75 عاماً... و«الغريب» ما زال غريباً

ألبير كامو... كأنه «لا وعي» فرنسا في احتلالها للجزائر

ألبير كامو - غلاف «الغريب» بالفرنسية
ألبير كامو - غلاف «الغريب» بالفرنسية
TT

75 عاماً... و«الغريب» ما زال غريباً

ألبير كامو - غلاف «الغريب» بالفرنسية
ألبير كامو - غلاف «الغريب» بالفرنسية

خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالميّة الثانية وصلت إلى الولايات المتحدة تقارير من باريس عن كاتب فرنسي - جزائري شاب اسمه ألبير كامو، قيل إنه موهبة روائية مذهلة أبرقت إبداعا أدبيا في زمنٍ جد وجيز في فضاء السوق الفرنسية.
قرر الناشران بلانشيه وألفريد كنوف الحصول على حقوق ترجمة وطبع رواية كامو الثانية «الطاعون» في الولايات المتحدة، لكن الفرنسيين اشترطوا للقبول أن تُنشرَ «الغريب» أيضاً، وإلا فلن تكون «الطاعون» من نصيبهما. لم ير الناقد الأدبي لدى الناشرين أي قيمة استثنائية في «الغريب»، وتوقع ألا تحظى بقبول القراء. لكن الناشرين كانا حريصين للغاية بنشر «الطاعون»، وهكذا انزلقت «الغريب» إلى طريقها للسطوع في العالم الأنجلوساكسوني.
الطبعة الأميركيّة من «الطاعون» تكللّت بنجاحٍ مدوي وحظيت بتقريظ النقاد، لكن «الغريب» - تلك الرواية القليلة الصفحات الذي وُصِمَ بها الشكل الأدبي السائد في فرنسا الحرب العالمية الثانيّة، حيث أزمة الورق - كانت بمثابة زلزال من النجاح الأدبي الفائق لكل التصورات، فباعت ملايين النسخ وتحولت لتُشكِلَ نبع إلهامٍ لجيلٍ كاملٍ في الغرب يعيش أجواء الاغتراب النفسي والاجتماعي ما بعد الحرب، واعتبرت في أوساط المثقفين بمثابة إنجيلٍ للفلسفة الوجوديّة، وقراءة لازمة لفهم السياقات الاجتماعيّة في مرحلة الحداثة بالذات.
ألبير كامو، الكاتب المغمور وقتها، كان عاش فقيرا ويتيما في الجزائر أيام السيطرة الإمبرياليّة الفرنسيّة، وكاد أن يواجه الموت وهو في السابعة عشرة من عمره بعد إصابته بالسل. وقد بدأ مسيرته في الكتابة كمراسل صحافي يكتب أخبار المحاكم لصحف الجزائر الناطقة بالفرنسيّة، فعاقر عن قرب المظالم التي كان يعانيها السكان المحليّون. «الغريب» كانت أول أعماله المنشورة، لكنه كتب قبلها نصا روائيا بعنوان «موتٌ سعيدٌ»، أهمله كامو، ونُشر بعد أكثر من عشر سنوات على موته المبكر في حادث سيارة عن 46 عاماً. قرأ أندريه مالرو مسودة نص «الغريب» فكتب لصاحب جيلمار - أهم دار نشر باريسيّة: «برجاء الانتباه، في رأيي هذا الكاتب سيكون مهما للغاية». بالطبع لا أحد كان يقول لا لمالرو في باريس، فنشرت «الغريب» في 1942، وكامو وقتها في الثامنة والعشرين من العمر. لاقت الرواية في البداية قبولاً حذراً، لكنها شيئا فشيئا بدأت بالانتشار، لا سيما بعد نشرها بالإنجليزية في كل من لندن ونيويورك، وبعد أن تحدث عنها صديقه جان بول سارتر بوصفها «تُبدع في توظيف الكلمات للتعبير بالصمت»، لتصبح أكثر الرّوايات الشعبيّة مبيعا في القرن العشرين. جعلت «الغريب» من ألبير كامو نجما برّاقا في كل صحف العالم، وما لبثت الأكاديمية السويدية أن منحته جائزة نوبل للآداب عام 1957 ذاكرة في بيانها حينذاك «الغريب» بوصفها إحدى ثلاث روايات جعلت كاتبها يستحق هذا التكريم. اليوم وبعد 75 عاما من نشرها في باريس عام 1942 ما تزال «الغريب» نجمة عالم الرواية، حتى إن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش دافع عن نفسه عندما اتهمه الصحافيون بوصفِهِ خفيف الوزن ثقافيّا بأنهم مخطئون، «فأنا أقرا الآن مثلا رواية (الغريب)»، وهي ترجمت إلى ستين لغة من لغات العالم الحيّة (بما فيها عدة ترجمات بالعربيّة) وألهمت عملين سينمائيين، وأغنية مشهورة، وأعادت جيلمار تقديمها في نسخة رسوم غرافيكس متسلسلة.
تبدأ الرواية بنص صادم صار من أشهر المقاطع الأدبيّة في تاريخ الأدب العالمي: «ماتت أمي اليوم. أو ربما أمس، لست أدري»، وهي تطرح - من خلال لغة صريحة برّاقة تجاوزت التكلف المعهود في النصوص الفرنسيّة السابقة - قضايا إنسانيّة خالدة: كالهويّة الفرديّة، المسؤوليّة الشخصيّة، قضايا العرق، الدّين، النسويّة، العنف المجاني، الخوف من الموت، وعقوبة الإعدام، لكن أهمها على الإطلاق مسألة الاختلاف. عن ذلك يقول ألبير كامو: «إن (باتريس ما رسو) بطل (الغريب) قد أُدين من قِبل مجتمعه لأنه لم يجارِ ذلك المجتمع في لعبته. هو كان غريبا ليس لأنه كان مختلفا أو يعيش على هامش المجتمع، بل لأنه لا يقدر على الادعاء الكاذب. الكذب ليس فقط في عدم قول الحقيقة، بل ربما أكثر في قول ما هو أكثر من الحقيقة المحضة. في أمور القلب، ذلك يعني أن تقول أبعد مما تشعر به كي ترضي الآخرين من حولك. مارسو كان غريبا لأنه رفض الاندماج في هذه الكذبة الجماعيّة، فأحس المجتمع نحوه بالتهديد المباشر، وكان قرار الإعدام». كامو متلاصِق عاطفيا مع مارسو «لأنه من دون العيش مع حقيقة مشاعرنا، لن نتمكن يوما من الانتصار على ذواتنا، وسنبقى خاضعين للعالم من حولنا».
ترقص رواية «الغريب» على أطراف العلاقة بين الشرق والغرب. كامو نفسه نتاج تجربة الإمبرياليّة الفرنسيّة في الجزائر، وشهد مخاضات الثورة الجزائريّة التي لفظت الهويّة الفرنسيّة على بحر من الدّماء. ومارسو بطل الرّواية - كأنه كامو ذاته - فرنسي الثقافة، يعيش داخل محيط مفرنس في إطار عربي نقيض، ضحيّة نوعا ما، معادٍ ومختلف، ولذا فقد عدّها البعض غير بريئة من النفس الاستشراقي كما وصفه إدوارد سعيد لاحقا، الّذي تحدث عن مسألة تجهيل الشخصيات العربيّة في الرواية «تلك الكائنات المجهولة التي يقتصر دورها على لعب الخلفيّة لميتافيزيقيات كامو»، معتبرا أن «الغريب» ترتبط من وجهة نظر تاريخية بعلاقة خضوع للمشروع الاستعماري الفرنسي نفسه وتنفي فكرة استقلال الجزائر نفياً تاماً»، وأنه ينبغي النظر إلى الرواية «بوصفها عنصرا من العناصر التي تقرأ فضاء الجزائر تماما كما شكلته فرنسا الإمبرياليّة بطريقة منهجية منظمة». وكتب المؤرخ الفرنسي بيار نورا «مارسو، بقتله للعربي، يمثل لا وعي فرنسا في احتلالها للجزائر. لقد كانوا يريدون الأرض مع التخلص من أهلها الأصليين». وقد عارض «الغريب» بعد سبعين عاما من كتابتها كمال داود الكاتب الجزائري الذي يكتب بالفرنسيّة في روايته «التحقيق في قضيّة مارسو» التي أعادت سرد أحداث «الغريب» من وجهة نظر شقيق الشاب العربي - عديم الاسم في الرواية - والذي كان قتله مارسو بخمس رصاصات، وتسببت على نحو ما بإعادة قراءة تراث كامو من زاوية مختلفة - المثقف المنحرف المستخف بالآخر العاجز حتى عن إعطاء أهل البلاد الأصليين أسماء.
مع ذلك، تبقى «الغريب» عملا كلاسيكيا استثنائيا. الأعمال الكلاسيكيّة في الأدب لا تحدث بمحض المصادفة، فهي تشترط معالجة مسائل تتسم براهنيّة عابرة للعصور، لكن شرط وجودها نتاج تراكم ظروف تاريخيّة واجتماعية واقتصادية وثقافيّة تتقاطع معا في خلق المناخ اللازم لموهبة عبقريّة تُنجب نصا سرمدياً. ستستمر رواية «الغريب» مقروءة ما دامت البشرية تقرا الروايات، ربما لأن كامو عاش تجربة جدّ عميقة وفريدة في الجزائر، وتشرب الثقافة الأوروبيّة وأفكار اليسار، وانتقل بعدها إلى باريس وقت الحرب، مُلتحِقا بالمقاومة، كاتبا في جريدتها، ولقي نصّه طريقا إلى أهم دار نشر في فرنسا، وقيّمته قامة أدبيّة مثل مالرو، كل هذه التلازمات التقت مع جمهور فرنسي متعطش لأعمال تطرح أسئلة الهوية والوجود، في أجواء من انتشار الفلسفة الوجوديّة بين الجيل الطالع، ثم توفر على ناشرين أميركيين متحمسين. وهكذا، في أيامنا هذه، تكتسب «الغريب» سحرا إضافيّا وراهنية استثنائية، في ظل تصاعد مشاعر العنصريّة البغيضة ضد كل من هم مختلفين عن مجتمع الغرب، واستثمار السياسيين الشعبويين هذه الأجواء للصعود على أكتاف ديمقراطيّة مزعومة نحو السّلطة. فإذا كنت تنحدر من أصول أجنبيّة في الغرب، لا يعود مهما اليوم حقيقة مشاعرك أو سلوكك أو حتى معتقداتك، فقد تم تصنيفك كـ«غريب» ربما قبل أن تولد، وستدفع الثمن عن هذا الاختلاف بطريقة أو أخرى.
«البحث عن الغريب» كتاب ممتع وضعته الأستاذة والناقدة الأدبيّة أليس كابلان، وصدر حديثا عن مطبعة جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة توازيا مع الاحتفال بالذكرى الماسيّة لصدور رواية «الغريب»، وتروي فيه رحلة الأقدار الغريبة التي جعلت من هذا النص القصير عملا أدبيا عابرا للأجيال بين الجزائر وفرنسا والولايات المتحدة. «الغريب يكاد يكون هو كامو ذاته» تقول كابلان، «وقصته تتطابق مع غربة كامو في بيته، وفي الجزائر، وفي فرنسا وفي الغرب وفي العالم كلّه».
لا شك، إنها قصّة كل من يحاول أن يتصالح مع حقيقة وجوده الذاتي، دون أن يخضع لحكم المجتمع الذي لا يرحم. مارسو هو كامو، وكامو هو كل «غريب» منا. إنه كوكب الغرباء.



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).