«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

غالبية المنهزمين في درنة وسرت وبنغازي فرّوا إلى طرابلس›

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

بدأت عناصر مصرية متشددة خلال الأسبوع الماضي، تتجمّع من جديد في العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي - يوم الجمعة قبل الماضي - عقب افتتاحه على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق» التي يرأسها فايز السراج.
أين كانت هذه العناصر وما الخطوط الفكرية والفقهية التي توافقت حولها، ومَن وراء فتح الطريق لها، ومن يدفع لها أموال الإقامة والتدريب في عاصمة تعمّها الفوضى؟
هل تتذكّرون المتشددين المصريين الذين فرّوا إلى ليبيا عام 2013. عقب الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي؟ كانوا عدة مئات من العناصر الإخوانية وغير الإخوانية الموالية لمرسي، واستقر المقام بهؤلاء في مدينة درنة الليبية التي تقع على بعد نحو 300 كيلومتر من الحدود المصرية.
غير أن الخلافات الفكرية والفقهية سرعان ما عصفت بهذا «الخليط المصري المغترب» الذي كان يضم عناصر من الإخوان ومن تنظيم «أنصار بيت المقدس» الموالي لـ«داعش»، ومن مقاتلين موالين لتنظيم القاعدة. ودبّ الضعف في هذا الخليط القتالي المصري الذي استحوذت أخباره وقتها على وسائل الإعلام، وأخاف المصريين من المستقبل. ولكن في الأسبوع الماضي، بدأت وجوه من هذا الخليط تتجمع من جديد في العاصمة الليبية، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي عقب افتتاحه يوم الجمعة قبل الماضي على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق».
أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» يقول شارحاً إن ما يمكن تسميته بـ«فقه الضرورة» بين «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان» في ليبيا، هو السبب في العودة لتجميع المقاتلين المتشددين المصريين ومحاولة الاستفادة، مشيراً إلى أن غالبية البارزين من هؤلاء من «أنصار بيت المقدس» الذين انتهى بهم طريق الفرار من سيناء إلى طرابلس، مرورا بعدة مدن ليبية، ودول بالمنطقة على خصام مع مصر.
ويوضح مصدر في ميليشيات طرابلس إن غالبية العناصر المتشددة التي وصلت إلى العاصمة الليبية طرابلس في مجموعات صغيرة، في الوقت الراهن، هم من جماعة «أنصار بيت المقدس» التي غيرت اسمها منذ إعلانها مبايعة «داعش» إلى «ولاية سيناء». وكانت الجماعة قد أقدمت، عقب عزل الرئيس السابق مرسي من الحكم، وعقب العصف بألوف من قيادات وكوادر الإخوان المسلمين، على شن حملة من العمليات الدامية استهدفت منشآت عسكرية وأمنية في سيناء وعدة مدن مصرية خارج سيناء.
وأدت الحملة الأمنية المصرية الواسعة ضد تنظيم «أنصار بيت المقدس» أو «ولاية سيناء»، إلى فرار المئات منهم عبر عدة طرق: الأول من سيناء إلى قطاع غزة المجاور حيث يوجد هناك خليط آخر من جماعات متشددة. والثاني، إلى الحدود مع ليبيا، ومنها إلى مدينة درنة التي كانت في ذلك الوقت من عام 2014. معقلاً لتنظيم «أنصار الشريعة» الليبي الموالي لتنظيم القاعدة، والذي كان يقوده في تلك المدينة سجين سابق في غونتانامو يدعى «بن قمو».

خلافات.. وانقسام
لم يكن «بن قمو» يميل إلى «داعش» حين أعلنت قيادات من تنظيم «أنصار الشريعة» في كل من مدينتي درنة وبنغازي، البيعة لـ«الخليفة» المزعوم المقيم في العراق «أبو بكر البغدادي». ومن هنا بدأت الخلافات تدب لأول مرة بين المجموعات المصرية المتشدّدة التي استقرت في درنة. فهل تبايع «داعش» مع المبايعين؟ وما موقف العناصر الإخوانية والقاعدية المصرية التي فرّت معها من مصر؟ ومن هنا وقع الانقسام. غالبية المصريين، وكان عددهم يقدر بنحو ثلاثمائة مقاتل وعشرات الدعاة المتشددين، وجدوا لهم ملاذاً في مدينة بنغازي تحت رعاية قائد تنظيم «أنصار الشريعة» في المدينة، الملقب بـ«الزهاوي»، الذي قتل فيما بعد في معارك التنظيم مع «الجيش الوطني الليبي» الذي يقوده المشير خليفة حفتر.
ووفقاً لشهادة من قيادي في الميليشيات، لم يكن «الزهاوي» يشغل من معه بالخلافات الفقهية، بل كان مندفعاً في طريق واحد، هو الحرب على الجيش الليبي. ولهذا، كما يقول المصدر نفسه، ظلت هناك حالة من انعدام التوافق بين «بن قمو» في درنة، و«الزهاوي» في بنغازي، حتى مقتل الأخير في معركة مطار بنينا (بنغازي)، رغم أنهما كانا يقودان تنظيم «أنصار الشريعة» نفسه. وفيما بعد اتضح أن عناصر «أنصار الشريعة» في درنة كانوا قد انقسموا في الولاء بين «داعش» و«القاعدة». وأدى مقتل «الزهاوي»، ومحاصرة الجيش الليبي كلاً من درنة وبنغازي، إلى ضياع بوصلة المتشددين المصريين الوافدين، وذوبان معظم هؤلاء في مجاميع ليبية وأجنبية متذبذبة في الولاءات بين هذا التوجه وذاك.
استمر هذا الأمر إلى أن بدأ تنظيم داعش يعلن عن تأسيس أكبر مركز له في شمال أفريقيا، في مدينة سرت بالشمال الأوسط من ليبيا في أواخر 2014. وارتكب التنظيم في سرت أول عملية فظيعة صدمت العالم، وذلك حين أقدم على اختطاف وذبح 21 مصرياً مسيحياً. وعلى الأثر تعرض لضربات من الطيران المصري، في مطلع 2015. طالت مواقع كان ما زال يحتفظ بها في جبال محيطة بمدينة درنة. وهنا، كما يكشف مصدر من جهاز المخابرات في طرابلس، دخل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين على الخط، وقام قيادي ليبي في التنظيم الدولي، وبمساعدة من زعيم في «الجماعة الليبية المقاتلة» التابعة لتنظيم القاعدة، بنقل المصريين، ومعظمهم من «أنصار بيت المقدس» من درنة إلى طرابلس. وكان ذلك في أواخر عام 2015.
غير أن عشرات من هؤلاء المصريين، بمجرد وصولهم إلى العاصمة الليبية حينذاك، تواصلوا مع زعيم «داعش» في طرابلس الملقب بـ«المدهوني». وخصّص لهم «المدهوني» هذا، وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقيا، معسكراً للإقامة فيه في منطق عين زارة في العاصمة، وخصّص لهم رواتب شهرية تتراوح بين 700 دولار و1500 دولار أميركي. ومن ثم منح عدة عشرات منهم لجماعة موالية لـ«داعش» تعمل غربي طرابلس وفي منطقة الرابطة القريبة، تُعرف باسم «جند الحق» يقودها رجل يدعى «رشيد». وازداد عدد الوافدين المصريين، فجرى تشكيل عدة سرايا منهم، من أجل الدفاع عن معقل التنظيم في سرت. وبعدها انقطعت صلة العناصر التي انضوت في هذه السرايا، بكل من التنظيم الدولي لـ«الإخوان» وتنظيم القاعدة. وتعامل معهم إخوان ليبيا والجماعة المقاتلة باعتبارهم «منشقّين».

بعد خسارة سرت
بعد هزيمة «داعش» في سرت، كما يذكر أحد القيادات الأمنية في طرابلس، فرّت العناصر المصرية المتشددة إلى الصحراء وإلى دول في المنطقة، وبدأت تبحث من جديد عن ملاذ آمن. لكن «المدهوني» كان قد غادر إلى العراق، والقيادات الجديدة لـ«داعش ليبيا» ما زالت في طور إعادة التشكيل. ويضيف المصدر نفسه: هنا دخل التنظيم الدولي لـ«الإخوان» ومعه قيادات من «الجماعة الليبية المقاتلة» على الخط، للاستفادة من المقاتلين المصريين على محورين: بالنسبة للمحور الأول، الذي يخص التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، فإنه كان يهدف إلى استخدام العناصر المصرية لصالح خصوم مصر للضغط على القاهرة، والتهديد بهم كذراع يمكن أن تنفذ أعمال عنف، ليس في سيناء فقط، ولكن في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية. أما المحوَر الثاني، فيتعلّق بـ«الجماعة الليبية المقاتلة» التي كانت تعاني من نقص في عدد المقاتلين، خاصة بعدما انقسم قادتها بين موالين لـ«حكومة التوافق» برئاسة فايز السراج، وموالين لـ«حكومة الإنقاذ» بقيادة خليفة الغويل.
لكن المصدر يضيف موضحاً: بشكل عام، بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتوقع ظهور سياسة أميركية صارمة تجاه الجماعات المسلحة في طرابلس، أصبحت هذه الجماعات تبحث عن طرق لزيادة أعدادها، بغية استعراض القوة. وفي المقابل، يسعى المقاتلون الأجانب، ومنهم «أنصار بيت المقدس» وغيرهم، إلى إيجاد مصادر للتمويل من أجل الاستمرار في العمل. بالطبع كل له أهداف بعيدة عن الآخر، لكن الظروف تجعل كل هذه المجاميع تستفيد من بعضها بعضا بقدر الإمكان. ويكشف مصدر أمني آخر أن قياديا ليبياً في التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، وآخر في «الجماعة الليبية المقاتلة»، قاما خلال الشهر الماضي بالإشراف على تجميع المصريين الفارين من سرت وبنغازي، في مقار بمدينة صبراتة، غرب طرابلس وعلى مقربة من الحدود الليبية مع تونس، مشيراً إلى أن هذه المنطقة أصبح ينشط فيها أيضا القادة الجدد لتنظيم «داعش ليبيا»، وهم أربعة جاءوا لإصلاح أوضاع «داعش» بعد فشل «المدهوني» في الحفاظ على سرت. وتابع مفصلاً: وجود أربع قيادات لـ«داعش» في صبراتة والزاوية وغرب طرابلس، أعاد مخاوف الإخوان والمقاتلة من انضمام المصريين إلى «داعش» من جديد، خاصة أن أحد القيادات الداعشية الأربعة الجديدة، مصري الجنسية. ولهذا بدأت خطة سريعة لإبعادهم عن صبراتة وإيجاد مناطق آمنة لهم في طرابلس. ووفقاً للمصدر نفسه، جرت عملية تجميع المصريين في غرب طرابلس منذ نحو عشرة أيام، داخل معسكر في منطقة الحرشة بمدينة الزاوية (قرب طرابلس)، وتم جلب عشرات المقاتلين المصريين الآخرين الذين كانوا قد فروا من درنة وسرت وبنغازي، إلى خارج ليبيا. و«يوم الأربعاء الماضي دخل بالفعل 30 عنصراً مصرياً من (أنصار بيت المقدس) متسللين عبر الحدود من تونس. وهؤلاء كانوا قد فروا من ليبيا إلى العراق وسوريا عقب هزيمة «داعش» في سرت». ويضيف أن «أنصار بيت المقدس»، رغم رعاية قيادات من الإخوان و«الجماعة الليبية المقاتلة» لهم في ليبيا، من جديد، فإنهم ما زالوا على تواصل مع تنظيم داعش.
ويتابع المصدر: «مثلاً،.. حين كان العناصر الثلاثون في طريقهم من الحدود التونسية إلى طرابلس، فإنهم عرّجوا على صبراتة، والتقوا هناك بأحد القيادات الأربع للدواعش، وهو تونسي ملقّب بـ(أبو حيدرة)، قبل أن يواصلوا طريقهم إلى طرابلس. وتسبب هذا بمخاوف من أن تعود جماعة أنصار بيت المقدس إلى العمل مع (داعش ليبيا) مجدداً، في حال تمكنها من إيجاد مواضع لأقدامها في العاصمة».

«كتيبة الفاروق»
من ناحية أخرى، خصّصت يوم الجمعة الماضي خمس حافلات لاستقبال دفعة جديدة من «أنصار بيت المقدس» الآتين من خارج ليبيا عبر طائرة حطت في مطار طرابلس بعد أيام من افتتاحه. ونقلت الحافلات هؤلاء من المطار إلى مقر يقع على طريق السواني في العاصمة، منحه زعيم في «كتيبة الفاروق» الداعشية، لجماعة الإخوان. ومن المقرر أن ينضم هؤلاء إلى ميليشيات موالية للقاعدة ومناوئة لحكومة السراج.
ويعود تقارب الخطوط بين التنظيمات المتطرفة، خاصة «داعش» والقاعدة، إلى رسالة قديمة تعود لعام 2015 لزعيم في مقر «داعش» في العراق وسوريا، هو «أبو محمد المقدسي»، كان يريد فيها إبعاد الخلافات «النظرية والشرعية» بين التنظيمين المتشددين، خاصة بعد تفاقم الصراع بينهما في سوريا. وخلال الأيام الماضية، في خضم الفوضى في أوساط الجماعات المسلحة في ليبيا، عاد الحديث عن نظرية «المقدسي»، إلا أن أنصاراً في تنظيم القاعدة في ليبيا ما زالوا يتعاملون مع هذه المحاولة باعتبارها «تكتيكاً «داعشياً» جديد للاستقطاب والتوسع، وأنها «في الحقيقة لا أساس لها في الواقع».
وهنا يقول أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» إن «ما يحدث هو أن بعض القيادات التي ما زالت موالية للظواهري (زعيم القاعدة) تشعر بأنها أصبحت تفتقر للقوة في ليبيا... ولهذا ليس لديها مانع من التحالف مع (داعش). أما (داعش) وأنصار بيت المقدس (الغرباء عن ليبيا) فيرون أنهم في حاجة لمثل هذه القيادات المحلية سواء من القاعدة أو من الإخوان، من أجل التغلغل داخل البلاد التي يجهلون تركيبتها وتعقيداتها. والخلاصة، أن كل فريق يعين الآخر، لكن لكل طريقه الخاص في نهاية المطاف».
ووفقاً لمصدر في جهاز مخابرات طرابلس، الضعيف الإمكانيات، حرصت جماعة الإخوان الليبية على وضع المقاتلين المصريين من «أنصار بيت المقدس»، وذوي الخبرة القتالية في مقرات جديدة بالعاصمة طرابلس، على أن يصار إلى توظيف غير المدرّبين منهم في أعمال الخدمة العادية كالبناء والطبخ والغسيل، مع إخضاعهم لدورات التدريب لاحقاً. ومن المرجح أن يكون قد وصل عدد هؤلاء الآن إلى نحو 500 مصري.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.