الميناءان، جابهار وغوادر، باتا يهيمنان على المشهد الجيوسياسي الإقليمي في شبه القارة الهندية، بين الهند وباكستان. وتسعى الدولتان إلى إبرام اتفاقيات لتقويض الميناء المنافس.
الميناءان اللذان يفصل بينهما 72 كيلومترًا فقط يشكلان أكثر من مجرد نقطتي تجارة وترانزيت، فهما أيضا نقطتان جيوسياسيتان على درجة بالغة من الأهمية. وفي الوقت الذي تخطط فيه الصين لاستخدام غوادر في الوصول إلى المناطق المائية حول الهند، فإن الأخيرة تطمح إلى استغلال جابهار في الوصول إلى الطرق البرية داخل آسيا الوسطى، لتشكل بذلك تهديدًا تنافسيًا للصين.
تعكف باكستان، بدعم كبير من الصين، على تطوير ميناء غوادر الواقع على مياه دافئة عميقة عند نقطة التقاء البحر العربي وخليج عمان. وفي ظل مشروع الممر الاقتصادي الصيني ـ الباكستاني الطموح الذي تقدر تكلفته بـ46 مليار دولار أميركي، سيخضع الميناء على مدار الأعوام الـ40 المقبلة لإدارة صينية. ويعتبر الممر بمثابة بوابة اقتصادية تمتد لمسافة 3000 كيلومتر تبدأ من إقليم سنغان الصيني الذي يعاني من بعض الاضطرابات والقلاقل مرورًا بباكستان وصولا إلى الشرق الأوسط. ويعتبر هذا الممر طريقًا مختصرًا للوصول إلى المحيط الهندي دون الحاجة للمرور عبر مضيق ملقا الاستراتيجي والمكتظ بالحركة البحرية. ونشرت باكستان 10 آلاف جندي لحماية المشروع، بما في ذلك نحو 600 جندي مخصصين لحماية العمال والموظفين الصينيين ومرافقة الشاحنات عبر إقليم بلوشستان بمجرد أن يبدأ تشغيل الطريق التجاري.
في المقابل، يعتبر جابهار البديل الذي تطرحه الهند لغوادر. وقررت نيودلهي ضخ 20 مليار دولار أميركي في جهود تنمية الميناء في إيران، الذي يجري تطويره باعتباره مركزاً تجارياً هندياً للوصول إلى أسواق آسيا الوسطى، من خلال ربط الهند بأفغانستان دون المرور بالأراضي الباكستانية. كان اتفاق إقامة هذا المشروع قد أبرم عام 2003، لكن تباطأت وتيرة تنفيذه بسبب العقوبات التي فرضت ضد إيران. في ظل قيادة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، تبدو الهند حريصة على إتمام مشروع ميناء جابهار كخطوة مضادة للتغلب على استراتيجية التطويق التي تنتهجها الصين وباكستان تجاه الهند على الجانب الشمالي الغربي منها.
الملاحظ أن جابهار يمد الهند بطريق بري ـ بحري للوصول إلى أفغانستان، التي من المتوقع أن تتحول إلى لاعب محوري بالمنطقة خلال الفترة اللاحقة لانسحاب القوات الغربية منها بصورة كاملة. نيودلهي بدأت تنفق بالفعل أموالا ضخمة على تشييد بنية تحتية في أفغانستان وتنوي تنمية محور أفغاني - إيراني - هندي في المنطقة بهدف مواجهة التحالف الباكستاني - الصيني - على الصعيدين الجيوسياسي والاقتصادي.
ومن المقرر أن ييسر اتفاق جابهار وصول الهند إلى منطقتي الخليج العربي وآسيا الوسطى الغنيتين بالغاز الطبيعي والنفط. وبخلاف تطوير الميناء، تخطط الهند لمد خط أنابيب لنقل النفط والغاز الطبيعي من تركمانستان عبر أفغانستان إلى داخل إيران، ومن هناك إلى كوجارات. وبذلك، تتجنب الهند المرور عبر الأراضي الباكستانية، رغم أن مشروع خط الأنابيب المار عبر تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند يوفر طريقًا أقصر بكثير.
من جانبه، قال مستشار المخاطر الأمنية والسياسية المستقل إندرانيل بانيرجي: «كانت الهند بمثابة سلحفاة في إطار اللعبة الجيوسياسية بآسيا، لكن اتفاق جابهار يوحي بأنها أصبحت منغمسة في اللعبة التي ربما تنتقل رقعتها غدًا إلى صحراء بلوشستان القاسية».
سر أهمية ميناء غوادر للصين
تعتمد الصين بشدة على نفط الخليج العربي، ذلك أن قرابة 70 في المائة من وارداتها النفطية تأتي من هذه المنطقة عن طريق سفن تضطر لقطع مسافة 16 ألف كيلومتر حتى تصل إلى الميناء التجاري الوحيد لدى الصين في شنغهاي. ويستغرق الأمر قرابة ثلاثة شهور كي تنقل النفط من خليج عمان عبر المحيطين الهندي والهادي. أما غوادر فسيساعد الصين على تقليص فترة النقل، مع ضمان ممر آمن في الوقت ذاته، وتدفق مستمر للنفط من الخليج العربي في مختلف الظروف المناخية على مدار العام.
كما أن غوادر سييسر أمام الصين استخدام ذات الطريق في الاتجاه المعاكس لتصدير سلعها إلى الشرق الأوسط وباقي دول العالم في إطار مبادرة «طريق الحرير للقرن الـ21» التي أعلنتها. وعليه، تتحمل بكين قرابة 80 في المائة من تكلفة بناء الميناء.
من جانبه، أعرب غازي حسن، أستاذ الدراسات الدولية في جامعة ميليه إسلامية في نيودلهي: «أصبح الصراع الجيوسياسي متركزًا الآن بدرجة أكبر حول الاقتصاد... ويدرك الجانبان جيدًا أن الحروب والمعارك العسكرية لا طائل من ورائها وتعتبر بمثابة انتحار. أما الانتصار الحقيقي اليوم فيكمن في كبح جماح العدو من خلال صراع قوى يتركز أكثر حول جني مكاسب اقتصادية. وعليه، يجري النظر إلى الموانئ باعتبارها أكثر أهمية من القواعد الجوية في إطار الشؤون الدولية في عصرنا الحاضر».
المخاوف الهندية
يشير الواقع إلى أن غوادر يتفوق على جابهار من حيث الموقع الجيوسياسي. أما جابهار فهو جزء من خليج عمان وليس جزءًا من المحيط الهندي، حيث تتمتع الهند بالهيمنة. إضافة لذلك، تملك باكستان قاعدة بحرية بالمنطقة، الأمر الذي يثير قلق الهند. وحال سماح باكستان للصين بإرساء سفن حربية أو غواصات في ميناء كوادر، فإن هذا سيفاقم من الشعور بعدم الأمان لدى الهند.
إلا أن الحال ربما يختلف بالنسبة للهند، ذلك أن إيران ربما لا تسمح لها باستخدام جابهار لأغراض عسكرية. كما أن الروابط الهندية - الأميركية سيكون لها بالتأكيد تأثير كبير على المفكرين الاستراتيجيين الإيرانيين. كما أن التحالف الهندي - الأميركي داخل المحيط الهندي يناهض المصالح الإيرانية. والملاحظ أن مخاوف الهند من أن الصين تحاول تطويقها يقابلها مخاوف باكستانية من أن الهند تحاول فرض عزلة ضد باكستان داخل فنائها الخلفي. وعليه، فإن جنوب آسيا على موعد مع صعود لعبة قوى جديدة.
من ناحيته، قال شوبهام غوش، الخبير في الشؤون الإقليمية: «من خلال مثل هذه الاتفاقات، تدخل الهند وإيران وأفغانستان في تحد مع الشراكة الاستراتيجية الباكستانية - الصينية داخل المنطقة، وحتمًا سيتزعزع توازن القوى الإقليمي».
ومع ذلك، عند إمعان النظر في الأمر يتضح أن الهند لا تسعى لتحقيق توازن بالقوى، وإنما تسعى لتوسيع نطاق قوتها. والمؤكد أن جابهار لن يشكل منافساً اقتصادياً لغوادر فحسب، وإنما سيؤثر كذلك على الأوضاع الأمنية بالمنطقة.
من ناحيتها، تشعر الصين بالقلق حيال المشاركة الهندية في جابهار. في هذا الصدد، أشارت صحيفة «غلوبال تايمز» المملوكة للدولة الصينية إلى أن: «جابهار لا يمثل سوى قمة جبل الجليد الذي يمثل الطموحات الجيواستراتيجية الهندية».
غوادر له اليد لعليا
يرى خبراء أن غوادر يتفوق على جابهار من حيث مدى النفع والموقع الجغرافي الذي يسمح بالهيمنة على الممرات المائية والقرب من الصين برًا. وأوضح غازي أنه «لا يطل جابهار على المحيط الهندي حيث تتمتع الهند بالعديد من الموانئ العاملة الأخرى مثل مومباي وكلكتا وغوا وتتمتع جميعًا بحماية الأسطول الهندي. من سوء حظ الهند يقع غوادر وجابهار عند نقطتين متقاربتين، في وقت يقع فيه الأول بمنطقة يهيمن عليها الأسطول الباكستاني، الأمر الذي سيظل دومًا مصدر قلق للهند. وحال تسليم ميناء غوادر إلى الصين، ستتفاقم محنة الهند. والمعروف أن باكستان ترتبط بعلاقات طويلة الأمد ووثيقة مع الصين».
مما سبق يتضح أنه حال إدارة باكستان مشروع غوادر بفاعلية، فإنها بذلك ستضمن التواصل الفاعل مع العالم. في المقابل، فإن إخفاقها في ذلك، سيتيح للهند وإيران جني مكاسب كبرى.