الدين والدولة في السياق الغربي

تفاعلات «الإنجيلية» في زمن الصحوة الدينية

ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}
ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}
TT

الدين والدولة في السياق الغربي

ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}
ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}

تتعرض أطروحة الانفصال بين السياسة والدين في عالم اليوم لتحديات جمة، على المستويين العالمي والغربي خاصة. ذلك أن الصحوة الدينية المعولمة أصبحت المؤشر الأبرز على التحول العميق في عالمي الدين والسياسة المعاصرين. ورغم أن طرح التشابك المعقد فرض نفسه في حقل العلوم الاجتماعية، خاصة علمي الاجتماع والسياسة، فإن تأثر النخب العلمية العربية بخصوصية الحداثة الفرنسية جعلها من أقل النخب العلمية إدراكًا للمسارات المتنوعة التي اتخذها المعتقد باعتباره حقلاً من حقول الاجتماع السياسي، وفي الوقت نفسه حقلاً من حقول المعرفة العلمية التي اعترفت بها الحداثة وعلومها المعاصرة.
على المستوى العملي، جاء فوز الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب ليظهر من جديد الدور الفعال للمسيحيين الإنجيليين في إنتاج الخريطة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، وهو ما يفسر إقامة كل من ترمب ومنافسته المرشحة الديمقراطية الرئاسية هيلاري كلينتون مهرجانات وحفلات انتخابية داخل كنائس متعددة في ولايات مختلفة، وكذلك افتتاح بعض التجمعات الانتخابية بالأدعية الدينية.
ولقد خاطب ترمب، يوم 30 سبتمبر (أيلول) 2016، الجمهور الحاضر في إحدى فعالياته الانتخابية بالقول: «جئنا إلى (ولاية) آيوا، وتلقينا كل هذا الدعم الهائل من الإنجيليين، ومن الجميع. وتذكرون أنني أحضرت معي كتابي المقدس، تذكرون ذلك، وكان هناك من يقول: حسنًا، هل تعتقدون أن ترمب سيكون جيدًا مع الإنجيليين؟ لقد كنت جيدًا مع الإنجيليين، أليس كذلك؟!»
في عالم السياسة الأميركية، لم يعد الدين حبيس الكينونة الفردية التي نظرت لها الليبرالية والحداثة، بل أصبحت هذه الأخيرة نفسها ممسوسة بالنزوعات الدينية، مما خلق نوعًا من التماهي الديني مع منظومة الدولة الحديثة، القائمة على المأسسة وبناء النفوذ. وفي هذا الإطار، يمكن إدراج الصرح المؤسساتي للتيار الديني الأميركي الذي يتكون من آلاف المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والخدماتية والوعظية التبشيرية وغيرها.
* متدينو أميركا
وكما يشير إلى ذلك البروفسور مايكل ج. بيري، في كتابه «الدين في السياسة... جوانب دستورية وأخلاقية»، فإن الدين ليس قضية ثانوية بالنسبة للمواطنين الأميركيين، فهم «الأكثر تدينًا في ديمقراطيات العالم الصناعي المتقدم... 95 في المائة من الأميركيين البالغين يعلنون إيمانهم بالله، و70 في المائة هم أعضاء في كنيسة أو معبد يهودي». ورغم أن هذه الأرقام تتعلق بدراسات قديمة، فإنها في الواقع تدل على أن مسار الدين في حقل السياسة بأميركا اكتسب شرعية تاريخية، وتحول إلى ثابت «سلطوي»، أخلاقي وقانوني، تطور من داخل المجتمع ومؤسساته.
ومن هنا، ينبه البروفسور بيري، أستاذ القانون في جامعة نورثوسترن ثم جامعة إيموري، إلى أن «حرية الدين يحميها القانون الدستوري الأميركي، وتقوم على قاعدتين: الأولى، أنه لا يجوز للحكومة أن تؤسس للدين (قاعدة عدم التأسيس). والثانية، أنه لا يجوز للحكومة منع الممارسة الدينية». ويبدو أن سلسلة التشابك التاريخي بين الدين والسياسة في أميركا لا يمكن تفسيرها فقط بالتدين الشعبي، وقوة المتدينين على مستوى خريطة النخب، بل إن القانون والعرف الدستوري يجعل من التشابك أكثر تعقيدًا.
زد على ذلك أن استعمال الديني هو فعالية سياسية متجددة في زمن الحركات الأصولية. فحسب عالم الاجتماع الشهير أنتوني غندز، في كتابه «علم الاجتماع»، كان الدين وراء ظهور «أعداد لا حصر لها من الحركات الدينية الجديدة. وانتشرت هذه الحركات، بصورة خاصة، في الولايات المتحدة، مستعينة بالتلفزيون ووسائل الإعلام الإلكترونية، وشكلت ما يسمى (اليمين المسيحي الجديد) الذي يقترب في أحيان كثيرة من مواقع صنع القرار» (ص 595).
وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الحركات الدينية استطاعت بالفعل الوصول إلى مراكز القرار السياسي الاستراتيجي بأميركا، وهي تحتل اليوم صدارة الشخصيات العامة في بعض دوائر النفوذ بالبيت الأبيض والمحيط الضيق للرئيس الحالي، على المستويين المدني والعسكري. ويبدو أن نتائج هذا السياق تجعل من اختيار القاضي الإنجيلي نيل غورستش من طرف الرئيس دونالد ترمب لتولي المقعد الشاغر في المحكمة العليا، بتاريخ 2017 /2 /1 أمرًا عاديًا، رغم ما أثاره من نقاش آيديولوجي داخلي.
إن هذا التعيين هو واحد من المؤشرات الدالة على قوة الإنجيليين، وقدرتهم على الانتشار من داخل الجهاز البيروقراطي والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالمحكمة العليا أعلى هيئة قضائية تنظر في أهم القضايا، منها قرارات كانت موضوع البرنامج الانتخابي لترمب، من مثل قضية الهجرة التي أصبحت معركة مفتوحة سيلعب فيها القضاء دورًا حاسمًا، نظرًا لحجم الدعاوى المعروضة عليه. غير أن الرئيس ترمب، الذي كان يقول في مهرجاناته الانتخابية إنه متمسك بالكتاب المقدس، ينطلق من هذا البعد العقدي في اختياره لرجل متدين يقاسمه المعتقد نفسه ليرجح به كفة تيار المحافظين في هذه المؤسسة القضائية العليا.
ولا يبدو أن تداخل الحقل الديني والسياسي خصيصة أميركية حصرية، بل يمكن إثارة مزيد من الشكوك في مزاعم رواد علم السياسة والاجتماع المعاصر، خصوصًا تلك التي تنبأت بتقويض الأسس الاجتماعية للدين، مدعية أن الزمن الحديث سيتجاوز المقدس الطقوسي، والمعتقد المنظم، عن طريق انكماش الدين إلى بعده الفردي. غير أن منظومة العقائد اليوم نفسها تأثرت بالديناميات الاجتماعية، والالتزام الجماعي بالقيم. أكثر من ذلك، أصبحت منظومة الخدمات مهنة للحركات الدينية، وأضحت الممارسات والمشاركة الجماعية جزءًا من السياسة الفعلية للدين في الفضاء العام للمجتمعات الديمقراطية المعاصرة.
* ملكة بريطانيا والكنيسة
في النموذج الديمقراطي البريطاني، لا تزال الملكة هي صاحبة السيادة العليا، والحاكم الأعلى للكنيسة الإنجليكانية، وتتمتع بصلاحيات تعيين الأساقفة ورؤسائهم. ومن الناحية التشريعية القانونية، يمكن للمجمع الكنسي الإنجليكاني البريطاني أن يتقدم باقتراح قوانين تكون سارية المفعول، بعد اعتمادها من طرف البرلمان. كما يتمتع المجمع الكنسي بحق التشريع بأحكام الشريعة المسيحية الإنجليكانية، بعد موافقة الملك أو الملكة، ذلك أن القانون يعتبر أن «كنيسة إنجلترا» (الكنيسة الإنجليكانية) و«كنيسة اسكتلندا»، الكنيستين «الرسميتين»، المقررة لمراسم الدولة ذات الطابع الديني، ولا يحصل أعضاؤها مع ذلك على أية ميزة بكونهم أعضاءها.
في هذا الاتجاه نفسه، ينص دستور الدنمارك، في مادته الرابعة، على أن الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية) اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للدولة، وتشترط المادة السادسة أن يكون الملك منتميًا لهذه الكنيسة. أكثر من ذلك، يعتبر الدستور الدنماركي أن «الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الهيئة الدينية الوحيدة في البلاد التي لها حق الحصول على إعانات مالية، أو تمويل مباشر من خزينة الضرائب في الدولة». ويمكن اعتبار هذا المؤشر كافيًا لإعادة البحث في العلاقة بين الدين والسياسة، داخل الدولة الحديثة الغربية. ليس من داخل معمارها الدستوري القانوني فحسب، ولكن أيضًا من داخل رؤية الفضاء العام للعلمنة، ومفهومها، وطريقة قياسها وتفعيلها ديمقراطيًا.
* تشابك وتداخل
ويمكن الاسترشاد كذلك بالنموذج الفرنسي للتدليل على تشابك التداخل، وفي الوقت نفسه سلطوية السلطة السياسة على الدين، حيث يتدخل فيه رئيس الجمهورية للتعيين في مناصب دينية عمومية. ففي ستراسبورغ وميس، بإقليمي الألزاس واللورين، وبموجب القانون، يعتبر رجال الدين في الكنائس موظفين عموميين يتلقون أجورهم من خزينة الدولة، كما يتمتعون بحق تقديم دروس التعليم الديني في مدارس الجمهورية.
وإجمالاً، يمكن الحديث أوروبيًا عما يطلق عليه «ضريبة الكنيسة» التي يدفعها المنتمي للكنيسة عبر خزينة الدولة لكنيسته. وهذا النظام معمول به في كثير من الدول الأوروبية، منها: السويد والنرويج وألمانيا وإيطاليا والنمسا وفنلندا والدنمارك وآيسلندا. غير أنه لا بد من التأكيد على خاصية يتمتع بها النموذج الفرنسي، وهي كونه «سلطويًا» وحادًا، واستعماليًا للقانون للحد من حرية الدين. ولقد صيغ هذا النموذج الأوروبي بالتداخل بين العلمانية واللائكية. وهو بذلك يختلف عن النموذج الإنجيلي الأنجليساكسوني المتسامح، مقدمًا خيارًا معرفيًا وتصوريًا فلسفيًا جذريًا مغايرًا، حيث يقدم الفيلسوف الفرنسي روني كبيتان René Capitant، باعتباره واحدًا من المنظرين المعاصرين لهذا الخيار، تعريفًا للعلمانية «يعتبرها تصورًا سياسيًا يطبق الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني، فالدولة لا تمارس أية سلطة دينية، كما لا تمارس الكنائس أي سلطة سياسية».
ويمكن القول إن العَلمانية، من خلال التجربة الفرنسية، متوقفة بالضرورة على السيطرة على إنتاج الثقافة والتعليم. وهذه السيطرة هي نظام ونسق استبعادي وتحكمي في الدين، من خلال بناء وعي جماعي متحكم فيه، عبر آلية التعليم، فالمدرسة الفرنسية هي «آيديولوجية» لبناء عقيدة للدولة يطلق عليها العلمانية (بكسر العين) Laïque، سواء كتصورات تجريدية أو كسلطة ونظام سياسي.
ومن خلال هذه الازدواجية التي وسم بها كل من لفظي اللائكية والعلمانية، نستطيع التأكيد مع فيلسوف العلمانية الأبرز، جون بوبيرو، أن علمانية المدرسة (la laïcité scolaire) تعني نهاية بناء الأخلاق الدينية، وتعويضها بأخلاق من دون الله؛ وهذه الأخيرة هي الأخلاق اللائكية.
* 3 مراحل للعلمانية
وتماشيًا مع هذه الحقيقة التاريخية، نؤكد أن العلمانية مرت في مسيرتها التاريخية بمراحل ثلاث: الأولى صراعية، هدفت إلى تحقيق الفصل بين الكنسي والزمني. تبعتها المرحلة الثانية التي اتسمت بتحييد الكنسي وتشريعاته، لتكريس التشريع الوضعي (positiviste). أما العلمانية اليوم، فهي في مرحلتها الثالثة، وتتعرض لضغوط مجتمعية، وعالمية في قسم كبير منها. ذلك أن مبادئ حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميًا، جعلت من العلمانية، حسب جاكلين كوستا - لاسكو Jacqueline Costa - Lascoux، «قيمة حوارية». هذه الحوارية هي الممثلة للمرحلة الثالثة التي نقلت العَلمانية إلى نظام سياسي تعددي.
إن هذا التطور التاريخي قد تطور عبر مسارين خاصين: ففي أوروبا الغربية، كثير من البلدان المحافظة على حلقة الوصل مع هوية الدين، في حين أن بعض البلدان تخضع لنظام فردي شمولي، كما هو الحال في الشرق الأوروبي سابقًا. وعلى الجانب الآخر، تعمل الأنظمة الديمقراطية العريقة، في معظمها، على ضمان الحرية الدينية في دساتيرها. ومع ذلك، تحضر العلمانية والدين في كثير من الأحيان، بشكل ضمني، في الحاضر والممارسات الاجتماعية، وهو ما يفسر كون «عدد من الدول الأوروبية لا تزال تعاني من دين الدولة». كما أن الواقع السوسيولوجي يؤكد أن هناك «حالة دينية تقبع داخل العَلمانية، وتتكيف باستمرار مع الفضاء العام»، بتعبير الفيلسوف الفرنسي إيف لامبير. أكثر من ذلك، أصبحت الصحوة الدينية تسائل الأسس الجذرية والفلسفية للعلمانية، وتفرض عليها التخلي عن بعض أسسها المعرفية.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟