محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد

من اللجوء لأميركا إلى سدة الحكم في مقديشو

محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد
TT

محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد

محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد

انتُخب محمد عبد الله فرماجو رئيسًا للصومال، يوم 8 فبراير (شباط) الحالي، بعدما حصل على 56 في المائة من أصوات نواب البرلمان، البالغ عددهم 329 نائبًا، على أقرب منافسيه، وهو الرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود الذي حصل على 28 في المائة فقط. وعلى الأثر، انسحب شيخ محمود مقرًا بالهزيمة، وغدا فرماجو أول رئيس من صوماليي المهجر (الدياسبورا) يتولى الرئاسة في البلاد. ولقد تزامن انتخاب الرئيس الجديد، الذي يحمل الجنسية الأميركية، مع الجدل الذي أثارته القرارات التنفيذية التي اتخذها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب بمنع مواطني سبع دول إسلامية (بينها الصومال) من دخول الولايات المتحدة.
يتوّج فوز محمد عبد الله فرماجو (54 سنة) برئاسة جمهورية الصومال مسيرة حياة سياسية قصيرة نسبيًا، بعد اغتراب طويل في الولايات المتحدة التي دخلها وهو دبلوماسي شاب، عام 1985. ثم مكث فيها لاجئًا لمدة 25 سنة، عاد بعدها ليُعين رئيسًا للوزراء في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، واستقال من المنصب في يونيو (حزيران) 2011. وعاد بعدها بعام ليترشح للرئاسة في 2012، لكنه جاء سابعًا بـ5 في المائة فقط من أصوات النواب، لكنه عوضها هذه المرة حاصدًا 56 في المائة من الأصوات، ليصبح الرئيس التاسع للجمهورية الصومالية.
ولد محمد عبد الله محمد فرماجو في حي بونطيري الشعبي، في العاصمة مقديشو، عام 1962. وكان أبوه قد هاجر إلى مقديشو في بداية الخمسينات من القرن الماضي، واستقر فيها متنقلاً بين أكثر من وظيفة حكومية مدنية. ويحمل الرئيس الصومالي الجديد لقب أبيه «فرماجو» Fromaggio، وهي كلمة إيطالية معناها «الجبنة»، لكنها بعدما دخلت القاموس الصومالي، صارت مرادفًا لـ«المحبوب» أو «الحلوى». وتختلف الروايات حول سبب التسمية، منها أن أبا الرئيس كان يحب الجبنة التي أدخلها الإيطاليون إلى الصومال، ومنها أيضًا أن الرجل كان صاحب شخصية لطيفة ومحبوبة، فلقب بـ«فرماجو»، وغلب اللقب على اسم العائلة منذ ذلك الوقت.
الصغير محمد ألحقه أبوه مدرسة تابعة للجيش الصومالي، يدرس فيها أبناء المحاربين القدامى. ومع أن الأب كان من الطبقة المتوسطة، فإنه اختار إلحاق ابنه البكر بمدارس أبناء المحاربين القدامى، ليكسبه روح الجندية. لكن الابن لم يلتحق بالجيش، بل حصل بعد تخرجه من الثانوية، وأدائه الخدمة العسكرية الإلزامية، على وظيفة في وزارة الخارجية الصومالية، عام 1982. وأمضى 3 سنوات في أروقة الوزارة بمقديشو، عيّن بعدها سكرتيرًا أول في السفارة الصومالية بواشنطن. وفعلاً، عمل 4 سنوات في العاصمة الأميركية، لكنه اختلف مع النظام عام 1989، وقرّر البقاء في الولايات المتحدة طالبًا اللجوء السياسي، وحصل لاحقًا على الجنسية الأميركية.

الحقبة الأميركية
بعد حصول فرماجو على اللجوء السياسي، انتقل إلى ولاية نيويورك، وتحديدًا مدينة بافالو، حيث التحق بجامعة ولاية نيويورك SUNY في بافالو - التي تعرف اليوم بـ«الجامعة في بافالو» - حيث التحق بقسم التاريخ والعلوم السياسية، وتخرج فيها عام 1993. وأثناء الدراسة، تعرف على السيدة زينب معلم، وهي أيضًا صومالية مهاجرة، وتزوّجا وأنجبا 4 أطفال (ولدان وبنتان)، أكبرهم في الـ23. وبعد إنهاء الدراسة الجامعية، عمل في وظائف إدارية عدة، كما نشط في مجال الحقوق المدنية للأقليات، وعُرف بمقدرته على تنظيم المجتمع المدني في نواحي مختلفة، وبالذات اجتذب أنظار المسلمين المهاجرين، كما انضم لصفوف الحزب الجمهوري، وأصبح عضوًا مسجلاً في قائمة أعضائه.
وعام 2009، حصل من الجامعة في بافالو على درجة الماجستير في الدراسات الأميركية، وكان عنوان أطروحته «المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الصومال: من فترة الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب». وفيها، انتقد سياسات الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الابن، واعتبر «أن المتطرفين الإسلاميين هم أكبر عقبة أمام استقرار الصومال، وذهب إلى أن حركة الشباب والمنظمات الإرهابية الأخرى تنامت بسبب السياسات غير الحكيمة للولايات المتحدة في المنطقة».
ومع أن فرماجو كان يحلم بالعودة يومًا إلى الصومال، وعمل شيء لبلاده، فإن المصادفة وحدها كانت وراء ظهور اسمه على المسرح السياسي الصومالي لأول مرة، عام 2010، عندما التقى بالرئيس الصومالي آنذاك، شيخ شريف شيخ أحمد، الذي كان في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة. ويومها، دبّر اللقاء عن طريق أصدقاء، في إطار اللقاءات التي كان يعقدها شيخ أحمد على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة مع النشطاء والمثقفين الصوماليين في أميركا.
هكذا، تعارف الرجلان، وأعجب الرئيس شيخ أحمد بأفكار فرماجو وطروحاته. وخلال أيام من هذا اللقاء الأخير، تلقى دعوة من مكتب الرئيس لزيارة مقديشو، واللقاء به مجددًا. ومع أن فرماجو ما كان يعلم سبب الدعوة، فإنه قبلها، وذهب لرئيسه في العمل طالبًا إجازة قصيرة سافر خلالها إلى مقديشو التي لم يرها منذ 25 سنة. وحينذاك، كانت الحرب محتدمة بين قوات الحكومة، المدعومة من قوات الاتحاد الأفريقي، ومقاتلي حركة الشباب.

رئيسًا للحكومة
وعرض الرئيس شريف شيخ أحمد على فرماجو ترؤس حكومة جديدة، مهمتها إخراج حركة الشباب من العاصمة، وقبل فرماجو العرض، وشكّل حكومة تكنوقراط يشكل المهاجرون العائدون من الخارج جزءًا أساسيًا منها، وأعطاها اسم «حكومة تايو» (الكفاءات). وخلال تلك الفترة، عُرف فرماجو ببساطته، إذ كان يرفض السفر على طائرات خاصة، كما اعتاد أسلافه في منصب رئيس الحكومة، وكان يسافر بالدرجة الاقتصادية مع الركاب في رحلاته الخارجية، توفيرًا للتكاليف. كذلك على المستوى الشخصي، فإنه شخصية خجولة إلى حد ما، وليس خطيبًا مفوّهًا عندما يتكلم، بل يستخدم لغة بسيطة تصل إلى الشارع العادي. ولذا اجتذب أنظار الفئات الشبابية، وخرّيجي الجامعات المتحمسين، الذين يشكلون غالبية فريقه، سواء أثناء رئاسته للوزارة أو الحملة الانتخابية، وكذلك بعد دخوله القصر الرئاسي.
لم يمكث فرماجو طويلاً في منصب رئيس الحكومة، إذ نشبت الخلافات بين رئيس الدولة - آنذاك - شريف شيخ أحمد ورئيس البرلمان الشريف حسن شيخ آدم، حول إنهاء المرحلة الانتقالية، وعقد انتخابات في أغسطس (آب) 2011. وتوسّط الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك أغسطين ماهيغا، بين الرجلين، فيما عرف بـ«اتفاقية كمبالا»، 9 يونيو 2011، ضمن «صفقة» سياسية نصت على تمديد الفترة الانتقالية لمدة عام، وإزاحة فرماجو من رئاسة الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة، وعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في أغسطس 2012.
تردّد فرماجو - بدايةً - في تقديم استقالته، وانتقد صفقة «اتفاقية كمبالا». ونظّم مؤيدوه مظاهرات في مقديشو ومدن أخرى، وكاد الأمر يخرج عن السيطرة. إلا أنه تدارك الموقف واستقال، وعاد إلى الولايات المتحدة. لكن «اتفاقية كمبالا» أثارت جدلاً سياسيًا كبيرًا في الصومال، وتعاطف الشارع بقوة مع فرماجو، باعتباره رجلاً وطنيًا مظلومًا أطيح به من أجل صفقة سياسية بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان.

بداية جديدة
أسّس محمد عبد الله فرماجو في بداية عام 2012 - ومعه عدد من أعضاء حكومته المستقيلة - تجمعًا سياسيًا جديدًا باسم «تايو» (الكفاءات)، واختير أمينًا عامًا له، وما زال يشغل هذا المنصب حتى الآن، بيد أن التجمع لم يتطور إلى حزب سياسي حقيقي، مع أن أمينه العام قام بحملة ترويجية له في كثير من أماكن تركز الجاليات الصومالية في أوروبا وأميركا.
وفي تلك الفترة، كانت التحضيرات جارية لإجراء الانتخابات الرئاسية المقرّرة في العام نفسه. وترشح فرماجو، لكنه احتل المرتبة السابعة جامعًا 5 في المائة فقط من أصوات أعضاء البرلمان. ومن ثم، عاد إلى أميركا، حيث تقيم عائلته في بلدة غراند آيلاند، بولاية نيويورك، على حدود كندا. بعدها، طرح اسمه مجددًا، كمرشح لرئاسة الحكومة مرتين، أثناء فترة الرئيس السابق حسن شيخ محمود، قبل اختيار مرشحين آخرين، إلى أن جاءت انتخابات العام الحالي 2017، عندما رشّح نفسه للرئاسة مجددًا.
ومع أن التوقعات كانت تشير إلى أنه سيحل رابعًا في الجولة الأولى من التصويت، فإنه فاجأ المشهد بعدما حل في المرتبة الثانية بفارق ضئيل، إذ حصل على 72 صوتًا مقابل 88 للرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود. وبعدها، اكتسح فرماجو الساحة في الجولة الثانية، وحصد 184 صوتًا (56 في المائة)، مقابل 97 صوتًا (28 في المائة) لحسن شيخ محمود، أقرب منافسيه. وقبل خوض الجولة الثالثة، أعلن الرئيس المنتهية ولايته انسحابه من السباق، وأعلن رسميًا عن فوز فرماجو بمنصب الرئاسة، فبات الرئيس التاسع لجمهورية الصومال منذ الاستقلال عام 1960.
في الواقع، يرث الرئيس الجديد تركة سياسية وأمنية واقتصادية ثقيلة من سلفه، ويواجه التحديات القديمة نفسها، وسيتوجب عليه تحويل نظام الحكم الشكلي إلى سلطة حقيقية على كامل التراب الصومالي، وإنهاء اعتماد الحكومة شبه الكلي على المعونات الخارجية، وتحقيق الاستقرار الأمني، وأكثر من ذلك إنعاش الآمال التي تداعب قلوب الملايين من الصوماليين، وهو أن يروا بلدهم يخرج من حالة الفوضى التي تجتاحه منذ نحو 3 عقود. لقد ترك فرماجو وراءه وظيفة متوسطة الدخل، كانت تدر عليه 84 ألف دولار سنويًا (7 آلاف دولار شهريًا)، وكان يعول عائلة من 6 أفراد (هو وزوجته و4 أولاد)، وينتقل لرئاسة إحدى أكثر دول العالم فقرًا، التي تتصدر في الوقت ذاته قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم. وللعلم، يشكل الشباب دون سن الـ30 أكثر من 70 في المائة من مجموع سكان الصومال، بمعدل بطالة يصل إلى 65 في الصومال، وهو أحد المعدلات الأعلى في العالم. يضاف إلى كل ذلك، سقف التوقعات العالي من فرماجو وحكومته المرتقبة، الأمر الذي قد يجعل مهمة الرئيس الجديد أكثر صعوبة من أي رئيس صومالي سبقه في المنصب.

نظام السلطة في الصومال
* نظام السلطة في الصومال نظام رئاسي برلماني مختلط، يتقاسم السلطة فيه 3 أطراف: الرئيس، ومجلس الوزراء، والبرلمان. وقد صمم منذ الاستقلال لتفادي تركز السلطات في جهة واحدة. ويجري تقاسم السلطة وفقًا للدستور، على أساس نظام المحاصصة القبلية الذي يصنف المجموعات القبلية في البلد بـ5 قبائل رئيسة تنضوي تحتها عشرات العشائر وفروعها، ولكل منها حصة مقرّرة في الحكومة والبرلمان.
وتعد معظم سلطات الرئيس معنوية أكثر منها تنفيذية، لأنها مشروطة بالموافقة المسبقة من البرلمان أو مجلس الوزراء. ومن أهم سلطاته:
- القائد العام للقوات المسلحة، الذي له سلطة إعلان حالة الطوارئ، وسلطة تعيين قادة القوات المسلحة على المستوى الوطني والفيدرالي، وسلطة تعيين رئيس الوزراء، وإقالة الوزراء ونوابهم من مناصبهم.
- التوقيع على القوانين التي يصادق عليها البرلمان، والتوقيع على الاتفاقيات الدولية، بعد مصادقة البرلمان عليها.
- تعيين رؤساء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية، والسفراء والقناصل، ومنح الأوسمة الوطنية.
- تعيين أصحاب المناصب العليا في الدولة على المستوى الفيدرالي.
- له حق منح العفو، وتخفيف العقوبات عن المحكومين.
في المقابل، لا يملك الرئيس الصومالي سلطة إقالة رئيس الوزراء، إلا بعد سحب الثقة عنه من قبل البرلمان، كما أن سلطاته التنفيذية مشروطة في معظم الأحوال بموافقة مجلس الوزراء مسبقًا. وتبلغ مدة الرئيس الصومالي 4 سنوات، تبدأ من تاريخ أدائه اليمين الدستورية. ويمنح الدستور الرئيس المنتخب مهلة ثلاثين يومًا لتعيين رئيس لمجلس الوزراء، ويبعث باسم مرشحه إلى البرلمان الذي يصوت له بالموافقة أو الرفض، فإذا حصل على موافقة البرلمان، فإن رئيس الوزراء أمامه ثلاثين يومًا لتشكيل حكومته، حيث يقدمها للرئيس لأخذ رأيه، ثم يتم عرض قائمة مجلس الوزراء على البرلمان الذي يصوت بالموافقة أو بالرفض.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.