ولوجه، هو زمن علمي بامتياز. فمنذ القرن السابع عشر، والثورات العلمية تكتسح كل المجالات، وتحقق كل النجاحات، إلى درجة أصبح «العقل العلمي» طاغياً وكأنه الخيط الناظم لكل تفكير، والخلفية الواعية واللاواعية، الواضحة والمعتمة، الموجهة لرؤية الناس للعالم. إنه كالمستبد والطاغية الذي أصبح الكل يطلب وده ويسعى إلى التقرب منه. فكل البحوث من دون استثناء، تلهث وراء يافطة «علمي» خوفاً من أن لا يعتد بها، ومن ثم يجري إقصاؤها من نادي التنافس المعرفي.
إن عالمنا العربي الإسلامي، وعلى الرغم من كل المجهودات المبذولة فيه، لم يقدر على جعل العلم يمد جذوره إلى أعماق ثقافته. نعم نحن نستهلك المنجزات العلمية وربما أكثر حتى من الغرب، لكن الروح العلمية تكاد تغيب عنّا، والدليل هو عدم مساهمتنا الفعالة والمبدعة في العلم العالمي بإنجازات تذكر. فما السبب في ذلك؟ ولماذا هذا العجز في الانخراط في العلم العالمي بقوة؟ هذا هو الهم الذي حملته يمنى الخولي، واضطرها إلى تأليف كتاب تبرز فيه بعض المعوقات التي تحول دون تغلغل العلم إلى ثنايا ثقافتنا.
تنطلق يمنى الخولي بداية، من ضرورة الاعتراف بتواضع الإسهام في التقدم العلمي من قبل العالم الإسلامي المعاصر. نعم لدينا المجتهدون والمبدعون، وبعض الجامعات الرائدة والعريقة وذات الموقع في التصنيفات العالمية، وكذلك بعض المؤسسات. لكن كل هذه الجهود مشتتة. فنحن مازلنا في مرحلة النقل والاستهلاك (مشتقة من الهلاك)، ولم نحقق بعد، الذات الحضارية مثلما فعلت اليابان ولحقت بها، أو سبقتها الصين، وانضمت إليهما ثقافات أخرى لم تسهم في الحداثة ولكنها استوعبت المنجز العلمي، وهي تقدم اليوم مساهمات في المنجز العالمي المعاصر.
ترى يمنى الخولي، أن الدخول إلى عالم الإضافة والإبداع في العلم والبحث العلمي، لن يتم إلا إذا جرى التفكير في الطرق الكفيلة بتوطين العلم، وجعله جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وليس غريبا عنا. بمعنى آخر، تريد الخولي أن تقول، إن على المثقفين والمتخصصين التفكير في السبل التي يجب أن نسلكها لجعل الروح العلمية تتغلغل إلى مخ عظام العربي- المسلم. أي علينا بذل الجهد لخلق تقاليد إسلامية تمهد لمجتمع العلم. وهنا تستشهد يمنى الخولي بفيلسوف العلم العربي الشهير رشدي راشد، الذي قال إن «المجتمع العلمي يكون موجودا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي، تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي، وتقدم له الخصائص التي تميزه. وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث، لا يبقى سوى كمية من المعلمين وتجمع من التقنيين». وهذا بالضبط ما تريد الخولي القيام به في كتابها الجديد، أي وضع خريطة طريق تسمح، وبعزم، بخلق نموذج إرشادي يمتح أصوله من الثقافة الإسلامية، يمكنه أن يعطي الانطلاقة نحو التقليد العلمي المنشود. فهي قررت عدم العودة إلى الماضي بحثاً عن أسباب التخلف، أو البحث عن تلك النقط المضيئة لكي نحتمي بها. بل قررت على العكس من ذلك، النظر إلى المستقبل، أي البحث عن القوى التي يمكن الاستناد إليها لخلق الحماسة وتوليد الحركة في العقل المسلم. فما هي ملامح هذا «النموذج الإرشادي الإسلامي» الذي تبشر به يمنى الخولي؟
ملامح النموذج العلمي الإسلامي
تعترف يمنى بداية، بأن عملها في اقتحام «العقدة المنهجية» التي تتخبط فيها ثقافتنا، جاءت كتوليف لمجهودات السابقين. وتقصد بالأساس، عمل أو حلم مصطفى عبد الرزاق في تحقيق الذات الحضارية، الذي سيسير في دربه علي سامي النشار. وهو العمل الذي سيفتر ويتحول إلى نقيضه، حين تهيمن الأطروحة الوضعية المنطقية مع زكي نجيب محمود، الذي شد انتباه الباحثين إلى المعاصرة، وزاد من حدتها العمل التنويري القاطع والحاد الذي أنجزه فؤاد زكريا وآخرون. فهذا الموقف الذي يتحرك ما بين الأصالة والمعاصرة، بين الأخذ من الذات ومن الآخر، هو ما شد انتباه الخولي، حيث عملت على التركيب والتوليف المتناغم، عبر المزاوجة بين المنهجية ذات البعد المشترك والمنهجية ذات البعد الخاص. أو بعبارة أخرى، عملت على خلق جدل بين ما هو كوني وما هو خصوصي. وهنا تعلن استفادتها من المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرجينيا منذ 1977.
إن أهم ما استفادت منه يمنى الخولي من الابستمولوجيا المعاصرة، هو أن العلم لم يعد مجرد إجراءات تجريبية عقلية ورياضية، أو مجرد آليات يجري تعلمها. بل هو يحتاج، قبل كل شيء، إلى قوة دافعة تؤخذ من الثقافة السائدة. فالبعد العقدي والنسيج العاطفي والمنظومة القيمية، تولّد في النفوس، الطاقة اللازمة، وتخلق فيها الحماسة الضرورية لانبثاق العلم. باختصار، لكي يتطور العلم يحتاج إلى المشترك الإنساني العام، أي الحصيلة المعرفية الكونية. لكنه يحتاج أيضاً، إلى أن يضخ كل ذلك في إطار الخصوصية الثقافية والواقع الاجتماعي. لهذا ولكي ينطلق العلم عندنا، لا بد من إقحام المنجز العلمي المعاصر في التربة الإسلامية بما يتلاءم ومبادئها وأسسها، وإلا سيكون الأمر كصرخة في واد. بكلمة واحدة، تؤكد الخولي على أن الانطلاق في العلم، يجب أن يكون مربوط الصلة بالماضي. إذ لا ينبغي البدء من دون جذور. وتجسير الهوة بين المشترك الكوني وبين المخزون الثقافي والحضاري، يغدو مطلبا ملحا، وإلا لن نتحرك قيد أنملة في جعل العلم يتشكل كتقليد يسري في كيان الثقافة العربية الإسلامية.
وتبعا لما جرى تحديده أعلاه، يكون المسلم بحسب يمنى الخولي، مطالبا بالاشتغال وفق إطار منهجي إسلامي عام، إن شاء أن لا يحس بالغرابة تجاه العلم، ويمكن تحديد ملامحه كالآتي:
أولاً: الانطلاق من نواة التوحيد. والتوحيد هنا، ليس مجرد مبدأ ميتافيزيقي وحسب، يوفر إمكانية النظام. بل هو أيضاً، مبدأ قيمي، يضفي على البحث العلمي أخلاقيات ومعايير يفتقدها العلم الغربي. فعلاقة المسلم بالعالم، لا ينبغي أن تسير في منحى المنهجية الغربية نفسها، ذات القراءة الوحيدة لكتاب الطبيعة. بل يجب أن تتجاوزها إلى نظرة تكاملية تستحضر قراءة الكتاب المنزل. وهذا الدمج بين القراءتين أي قراءة الكتاب المنظور (الطبيعة) والكتاب المسطور (الوحي)، هو ما سيضفي الخصوصية على العلم الإسلامي المرتقب.
ثانياً: إذا ينبغي على المنهجية الإسلامية الانطلاق من نواة صلبة هي التوحيد، تضمن النظام والأبعاد القيمية، فإنه ينبغي أن تضاف إليها موجهات ومقاصد، هي: مقصد الاستخلاف، أي أداء الأمانة وتحمل المسؤولية في الأرض، ومقصد العمران، أي الاضطلاع بمهام البناء وأعمار الأرض، ومقصد التزكية، أي التطهير وترقية النفس وصون قيمة الحياة.
إذن ترى يمنى الخولي، أن إقحام العلم وتوطينه وإبعاده عن أن يكون غريبا عن ثقافتنا، لن يتحقق إلا إذا تلاءم ومرجعية المسلمين. بعبارة أخرى، على العقل المسلم أن يسدد العلوم الطبيعية، ويخرجها من النزعة الآلية الجافة، كما هي في المنهجية الغربية، نحو إضفاء صبغة الغائية والقيم والمقاصد عليها، ما سيولد لديه الإحساس بالتميز، وكذلك الحافز، والحماسة نحو الاشتغال بما يناسب ميوله وثقافته المتغلغلة في جوفه.
نخلص إلى أن الخولي، تشتغل ضمن السؤال نفسه الطاعن في السن: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ والجواب عندها، يكمن في غياب العلم. لكن الإشكالية الأهم المتفرعة عن السؤال الأول: لماذا لم نفلح في تبيئة العلم وتوطينه، كي يسري في عروق ثقافتنا، ويصبح تقليداً عاماً يسمح بالإبداع؟ الجواب عندها، هو أن الأمر جرى بمعزل عن مراعاة سياقنا الحضاري العقدي والعاطفي والقيمي. فظل العلم عندنا مشتتاً وتقنياً يردده بعض المعلمين فقط، فأضحى غير مستساغ، بل غريباً عنا. فهل نبدأ في وضع مناهج تدمج الكوني بالخصوصي ولو على سبيل التجريب؟



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!