«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

غالبية المنهزمين في درنة وسرت وبنغازي فرّوا إلى طرابلس›

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

بدأت عناصر مصرية متشددة خلال الأسبوع الماضي، تتجمّع من جديد في العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي - يوم الجمعة قبل الماضي - عقب افتتاحه على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق» التي يرأسها فايز السراج.
أين كانت هذه العناصر وما الخطوط الفكرية والفقهية التي توافقت حولها، ومَن وراء فتح الطريق لها، ومن يدفع لها أموال الإقامة والتدريب في عاصمة تعمّها الفوضى؟
هل تتذكّرون المتشددين المصريين الذين فرّوا إلى ليبيا عام 2013. عقب الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي؟ كانوا عدة مئات من العناصر الإخوانية وغير الإخوانية الموالية لمرسي، واستقر المقام بهؤلاء في مدينة درنة الليبية التي تقع على بعد نحو 300 كيلومتر من الحدود المصرية.
غير أن الخلافات الفكرية والفقهية سرعان ما عصفت بهذا «الخليط المصري المغترب» الذي كان يضم عناصر من الإخوان ومن تنظيم «أنصار بيت المقدس» الموالي لـ«داعش»، ومن مقاتلين موالين لتنظيم القاعدة. ودبّ الضعف في هذا الخليط القتالي المصري الذي استحوذت أخباره وقتها على وسائل الإعلام، وأخاف المصريين من المستقبل. ولكن في الأسبوع الماضي، بدأت وجوه من هذا الخليط تتجمع من جديد في العاصمة الليبية، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي عقب افتتاحه يوم الجمعة قبل الماضي على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق».
أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» يقول شارحاً إن ما يمكن تسميته بـ«فقه الضرورة» بين «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان» في ليبيا، هو السبب في العودة لتجميع المقاتلين المتشددين المصريين ومحاولة الاستفادة، مشيراً إلى أن غالبية البارزين من هؤلاء من «أنصار بيت المقدس» الذين انتهى بهم طريق الفرار من سيناء إلى طرابلس، مرورا بعدة مدن ليبية، ودول بالمنطقة على خصام مع مصر.
ويوضح مصدر في ميليشيات طرابلس إن غالبية العناصر المتشددة التي وصلت إلى العاصمة الليبية طرابلس في مجموعات صغيرة، في الوقت الراهن، هم من جماعة «أنصار بيت المقدس» التي غيرت اسمها منذ إعلانها مبايعة «داعش» إلى «ولاية سيناء». وكانت الجماعة قد أقدمت، عقب عزل الرئيس السابق مرسي من الحكم، وعقب العصف بألوف من قيادات وكوادر الإخوان المسلمين، على شن حملة من العمليات الدامية استهدفت منشآت عسكرية وأمنية في سيناء وعدة مدن مصرية خارج سيناء.
وأدت الحملة الأمنية المصرية الواسعة ضد تنظيم «أنصار بيت المقدس» أو «ولاية سيناء»، إلى فرار المئات منهم عبر عدة طرق: الأول من سيناء إلى قطاع غزة المجاور حيث يوجد هناك خليط آخر من جماعات متشددة. والثاني، إلى الحدود مع ليبيا، ومنها إلى مدينة درنة التي كانت في ذلك الوقت من عام 2014. معقلاً لتنظيم «أنصار الشريعة» الليبي الموالي لتنظيم القاعدة، والذي كان يقوده في تلك المدينة سجين سابق في غونتانامو يدعى «بن قمو».

خلافات.. وانقسام
لم يكن «بن قمو» يميل إلى «داعش» حين أعلنت قيادات من تنظيم «أنصار الشريعة» في كل من مدينتي درنة وبنغازي، البيعة لـ«الخليفة» المزعوم المقيم في العراق «أبو بكر البغدادي». ومن هنا بدأت الخلافات تدب لأول مرة بين المجموعات المصرية المتشدّدة التي استقرت في درنة. فهل تبايع «داعش» مع المبايعين؟ وما موقف العناصر الإخوانية والقاعدية المصرية التي فرّت معها من مصر؟ ومن هنا وقع الانقسام. غالبية المصريين، وكان عددهم يقدر بنحو ثلاثمائة مقاتل وعشرات الدعاة المتشددين، وجدوا لهم ملاذاً في مدينة بنغازي تحت رعاية قائد تنظيم «أنصار الشريعة» في المدينة، الملقب بـ«الزهاوي»، الذي قتل فيما بعد في معارك التنظيم مع «الجيش الوطني الليبي» الذي يقوده المشير خليفة حفتر.
ووفقاً لشهادة من قيادي في الميليشيات، لم يكن «الزهاوي» يشغل من معه بالخلافات الفقهية، بل كان مندفعاً في طريق واحد، هو الحرب على الجيش الليبي. ولهذا، كما يقول المصدر نفسه، ظلت هناك حالة من انعدام التوافق بين «بن قمو» في درنة، و«الزهاوي» في بنغازي، حتى مقتل الأخير في معركة مطار بنينا (بنغازي)، رغم أنهما كانا يقودان تنظيم «أنصار الشريعة» نفسه. وفيما بعد اتضح أن عناصر «أنصار الشريعة» في درنة كانوا قد انقسموا في الولاء بين «داعش» و«القاعدة». وأدى مقتل «الزهاوي»، ومحاصرة الجيش الليبي كلاً من درنة وبنغازي، إلى ضياع بوصلة المتشددين المصريين الوافدين، وذوبان معظم هؤلاء في مجاميع ليبية وأجنبية متذبذبة في الولاءات بين هذا التوجه وذاك.
استمر هذا الأمر إلى أن بدأ تنظيم داعش يعلن عن تأسيس أكبر مركز له في شمال أفريقيا، في مدينة سرت بالشمال الأوسط من ليبيا في أواخر 2014. وارتكب التنظيم في سرت أول عملية فظيعة صدمت العالم، وذلك حين أقدم على اختطاف وذبح 21 مصرياً مسيحياً. وعلى الأثر تعرض لضربات من الطيران المصري، في مطلع 2015. طالت مواقع كان ما زال يحتفظ بها في جبال محيطة بمدينة درنة. وهنا، كما يكشف مصدر من جهاز المخابرات في طرابلس، دخل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين على الخط، وقام قيادي ليبي في التنظيم الدولي، وبمساعدة من زعيم في «الجماعة الليبية المقاتلة» التابعة لتنظيم القاعدة، بنقل المصريين، ومعظمهم من «أنصار بيت المقدس» من درنة إلى طرابلس. وكان ذلك في أواخر عام 2015.
غير أن عشرات من هؤلاء المصريين، بمجرد وصولهم إلى العاصمة الليبية حينذاك، تواصلوا مع زعيم «داعش» في طرابلس الملقب بـ«المدهوني». وخصّص لهم «المدهوني» هذا، وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقيا، معسكراً للإقامة فيه في منطق عين زارة في العاصمة، وخصّص لهم رواتب شهرية تتراوح بين 700 دولار و1500 دولار أميركي. ومن ثم منح عدة عشرات منهم لجماعة موالية لـ«داعش» تعمل غربي طرابلس وفي منطقة الرابطة القريبة، تُعرف باسم «جند الحق» يقودها رجل يدعى «رشيد». وازداد عدد الوافدين المصريين، فجرى تشكيل عدة سرايا منهم، من أجل الدفاع عن معقل التنظيم في سرت. وبعدها انقطعت صلة العناصر التي انضوت في هذه السرايا، بكل من التنظيم الدولي لـ«الإخوان» وتنظيم القاعدة. وتعامل معهم إخوان ليبيا والجماعة المقاتلة باعتبارهم «منشقّين».

بعد خسارة سرت
بعد هزيمة «داعش» في سرت، كما يذكر أحد القيادات الأمنية في طرابلس، فرّت العناصر المصرية المتشددة إلى الصحراء وإلى دول في المنطقة، وبدأت تبحث من جديد عن ملاذ آمن. لكن «المدهوني» كان قد غادر إلى العراق، والقيادات الجديدة لـ«داعش ليبيا» ما زالت في طور إعادة التشكيل. ويضيف المصدر نفسه: هنا دخل التنظيم الدولي لـ«الإخوان» ومعه قيادات من «الجماعة الليبية المقاتلة» على الخط، للاستفادة من المقاتلين المصريين على محورين: بالنسبة للمحور الأول، الذي يخص التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، فإنه كان يهدف إلى استخدام العناصر المصرية لصالح خصوم مصر للضغط على القاهرة، والتهديد بهم كذراع يمكن أن تنفذ أعمال عنف، ليس في سيناء فقط، ولكن في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية. أما المحوَر الثاني، فيتعلّق بـ«الجماعة الليبية المقاتلة» التي كانت تعاني من نقص في عدد المقاتلين، خاصة بعدما انقسم قادتها بين موالين لـ«حكومة التوافق» برئاسة فايز السراج، وموالين لـ«حكومة الإنقاذ» بقيادة خليفة الغويل.
لكن المصدر يضيف موضحاً: بشكل عام، بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتوقع ظهور سياسة أميركية صارمة تجاه الجماعات المسلحة في طرابلس، أصبحت هذه الجماعات تبحث عن طرق لزيادة أعدادها، بغية استعراض القوة. وفي المقابل، يسعى المقاتلون الأجانب، ومنهم «أنصار بيت المقدس» وغيرهم، إلى إيجاد مصادر للتمويل من أجل الاستمرار في العمل. بالطبع كل له أهداف بعيدة عن الآخر، لكن الظروف تجعل كل هذه المجاميع تستفيد من بعضها بعضا بقدر الإمكان. ويكشف مصدر أمني آخر أن قياديا ليبياً في التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، وآخر في «الجماعة الليبية المقاتلة»، قاما خلال الشهر الماضي بالإشراف على تجميع المصريين الفارين من سرت وبنغازي، في مقار بمدينة صبراتة، غرب طرابلس وعلى مقربة من الحدود الليبية مع تونس، مشيراً إلى أن هذه المنطقة أصبح ينشط فيها أيضا القادة الجدد لتنظيم «داعش ليبيا»، وهم أربعة جاءوا لإصلاح أوضاع «داعش» بعد فشل «المدهوني» في الحفاظ على سرت. وتابع مفصلاً: وجود أربع قيادات لـ«داعش» في صبراتة والزاوية وغرب طرابلس، أعاد مخاوف الإخوان والمقاتلة من انضمام المصريين إلى «داعش» من جديد، خاصة أن أحد القيادات الداعشية الأربعة الجديدة، مصري الجنسية. ولهذا بدأت خطة سريعة لإبعادهم عن صبراتة وإيجاد مناطق آمنة لهم في طرابلس. ووفقاً للمصدر نفسه، جرت عملية تجميع المصريين في غرب طرابلس منذ نحو عشرة أيام، داخل معسكر في منطقة الحرشة بمدينة الزاوية (قرب طرابلس)، وتم جلب عشرات المقاتلين المصريين الآخرين الذين كانوا قد فروا من درنة وسرت وبنغازي، إلى خارج ليبيا. و«يوم الأربعاء الماضي دخل بالفعل 30 عنصراً مصرياً من (أنصار بيت المقدس) متسللين عبر الحدود من تونس. وهؤلاء كانوا قد فروا من ليبيا إلى العراق وسوريا عقب هزيمة «داعش» في سرت». ويضيف أن «أنصار بيت المقدس»، رغم رعاية قيادات من الإخوان و«الجماعة الليبية المقاتلة» لهم في ليبيا، من جديد، فإنهم ما زالوا على تواصل مع تنظيم داعش.
ويتابع المصدر: «مثلاً،.. حين كان العناصر الثلاثون في طريقهم من الحدود التونسية إلى طرابلس، فإنهم عرّجوا على صبراتة، والتقوا هناك بأحد القيادات الأربع للدواعش، وهو تونسي ملقّب بـ(أبو حيدرة)، قبل أن يواصلوا طريقهم إلى طرابلس. وتسبب هذا بمخاوف من أن تعود جماعة أنصار بيت المقدس إلى العمل مع (داعش ليبيا) مجدداً، في حال تمكنها من إيجاد مواضع لأقدامها في العاصمة».

«كتيبة الفاروق»
من ناحية أخرى، خصّصت يوم الجمعة الماضي خمس حافلات لاستقبال دفعة جديدة من «أنصار بيت المقدس» الآتين من خارج ليبيا عبر طائرة حطت في مطار طرابلس بعد أيام من افتتاحه. ونقلت الحافلات هؤلاء من المطار إلى مقر يقع على طريق السواني في العاصمة، منحه زعيم في «كتيبة الفاروق» الداعشية، لجماعة الإخوان. ومن المقرر أن ينضم هؤلاء إلى ميليشيات موالية للقاعدة ومناوئة لحكومة السراج.
ويعود تقارب الخطوط بين التنظيمات المتطرفة، خاصة «داعش» والقاعدة، إلى رسالة قديمة تعود لعام 2015 لزعيم في مقر «داعش» في العراق وسوريا، هو «أبو محمد المقدسي»، كان يريد فيها إبعاد الخلافات «النظرية والشرعية» بين التنظيمين المتشددين، خاصة بعد تفاقم الصراع بينهما في سوريا. وخلال الأيام الماضية، في خضم الفوضى في أوساط الجماعات المسلحة في ليبيا، عاد الحديث عن نظرية «المقدسي»، إلا أن أنصاراً في تنظيم القاعدة في ليبيا ما زالوا يتعاملون مع هذه المحاولة باعتبارها «تكتيكاً «داعشياً» جديد للاستقطاب والتوسع، وأنها «في الحقيقة لا أساس لها في الواقع».
وهنا يقول أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» إن «ما يحدث هو أن بعض القيادات التي ما زالت موالية للظواهري (زعيم القاعدة) تشعر بأنها أصبحت تفتقر للقوة في ليبيا... ولهذا ليس لديها مانع من التحالف مع (داعش). أما (داعش) وأنصار بيت المقدس (الغرباء عن ليبيا) فيرون أنهم في حاجة لمثل هذه القيادات المحلية سواء من القاعدة أو من الإخوان، من أجل التغلغل داخل البلاد التي يجهلون تركيبتها وتعقيداتها. والخلاصة، أن كل فريق يعين الآخر، لكن لكل طريقه الخاص في نهاية المطاف».
ووفقاً لمصدر في جهاز مخابرات طرابلس، الضعيف الإمكانيات، حرصت جماعة الإخوان الليبية على وضع المقاتلين المصريين من «أنصار بيت المقدس»، وذوي الخبرة القتالية في مقرات جديدة بالعاصمة طرابلس، على أن يصار إلى توظيف غير المدرّبين منهم في أعمال الخدمة العادية كالبناء والطبخ والغسيل، مع إخضاعهم لدورات التدريب لاحقاً. ومن المرجح أن يكون قد وصل عدد هؤلاء الآن إلى نحو 500 مصري.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟