«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

غالبية المنهزمين في درنة وسرت وبنغازي فرّوا إلى طرابلس›

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

بدأت عناصر مصرية متشددة خلال الأسبوع الماضي، تتجمّع من جديد في العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي - يوم الجمعة قبل الماضي - عقب افتتاحه على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق» التي يرأسها فايز السراج.
أين كانت هذه العناصر وما الخطوط الفكرية والفقهية التي توافقت حولها، ومَن وراء فتح الطريق لها، ومن يدفع لها أموال الإقامة والتدريب في عاصمة تعمّها الفوضى؟
هل تتذكّرون المتشددين المصريين الذين فرّوا إلى ليبيا عام 2013. عقب الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي؟ كانوا عدة مئات من العناصر الإخوانية وغير الإخوانية الموالية لمرسي، واستقر المقام بهؤلاء في مدينة درنة الليبية التي تقع على بعد نحو 300 كيلومتر من الحدود المصرية.
غير أن الخلافات الفكرية والفقهية سرعان ما عصفت بهذا «الخليط المصري المغترب» الذي كان يضم عناصر من الإخوان ومن تنظيم «أنصار بيت المقدس» الموالي لـ«داعش»، ومن مقاتلين موالين لتنظيم القاعدة. ودبّ الضعف في هذا الخليط القتالي المصري الذي استحوذت أخباره وقتها على وسائل الإعلام، وأخاف المصريين من المستقبل. ولكن في الأسبوع الماضي، بدأت وجوه من هذا الخليط تتجمع من جديد في العاصمة الليبية، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي عقب افتتاحه يوم الجمعة قبل الماضي على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق».
أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» يقول شارحاً إن ما يمكن تسميته بـ«فقه الضرورة» بين «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان» في ليبيا، هو السبب في العودة لتجميع المقاتلين المتشددين المصريين ومحاولة الاستفادة، مشيراً إلى أن غالبية البارزين من هؤلاء من «أنصار بيت المقدس» الذين انتهى بهم طريق الفرار من سيناء إلى طرابلس، مرورا بعدة مدن ليبية، ودول بالمنطقة على خصام مع مصر.
ويوضح مصدر في ميليشيات طرابلس إن غالبية العناصر المتشددة التي وصلت إلى العاصمة الليبية طرابلس في مجموعات صغيرة، في الوقت الراهن، هم من جماعة «أنصار بيت المقدس» التي غيرت اسمها منذ إعلانها مبايعة «داعش» إلى «ولاية سيناء». وكانت الجماعة قد أقدمت، عقب عزل الرئيس السابق مرسي من الحكم، وعقب العصف بألوف من قيادات وكوادر الإخوان المسلمين، على شن حملة من العمليات الدامية استهدفت منشآت عسكرية وأمنية في سيناء وعدة مدن مصرية خارج سيناء.
وأدت الحملة الأمنية المصرية الواسعة ضد تنظيم «أنصار بيت المقدس» أو «ولاية سيناء»، إلى فرار المئات منهم عبر عدة طرق: الأول من سيناء إلى قطاع غزة المجاور حيث يوجد هناك خليط آخر من جماعات متشددة. والثاني، إلى الحدود مع ليبيا، ومنها إلى مدينة درنة التي كانت في ذلك الوقت من عام 2014. معقلاً لتنظيم «أنصار الشريعة» الليبي الموالي لتنظيم القاعدة، والذي كان يقوده في تلك المدينة سجين سابق في غونتانامو يدعى «بن قمو».

خلافات.. وانقسام
لم يكن «بن قمو» يميل إلى «داعش» حين أعلنت قيادات من تنظيم «أنصار الشريعة» في كل من مدينتي درنة وبنغازي، البيعة لـ«الخليفة» المزعوم المقيم في العراق «أبو بكر البغدادي». ومن هنا بدأت الخلافات تدب لأول مرة بين المجموعات المصرية المتشدّدة التي استقرت في درنة. فهل تبايع «داعش» مع المبايعين؟ وما موقف العناصر الإخوانية والقاعدية المصرية التي فرّت معها من مصر؟ ومن هنا وقع الانقسام. غالبية المصريين، وكان عددهم يقدر بنحو ثلاثمائة مقاتل وعشرات الدعاة المتشددين، وجدوا لهم ملاذاً في مدينة بنغازي تحت رعاية قائد تنظيم «أنصار الشريعة» في المدينة، الملقب بـ«الزهاوي»، الذي قتل فيما بعد في معارك التنظيم مع «الجيش الوطني الليبي» الذي يقوده المشير خليفة حفتر.
ووفقاً لشهادة من قيادي في الميليشيات، لم يكن «الزهاوي» يشغل من معه بالخلافات الفقهية، بل كان مندفعاً في طريق واحد، هو الحرب على الجيش الليبي. ولهذا، كما يقول المصدر نفسه، ظلت هناك حالة من انعدام التوافق بين «بن قمو» في درنة، و«الزهاوي» في بنغازي، حتى مقتل الأخير في معركة مطار بنينا (بنغازي)، رغم أنهما كانا يقودان تنظيم «أنصار الشريعة» نفسه. وفيما بعد اتضح أن عناصر «أنصار الشريعة» في درنة كانوا قد انقسموا في الولاء بين «داعش» و«القاعدة». وأدى مقتل «الزهاوي»، ومحاصرة الجيش الليبي كلاً من درنة وبنغازي، إلى ضياع بوصلة المتشددين المصريين الوافدين، وذوبان معظم هؤلاء في مجاميع ليبية وأجنبية متذبذبة في الولاءات بين هذا التوجه وذاك.
استمر هذا الأمر إلى أن بدأ تنظيم داعش يعلن عن تأسيس أكبر مركز له في شمال أفريقيا، في مدينة سرت بالشمال الأوسط من ليبيا في أواخر 2014. وارتكب التنظيم في سرت أول عملية فظيعة صدمت العالم، وذلك حين أقدم على اختطاف وذبح 21 مصرياً مسيحياً. وعلى الأثر تعرض لضربات من الطيران المصري، في مطلع 2015. طالت مواقع كان ما زال يحتفظ بها في جبال محيطة بمدينة درنة. وهنا، كما يكشف مصدر من جهاز المخابرات في طرابلس، دخل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين على الخط، وقام قيادي ليبي في التنظيم الدولي، وبمساعدة من زعيم في «الجماعة الليبية المقاتلة» التابعة لتنظيم القاعدة، بنقل المصريين، ومعظمهم من «أنصار بيت المقدس» من درنة إلى طرابلس. وكان ذلك في أواخر عام 2015.
غير أن عشرات من هؤلاء المصريين، بمجرد وصولهم إلى العاصمة الليبية حينذاك، تواصلوا مع زعيم «داعش» في طرابلس الملقب بـ«المدهوني». وخصّص لهم «المدهوني» هذا، وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقيا، معسكراً للإقامة فيه في منطق عين زارة في العاصمة، وخصّص لهم رواتب شهرية تتراوح بين 700 دولار و1500 دولار أميركي. ومن ثم منح عدة عشرات منهم لجماعة موالية لـ«داعش» تعمل غربي طرابلس وفي منطقة الرابطة القريبة، تُعرف باسم «جند الحق» يقودها رجل يدعى «رشيد». وازداد عدد الوافدين المصريين، فجرى تشكيل عدة سرايا منهم، من أجل الدفاع عن معقل التنظيم في سرت. وبعدها انقطعت صلة العناصر التي انضوت في هذه السرايا، بكل من التنظيم الدولي لـ«الإخوان» وتنظيم القاعدة. وتعامل معهم إخوان ليبيا والجماعة المقاتلة باعتبارهم «منشقّين».

بعد خسارة سرت
بعد هزيمة «داعش» في سرت، كما يذكر أحد القيادات الأمنية في طرابلس، فرّت العناصر المصرية المتشددة إلى الصحراء وإلى دول في المنطقة، وبدأت تبحث من جديد عن ملاذ آمن. لكن «المدهوني» كان قد غادر إلى العراق، والقيادات الجديدة لـ«داعش ليبيا» ما زالت في طور إعادة التشكيل. ويضيف المصدر نفسه: هنا دخل التنظيم الدولي لـ«الإخوان» ومعه قيادات من «الجماعة الليبية المقاتلة» على الخط، للاستفادة من المقاتلين المصريين على محورين: بالنسبة للمحور الأول، الذي يخص التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، فإنه كان يهدف إلى استخدام العناصر المصرية لصالح خصوم مصر للضغط على القاهرة، والتهديد بهم كذراع يمكن أن تنفذ أعمال عنف، ليس في سيناء فقط، ولكن في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية. أما المحوَر الثاني، فيتعلّق بـ«الجماعة الليبية المقاتلة» التي كانت تعاني من نقص في عدد المقاتلين، خاصة بعدما انقسم قادتها بين موالين لـ«حكومة التوافق» برئاسة فايز السراج، وموالين لـ«حكومة الإنقاذ» بقيادة خليفة الغويل.
لكن المصدر يضيف موضحاً: بشكل عام، بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتوقع ظهور سياسة أميركية صارمة تجاه الجماعات المسلحة في طرابلس، أصبحت هذه الجماعات تبحث عن طرق لزيادة أعدادها، بغية استعراض القوة. وفي المقابل، يسعى المقاتلون الأجانب، ومنهم «أنصار بيت المقدس» وغيرهم، إلى إيجاد مصادر للتمويل من أجل الاستمرار في العمل. بالطبع كل له أهداف بعيدة عن الآخر، لكن الظروف تجعل كل هذه المجاميع تستفيد من بعضها بعضا بقدر الإمكان. ويكشف مصدر أمني آخر أن قياديا ليبياً في التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، وآخر في «الجماعة الليبية المقاتلة»، قاما خلال الشهر الماضي بالإشراف على تجميع المصريين الفارين من سرت وبنغازي، في مقار بمدينة صبراتة، غرب طرابلس وعلى مقربة من الحدود الليبية مع تونس، مشيراً إلى أن هذه المنطقة أصبح ينشط فيها أيضا القادة الجدد لتنظيم «داعش ليبيا»، وهم أربعة جاءوا لإصلاح أوضاع «داعش» بعد فشل «المدهوني» في الحفاظ على سرت. وتابع مفصلاً: وجود أربع قيادات لـ«داعش» في صبراتة والزاوية وغرب طرابلس، أعاد مخاوف الإخوان والمقاتلة من انضمام المصريين إلى «داعش» من جديد، خاصة أن أحد القيادات الداعشية الأربعة الجديدة، مصري الجنسية. ولهذا بدأت خطة سريعة لإبعادهم عن صبراتة وإيجاد مناطق آمنة لهم في طرابلس. ووفقاً للمصدر نفسه، جرت عملية تجميع المصريين في غرب طرابلس منذ نحو عشرة أيام، داخل معسكر في منطقة الحرشة بمدينة الزاوية (قرب طرابلس)، وتم جلب عشرات المقاتلين المصريين الآخرين الذين كانوا قد فروا من درنة وسرت وبنغازي، إلى خارج ليبيا. و«يوم الأربعاء الماضي دخل بالفعل 30 عنصراً مصرياً من (أنصار بيت المقدس) متسللين عبر الحدود من تونس. وهؤلاء كانوا قد فروا من ليبيا إلى العراق وسوريا عقب هزيمة «داعش» في سرت». ويضيف أن «أنصار بيت المقدس»، رغم رعاية قيادات من الإخوان و«الجماعة الليبية المقاتلة» لهم في ليبيا، من جديد، فإنهم ما زالوا على تواصل مع تنظيم داعش.
ويتابع المصدر: «مثلاً،.. حين كان العناصر الثلاثون في طريقهم من الحدود التونسية إلى طرابلس، فإنهم عرّجوا على صبراتة، والتقوا هناك بأحد القيادات الأربع للدواعش، وهو تونسي ملقّب بـ(أبو حيدرة)، قبل أن يواصلوا طريقهم إلى طرابلس. وتسبب هذا بمخاوف من أن تعود جماعة أنصار بيت المقدس إلى العمل مع (داعش ليبيا) مجدداً، في حال تمكنها من إيجاد مواضع لأقدامها في العاصمة».

«كتيبة الفاروق»
من ناحية أخرى، خصّصت يوم الجمعة الماضي خمس حافلات لاستقبال دفعة جديدة من «أنصار بيت المقدس» الآتين من خارج ليبيا عبر طائرة حطت في مطار طرابلس بعد أيام من افتتاحه. ونقلت الحافلات هؤلاء من المطار إلى مقر يقع على طريق السواني في العاصمة، منحه زعيم في «كتيبة الفاروق» الداعشية، لجماعة الإخوان. ومن المقرر أن ينضم هؤلاء إلى ميليشيات موالية للقاعدة ومناوئة لحكومة السراج.
ويعود تقارب الخطوط بين التنظيمات المتطرفة، خاصة «داعش» والقاعدة، إلى رسالة قديمة تعود لعام 2015 لزعيم في مقر «داعش» في العراق وسوريا، هو «أبو محمد المقدسي»، كان يريد فيها إبعاد الخلافات «النظرية والشرعية» بين التنظيمين المتشددين، خاصة بعد تفاقم الصراع بينهما في سوريا. وخلال الأيام الماضية، في خضم الفوضى في أوساط الجماعات المسلحة في ليبيا، عاد الحديث عن نظرية «المقدسي»، إلا أن أنصاراً في تنظيم القاعدة في ليبيا ما زالوا يتعاملون مع هذه المحاولة باعتبارها «تكتيكاً «داعشياً» جديد للاستقطاب والتوسع، وأنها «في الحقيقة لا أساس لها في الواقع».
وهنا يقول أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» إن «ما يحدث هو أن بعض القيادات التي ما زالت موالية للظواهري (زعيم القاعدة) تشعر بأنها أصبحت تفتقر للقوة في ليبيا... ولهذا ليس لديها مانع من التحالف مع (داعش). أما (داعش) وأنصار بيت المقدس (الغرباء عن ليبيا) فيرون أنهم في حاجة لمثل هذه القيادات المحلية سواء من القاعدة أو من الإخوان، من أجل التغلغل داخل البلاد التي يجهلون تركيبتها وتعقيداتها. والخلاصة، أن كل فريق يعين الآخر، لكن لكل طريقه الخاص في نهاية المطاف».
ووفقاً لمصدر في جهاز مخابرات طرابلس، الضعيف الإمكانيات، حرصت جماعة الإخوان الليبية على وضع المقاتلين المصريين من «أنصار بيت المقدس»، وذوي الخبرة القتالية في مقرات جديدة بالعاصمة طرابلس، على أن يصار إلى توظيف غير المدرّبين منهم في أعمال الخدمة العادية كالبناء والطبخ والغسيل، مع إخضاعهم لدورات التدريب لاحقاً. ومن المرجح أن يكون قد وصل عدد هؤلاء الآن إلى نحو 500 مصري.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».