صراعات الطائفة والمرجعية

استراتيجيات الأصولية في الواقع والوعي

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)
TT

صراعات الطائفة والمرجعية

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)

هل أيد الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي رحل يوم 17 فبراير (شباط) الحالي، المراجعات الدينية - السياسية - العنفية في القرن الماضي وباركها، كما كان يؤكد دائمًا مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» الحالي والراحل محمد خليل الحكايمة؟
تخوض الأفكار والجماعات الأصولية دائماً - بهدف التمدد والتجنيد - نوعين غير مباشرين من الصراع، تستهدفهما وتراهن عليهما في مجالين مختلفين، هما: الأول الصراع الطائفي، وهو صراع في الواقع والمجتمعات رهاناً على التوظيف والاحتقان الطائفي، والصدام المجتمعي بين مكوناته، مما يمثل فرصة لها. والثاني صراع الرمز والصورة، حيث تحرص مختلف جماعات التشدد الديني على صناعة رموز وصورة متخيلة مرجعية خاصة بها، بغض النظر عن حقيقتها الفعلية، وتسعى لتهويلها، وتشويه منافسيها وخصومها في الفضاء الديني، أو القضاء عليها عملياً أو معنوياً.
من هنا يمكن تفهم تنازع وصراع أصحاب المراجعات، والرافضين للمراجعات التي شهدها العقد الماضي، شخصية الدكتور عمر عبد الرحمن، الراحل في 17 فبراير الحالي. وهل أيد المراجعات وباركها، كما كان يؤكد دائماً مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة» الحالي، والراحل محمد خليل الحكايمة (توفي سنة 2008)، ولم يوافق مطلقاً على نبذ العنف، أو ترويجه واشتهاره، رغم أنه امتهن الخطابة أكثر مما امتهن العلوم الشرعية، ولم يترك سوى آثار قليلة تمثل سندًا لتنظيمات التشدد نفسها، مثل شهادته في مقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (كلمة حق)، أو بعض فتاواه في تكفير بعض الكتاب أو الاتجاهات؟
الرهان على الصدام الطائفي
أولاً: لم تصعّد أي من جماعات الإرهاب والتطرف العنيف والتشدد، سنية أو شيعية، اجتماعيًا وسياسيًا، إلا من نيران هذا التوظيف الطائفي، وتوظيفًا لاحتقاناته وهواجسه، أو لعبًا ورهانًا مستمرًا على تفجيره، منذ الدعوات المبكرة لمواجهة «التغريب والتنصير» في بدايات القرن الماضي، إلى استهداف الكنائس ودور العبادة في مصر وبعض دول الخليج، وصولاً لما كان الأسبوعين الماضيين من إعلان «داعش» قتل وتصفية عدد من المواطنين المسيحيين في العريش خلال فبراير الحالي، بشكل وحشي. وهو ما يحرج النظام، ويحقق حضورًا إعلاميًا، خصوصًا مع صحوة التنظيم واستعادته نشاطه في شبه جزيرة سيناء. وربما كان استهداف المسيحيين أبعد أثرًا إعلاميًا حتى من استهداف مدينة إيلات بالصواريخ من داخل سيناء، وهو ما تبناه تنظيم داعش في نشره النبأ في الأسبوع الثاني من فبراير نفسه.
وعن التوظيف الطائفي لدى جماعات الإرهاب، واستثمار حاضنته، وتأجيج احتقاناته، يمكننا أن نذكر المحطات والعلامات التالية في هذه الاستراتيجية:
1 - صحوة «داعش» في العراق: تجددت حياة «القاعدة» في العراق من فض اعتصامات الأنبار بالقوة عام 2013، على يد الميليشيات التابعة لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، إذ سيطر «داعش» على الموصل وسائر المحافظات السنية بحجة حماية الطائفة من نير الحشد الشعبي والميلشيات الطائفية الموالية لإيران التي غدت في تصوره تسيطر على العراق. وحقًا كانت لها سوابق عنيفة حتى دور المساجد في ديالى والرمادي وغيرها، وقمع تجاه رموزها وشيوخ عشائرها في الأنبار، بل ونواب وسياسيين من أبناء الطائفة السنية.
2 - صحوة «النصرة» و«داعش» في سوريا: لقد وجدت هذه التنظيمات فرصتها سانحة مع قمع النظام الأسدي للثورة الشعبية المدنية التي ثارت ضده قبل ست سنوات، واستقدم لقمعها ميليشيات «حزب الله» وميليشيات التطرف الشيعي في العراق، مثل لواء أبو الفضل العباس وعصائب الحق، بل والهزارة الأفغانية، منذ الشهور الأولى للثورة، التي كونت فيما بعد لواء «فاطميون»، في مايو (أيار) 2015، وغيرها. وهكذا، أنتجت وبررت لعسكرة و«طوأفة» الثورة منذ أبريل (نيسان) 2012، عبر نصرات مضادة سنية، بدأت بـ«جبهة النصرة» التي انقسمت فيما بعد لـ«داعش» و«النصرة». وهكذا، كان الاحتقان والصراع الطائفي السبب في صحوة «داعش» الذي أعلن خلافته المزعومة فيما بعد، ونجح في استقدام آلاف المقاتلين إلى ساحات الصراع في سوريا والعراق من مختلف أنحاء العالم.
3 - الانقلاب الحوثي قبل «عاصفة الحزم» بسنة: لم يكن غريباً أن بدأت ميليشيات الانقلاب الحوثي حربها وصراعها في قمع سنّيي دماج، في مايو 2014، قبل «عاصفة الحزم» والتحالف العربي الداعم للشرعية بسنة. ولقد ارتكبت في حقهم حينها ما وصفته الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية بجرائم حرب وإبادة جماعية، ثم تلتها بمحافظة عمران السنية، في يونيو (حزيران) 2014، قبل قفزها إلى العاصمة صنعاء، في سبتمبر (أيلول)، ومحاولتها ابتلاع الدولة، بحجة اعتراضها على رفع أسعار البترول حينها، ومطالبتها باستقالة الحكومة التي استقالت رغم ذلك. ولكن لم يقف طموح هذه الميليشيات المسلحة عند هذا الحد، بل أصرت على محاصرة، ثم السيطرة على، مقري الرئاسة ورئاسة الحكومة، ومقدرات البلاد، بعلنية مكشوفة. وراهنت على احتكار الحديث باسم الطائفة، بعدما همشت كل المراجع المعتدلة التي رفضت انحراف الزيدية نحو نظرية الولي الفقيه الإيرانية، التي تمثل النموذج المرجعي لطموح هذه الحركة منذ تأسيسها على يد الراحل حسين الحوثي، الشقيق الأكبر لزعيمها الحالي، الذي تلقى دروسًا له في قُم بإيران، وأقام فيها فترة.
ويتضمن خطاب جماعات التطرف في توظيف الطائفية في هذا الخصوص إنكاراً معلناً ومقصوداً لمفاهيم الوطنية والتعددية التي تنكرها أدبياتها منذ بدايتها حتى الآن، وما يتعلق بها من التعددية والاندماج تاريخاً وتعايشاً وواقعاً. وتصر على حديث الأمة في حال كانت التعددية ملية ودينية، أو «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة»، في حال كانت التعددية مذهبية وفرقًا مختلفة، كما هو الحال في العراق وسوريا. وكلا التوجهين يحاول تهميش مفهوم الوطن والدولة الوطنية لصالح أحلامها الأممية وتوجهها المحدود بطائفتها في الغالب.
راهناً، يبدو أن الاحتقان الطائفي المذهبي، السني - الشيعي، الأكثر اشتعالاً والتهاباً في المنطقة منذ غزو العراق عام 2003. ومع التوسع الإيراني المستمر لنظام الولي الفقيه، وتصدير ثورته الذي يعني نشر وكلائه والميليشيات التابعة له دون دولها الوطنية في عدد من كيانات منطقة الشرق الأوسط. وهي ميليشيات وجماعات دينية متشددة تدعمها دولة، وتتحد في أهدافها، وتنظمها سياسة واحدة و«ولي فقيه»، أو أمير ديني واحد، بعكس الشتات المتطرف السني المرفوض من جميع الدول السنية، ومحل مجابهة منها وصدام معها، ولكن يجد مبرره في الآخر الطائفي والمذهبي التوسعي، وهو ما يمثل خطراً برأيه على الطائفة السنية الغالبة التي يحاول تجنيدها.
كذلك يحضر التوظيف الطائفي الديني في البلدان التي لا تحتوي أقليات مذهبية كبيرة، شأن مصر، حيث تصعد أحداثه من آن لآخر بين المسلمين والمسيحيين، بحوادث من العنف العشوائي تنقلب طائفياً، أو بمحاولة مستمرة من تنظيمات العنف والتطرف، سواء في المنافسات السياسية والانتخابية طوال العقود الأربعة الماضية، أو في عمليات عنف متعمدة ضد الأفراد أو دور العبادة الخاصة بهم.
وفي كل الأحوال، تحقق الطائفية فرصة لتنظيمات التطرف في زعزعة هيبة الدولة، وإحراجها أمام مواطنيها، وثانية هي رهان مستمر على احتمال تفجير تعايش المجتمع وانقسامه، مما يمثل في النهاية فرصة هائلة لها للصعود، وقنص السلطة فيه.
معركة «الرمز» وصناعة النجوم
ثانيًا: تطالعنا منذ أول وهلة في خطاب الجماعات المتشددة تعبيرات فخمة، مثل «الرجل القرآني» و«الإمام الشهيد» و«مجدد الدين» و«العلامة الحبر الفهّامة»، حين تتكلم كل جماعة أصولية عن مؤسسيها وشيوخها وعناصرها والقريبين منها. وهنا تحضر مضامين التضحية والإخلاص والتوسع والعلم الشرعي العميق.
ويمكن أن تستهدف مضامين أخرى أيضًا ترويجًا لعدد من الشيوخ لمجرد فتاوى وإنتاج قليل من الخطب النارية المتطرفة المؤيدة لتوجهات وممارسات هذه الجماعات، رغم أنهم يفتقدون لوزن علمي كبير في مجالاتهم التخصصية.
ومن هذا القبيل، فعلت صورة «الشيخ العالم الضرير» الكثير في دعايات جماعات التطرف العنيف، من الشيخ عمر عبد الرحمن مصريًا بالخصوص، إلى السعودي الشيخ حمود عقلا الشعيبي (المتوفى سنة 2001)، إلى الشيخ الضرير مرشد التشدد في تونس الخطيب الإدريسي (المولود سنة 1955)، الذي مثل دافعاً رئيساً لهجرة الشاب التونسي إلى ساحات «داعش»، والقتال في سوريا والعراق، منذ عام 2014. وكذلك بسهولة يلاحظ اختفاء آثار كتّاب ومفكّرين مهّمين وجهل العامة بهم، بينما برز عبر الوسيط الأصولي من هم أقل منهم عمقاً وفكراً وأدباً، خصوصاً في مجال الفكر الإسلامي والهم الحداثي، بل نجح الهجوم الأصولي المتشدد والعنيف عليهم في إسكات أصواتهم، وانسحابهم الطوعي أو القسري من مجال الكتابة والإبداع، أو العيش انحباساً في دوائر ضيقة فقط، بينما انساح التأثير والنشر والترويج حكراً على رموز الأصولية في أحيان كثيرة.
أيضاً لم تتحقق نجومية الكثيرين إلا بعد تحولهم لاتجاه التنظيمات التي حملته، وقامت به وبمؤلفاته، وحملته على الأعناق، كما كان في حالة الراحل سيد قطب بعد عودته من الولايات المتحدة في صيف عام 1951، إذ استقبلته عناصر جماعة الإخوان في مطار القاهرة حاملين إياه فوق رؤوسهم، ولم يلبث أن تحوّل مفكّرهم ومنظرهم الأول، وبرز حضوره الجدلي في الفكر العربي الحديث بعدها. وهذا بعدما كان سيد قطب يشكو التهميش، وتجاهل أمثال أستاذه عباس محمود العقاد والعميد طه حسين، كما كتب معاتباً لهم في مجلة «الرسالة» في أربعينات القرن الماضي، وتجاهلهم لكتاباته، رغم أنه كان دائم الكتابة والاهتمام بما كتبوه، بينما لم يهتم ببعض أعماله سوى الأستاذ توفيق الحكيم... رحمهم الله. وهو في عتابه لهم كان ثائراً لأنه كتب عن كل كتاباتهم، بينما لم يكتب العميد أو العملاق عن كتبه مرة، في حين يكتبون عن غيره! ولكن بعد التحول والتشدد النظري والتنظيمي الذي انتقل إليه، صار صوته وحضوره أعلى من أساتذته حينها.
وفي السياق نفسه، حسبنا أن نذكر كتيب المتشدد السابق الراحل فارس آل شويل الزهراني (أبو جندل الأزدي)، عن مؤسس «القاعدة» أسامة بن لادن، الذي جعله بعنوان «مجدد الزمان وقاهر الأميركان». وهذا رغم أن المعروف أن بن لادن لم يترك أثراً علمياً، بل خطباً متشددة وحدثية وقائعية، ثم أنه لم يغير واقعاً إلا سلباً، ولم يقهر الأميركان، حسب دعواه.
وفي وثيقة استراتيجية تنظيم «القاعدة» في العراق الثانية، الصادرة أوائل يناير (كانون الثاني) 2010، التي نرى أنها احتوت خطتها التي نفذتها حتى وصولها «خلافة داعش» المزعومة سنة 2014، تتناول أزمة الرمز عندها بعد رحيل أبو مصعب الزرقاوي الذي يوصف بـ«العلامة» و«شيخ المجاهدين» الآن في أدبياتها، ورحيل قائديها السابقين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر الذي كانوا يصفونه بالدهاء الشديد أيضاً، رغم أن عارفيه شأن أبي عبد الله المنصور، شيخ «جيش المجاهدين»، يؤكدون أنه كان أسير الرؤى والنبوءات، كما كان حال بعض قادة حركة العدالة والإحسان المغاربية قبل أعوام!
ولكن في المقابل، يتجاهلون وهم يصفون الزرقاوي بما يصفونه به من العلم ما انتقد به من شيوخه في الأردن، شأن المقدسي فترة، أو ما انتقد به من شيوخ «القاعدة» نفسها، أو أنه دخل السجن فترة بجرائم سرقة وسطو في موطنه الأصلي، مصرين على ترويج صورة محددة تسكن وجدان المنتمي، وتغري اللامنتمي، ليس غير.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».