محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد

من اللجوء لأميركا إلى سدة الحكم في مقديشو

محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد
TT

محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد

محمد عبد الله فرماجو رئيس الصومال الجديد

انتُخب محمد عبد الله فرماجو رئيسًا للصومال، يوم 8 فبراير (شباط) الحالي، بعدما حصل على 56 في المائة من أصوات نواب البرلمان، البالغ عددهم 329 نائبًا، على أقرب منافسيه، وهو الرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود الذي حصل على 28 في المائة فقط. وعلى الأثر، انسحب شيخ محمود مقرًا بالهزيمة، وغدا فرماجو أول رئيس من صوماليي المهجر (الدياسبورا) يتولى الرئاسة في البلاد. ولقد تزامن انتخاب الرئيس الجديد، الذي يحمل الجنسية الأميركية، مع الجدل الذي أثارته القرارات التنفيذية التي اتخذها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب بمنع مواطني سبع دول إسلامية (بينها الصومال) من دخول الولايات المتحدة.
يتوّج فوز محمد عبد الله فرماجو (54 سنة) برئاسة جمهورية الصومال مسيرة حياة سياسية قصيرة نسبيًا، بعد اغتراب طويل في الولايات المتحدة التي دخلها وهو دبلوماسي شاب، عام 1985. ثم مكث فيها لاجئًا لمدة 25 سنة، عاد بعدها ليُعين رئيسًا للوزراء في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، واستقال من المنصب في يونيو (حزيران) 2011. وعاد بعدها بعام ليترشح للرئاسة في 2012، لكنه جاء سابعًا بـ5 في المائة فقط من أصوات النواب، لكنه عوضها هذه المرة حاصدًا 56 في المائة من الأصوات، ليصبح الرئيس التاسع للجمهورية الصومالية.
ولد محمد عبد الله محمد فرماجو في حي بونطيري الشعبي، في العاصمة مقديشو، عام 1962. وكان أبوه قد هاجر إلى مقديشو في بداية الخمسينات من القرن الماضي، واستقر فيها متنقلاً بين أكثر من وظيفة حكومية مدنية. ويحمل الرئيس الصومالي الجديد لقب أبيه «فرماجو» Fromaggio، وهي كلمة إيطالية معناها «الجبنة»، لكنها بعدما دخلت القاموس الصومالي، صارت مرادفًا لـ«المحبوب» أو «الحلوى». وتختلف الروايات حول سبب التسمية، منها أن أبا الرئيس كان يحب الجبنة التي أدخلها الإيطاليون إلى الصومال، ومنها أيضًا أن الرجل كان صاحب شخصية لطيفة ومحبوبة، فلقب بـ«فرماجو»، وغلب اللقب على اسم العائلة منذ ذلك الوقت.
الصغير محمد ألحقه أبوه مدرسة تابعة للجيش الصومالي، يدرس فيها أبناء المحاربين القدامى. ومع أن الأب كان من الطبقة المتوسطة، فإنه اختار إلحاق ابنه البكر بمدارس أبناء المحاربين القدامى، ليكسبه روح الجندية. لكن الابن لم يلتحق بالجيش، بل حصل بعد تخرجه من الثانوية، وأدائه الخدمة العسكرية الإلزامية، على وظيفة في وزارة الخارجية الصومالية، عام 1982. وأمضى 3 سنوات في أروقة الوزارة بمقديشو، عيّن بعدها سكرتيرًا أول في السفارة الصومالية بواشنطن. وفعلاً، عمل 4 سنوات في العاصمة الأميركية، لكنه اختلف مع النظام عام 1989، وقرّر البقاء في الولايات المتحدة طالبًا اللجوء السياسي، وحصل لاحقًا على الجنسية الأميركية.

الحقبة الأميركية
بعد حصول فرماجو على اللجوء السياسي، انتقل إلى ولاية نيويورك، وتحديدًا مدينة بافالو، حيث التحق بجامعة ولاية نيويورك SUNY في بافالو - التي تعرف اليوم بـ«الجامعة في بافالو» - حيث التحق بقسم التاريخ والعلوم السياسية، وتخرج فيها عام 1993. وأثناء الدراسة، تعرف على السيدة زينب معلم، وهي أيضًا صومالية مهاجرة، وتزوّجا وأنجبا 4 أطفال (ولدان وبنتان)، أكبرهم في الـ23. وبعد إنهاء الدراسة الجامعية، عمل في وظائف إدارية عدة، كما نشط في مجال الحقوق المدنية للأقليات، وعُرف بمقدرته على تنظيم المجتمع المدني في نواحي مختلفة، وبالذات اجتذب أنظار المسلمين المهاجرين، كما انضم لصفوف الحزب الجمهوري، وأصبح عضوًا مسجلاً في قائمة أعضائه.
وعام 2009، حصل من الجامعة في بافالو على درجة الماجستير في الدراسات الأميركية، وكان عنوان أطروحته «المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الصومال: من فترة الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب». وفيها، انتقد سياسات الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الابن، واعتبر «أن المتطرفين الإسلاميين هم أكبر عقبة أمام استقرار الصومال، وذهب إلى أن حركة الشباب والمنظمات الإرهابية الأخرى تنامت بسبب السياسات غير الحكيمة للولايات المتحدة في المنطقة».
ومع أن فرماجو كان يحلم بالعودة يومًا إلى الصومال، وعمل شيء لبلاده، فإن المصادفة وحدها كانت وراء ظهور اسمه على المسرح السياسي الصومالي لأول مرة، عام 2010، عندما التقى بالرئيس الصومالي آنذاك، شيخ شريف شيخ أحمد، الذي كان في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة. ويومها، دبّر اللقاء عن طريق أصدقاء، في إطار اللقاءات التي كان يعقدها شيخ أحمد على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة مع النشطاء والمثقفين الصوماليين في أميركا.
هكذا، تعارف الرجلان، وأعجب الرئيس شيخ أحمد بأفكار فرماجو وطروحاته. وخلال أيام من هذا اللقاء الأخير، تلقى دعوة من مكتب الرئيس لزيارة مقديشو، واللقاء به مجددًا. ومع أن فرماجو ما كان يعلم سبب الدعوة، فإنه قبلها، وذهب لرئيسه في العمل طالبًا إجازة قصيرة سافر خلالها إلى مقديشو التي لم يرها منذ 25 سنة. وحينذاك، كانت الحرب محتدمة بين قوات الحكومة، المدعومة من قوات الاتحاد الأفريقي، ومقاتلي حركة الشباب.

رئيسًا للحكومة
وعرض الرئيس شريف شيخ أحمد على فرماجو ترؤس حكومة جديدة، مهمتها إخراج حركة الشباب من العاصمة، وقبل فرماجو العرض، وشكّل حكومة تكنوقراط يشكل المهاجرون العائدون من الخارج جزءًا أساسيًا منها، وأعطاها اسم «حكومة تايو» (الكفاءات). وخلال تلك الفترة، عُرف فرماجو ببساطته، إذ كان يرفض السفر على طائرات خاصة، كما اعتاد أسلافه في منصب رئيس الحكومة، وكان يسافر بالدرجة الاقتصادية مع الركاب في رحلاته الخارجية، توفيرًا للتكاليف. كذلك على المستوى الشخصي، فإنه شخصية خجولة إلى حد ما، وليس خطيبًا مفوّهًا عندما يتكلم، بل يستخدم لغة بسيطة تصل إلى الشارع العادي. ولذا اجتذب أنظار الفئات الشبابية، وخرّيجي الجامعات المتحمسين، الذين يشكلون غالبية فريقه، سواء أثناء رئاسته للوزارة أو الحملة الانتخابية، وكذلك بعد دخوله القصر الرئاسي.
لم يمكث فرماجو طويلاً في منصب رئيس الحكومة، إذ نشبت الخلافات بين رئيس الدولة - آنذاك - شريف شيخ أحمد ورئيس البرلمان الشريف حسن شيخ آدم، حول إنهاء المرحلة الانتقالية، وعقد انتخابات في أغسطس (آب) 2011. وتوسّط الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك أغسطين ماهيغا، بين الرجلين، فيما عرف بـ«اتفاقية كمبالا»، 9 يونيو 2011، ضمن «صفقة» سياسية نصت على تمديد الفترة الانتقالية لمدة عام، وإزاحة فرماجو من رئاسة الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة، وعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في أغسطس 2012.
تردّد فرماجو - بدايةً - في تقديم استقالته، وانتقد صفقة «اتفاقية كمبالا». ونظّم مؤيدوه مظاهرات في مقديشو ومدن أخرى، وكاد الأمر يخرج عن السيطرة. إلا أنه تدارك الموقف واستقال، وعاد إلى الولايات المتحدة. لكن «اتفاقية كمبالا» أثارت جدلاً سياسيًا كبيرًا في الصومال، وتعاطف الشارع بقوة مع فرماجو، باعتباره رجلاً وطنيًا مظلومًا أطيح به من أجل صفقة سياسية بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان.

بداية جديدة
أسّس محمد عبد الله فرماجو في بداية عام 2012 - ومعه عدد من أعضاء حكومته المستقيلة - تجمعًا سياسيًا جديدًا باسم «تايو» (الكفاءات)، واختير أمينًا عامًا له، وما زال يشغل هذا المنصب حتى الآن، بيد أن التجمع لم يتطور إلى حزب سياسي حقيقي، مع أن أمينه العام قام بحملة ترويجية له في كثير من أماكن تركز الجاليات الصومالية في أوروبا وأميركا.
وفي تلك الفترة، كانت التحضيرات جارية لإجراء الانتخابات الرئاسية المقرّرة في العام نفسه. وترشح فرماجو، لكنه احتل المرتبة السابعة جامعًا 5 في المائة فقط من أصوات أعضاء البرلمان. ومن ثم، عاد إلى أميركا، حيث تقيم عائلته في بلدة غراند آيلاند، بولاية نيويورك، على حدود كندا. بعدها، طرح اسمه مجددًا، كمرشح لرئاسة الحكومة مرتين، أثناء فترة الرئيس السابق حسن شيخ محمود، قبل اختيار مرشحين آخرين، إلى أن جاءت انتخابات العام الحالي 2017، عندما رشّح نفسه للرئاسة مجددًا.
ومع أن التوقعات كانت تشير إلى أنه سيحل رابعًا في الجولة الأولى من التصويت، فإنه فاجأ المشهد بعدما حل في المرتبة الثانية بفارق ضئيل، إذ حصل على 72 صوتًا مقابل 88 للرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود. وبعدها، اكتسح فرماجو الساحة في الجولة الثانية، وحصد 184 صوتًا (56 في المائة)، مقابل 97 صوتًا (28 في المائة) لحسن شيخ محمود، أقرب منافسيه. وقبل خوض الجولة الثالثة، أعلن الرئيس المنتهية ولايته انسحابه من السباق، وأعلن رسميًا عن فوز فرماجو بمنصب الرئاسة، فبات الرئيس التاسع لجمهورية الصومال منذ الاستقلال عام 1960.
في الواقع، يرث الرئيس الجديد تركة سياسية وأمنية واقتصادية ثقيلة من سلفه، ويواجه التحديات القديمة نفسها، وسيتوجب عليه تحويل نظام الحكم الشكلي إلى سلطة حقيقية على كامل التراب الصومالي، وإنهاء اعتماد الحكومة شبه الكلي على المعونات الخارجية، وتحقيق الاستقرار الأمني، وأكثر من ذلك إنعاش الآمال التي تداعب قلوب الملايين من الصوماليين، وهو أن يروا بلدهم يخرج من حالة الفوضى التي تجتاحه منذ نحو 3 عقود. لقد ترك فرماجو وراءه وظيفة متوسطة الدخل، كانت تدر عليه 84 ألف دولار سنويًا (7 آلاف دولار شهريًا)، وكان يعول عائلة من 6 أفراد (هو وزوجته و4 أولاد)، وينتقل لرئاسة إحدى أكثر دول العالم فقرًا، التي تتصدر في الوقت ذاته قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم. وللعلم، يشكل الشباب دون سن الـ30 أكثر من 70 في المائة من مجموع سكان الصومال، بمعدل بطالة يصل إلى 65 في الصومال، وهو أحد المعدلات الأعلى في العالم. يضاف إلى كل ذلك، سقف التوقعات العالي من فرماجو وحكومته المرتقبة، الأمر الذي قد يجعل مهمة الرئيس الجديد أكثر صعوبة من أي رئيس صومالي سبقه في المنصب.

نظام السلطة في الصومال
* نظام السلطة في الصومال نظام رئاسي برلماني مختلط، يتقاسم السلطة فيه 3 أطراف: الرئيس، ومجلس الوزراء، والبرلمان. وقد صمم منذ الاستقلال لتفادي تركز السلطات في جهة واحدة. ويجري تقاسم السلطة وفقًا للدستور، على أساس نظام المحاصصة القبلية الذي يصنف المجموعات القبلية في البلد بـ5 قبائل رئيسة تنضوي تحتها عشرات العشائر وفروعها، ولكل منها حصة مقرّرة في الحكومة والبرلمان.
وتعد معظم سلطات الرئيس معنوية أكثر منها تنفيذية، لأنها مشروطة بالموافقة المسبقة من البرلمان أو مجلس الوزراء. ومن أهم سلطاته:
- القائد العام للقوات المسلحة، الذي له سلطة إعلان حالة الطوارئ، وسلطة تعيين قادة القوات المسلحة على المستوى الوطني والفيدرالي، وسلطة تعيين رئيس الوزراء، وإقالة الوزراء ونوابهم من مناصبهم.
- التوقيع على القوانين التي يصادق عليها البرلمان، والتوقيع على الاتفاقيات الدولية، بعد مصادقة البرلمان عليها.
- تعيين رؤساء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية، والسفراء والقناصل، ومنح الأوسمة الوطنية.
- تعيين أصحاب المناصب العليا في الدولة على المستوى الفيدرالي.
- له حق منح العفو، وتخفيف العقوبات عن المحكومين.
في المقابل، لا يملك الرئيس الصومالي سلطة إقالة رئيس الوزراء، إلا بعد سحب الثقة عنه من قبل البرلمان، كما أن سلطاته التنفيذية مشروطة في معظم الأحوال بموافقة مجلس الوزراء مسبقًا. وتبلغ مدة الرئيس الصومالي 4 سنوات، تبدأ من تاريخ أدائه اليمين الدستورية. ويمنح الدستور الرئيس المنتخب مهلة ثلاثين يومًا لتعيين رئيس لمجلس الوزراء، ويبعث باسم مرشحه إلى البرلمان الذي يصوت له بالموافقة أو الرفض، فإذا حصل على موافقة البرلمان، فإن رئيس الوزراء أمامه ثلاثين يومًا لتشكيل حكومته، حيث يقدمها للرئيس لأخذ رأيه، ثم يتم عرض قائمة مجلس الوزراء على البرلمان الذي يصوت بالموافقة أو بالرفض.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.