«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

كيف سيرتسم مستقبل «الإصلاحيين» و«المعتدلين» في إيران؟

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني
TT

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

الرحيل المباغت لعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الأكثر نفوذًا في عمر النظام الإيراني، تسبب بفجوة ثمة من يتوقع أن تترك أثرها على خريطة القوى في إيران، وإن تراجعت إلى الهامش بعد الصدمة الكبيرة التي هزت طهران إثر اندلاع الحريق في أهم معالمها التجارية قبل انهياره.
والحقيقة، أنه رغم الإشاعات التي دارت حول وفاة رفسنجاني والحديث عن لقاء دار بين المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد طلب خلاله المرشد التريث حتى نهاية العام قبل أن يحل أحمدي نجاد محله في منصب رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، فأغلب الظن أن الرجل - الذي مات ميتة طبيعية - يخلّف وراءه ثغرة قد لا يسدّها شيء.
دور رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النـظام» في إيران دور استشاري مهم وحسّاس يتولى شاغله الفصل في خلافات تحدث عادة بين الحكومة والبرلمان، والنظر في السياسات العامة للنظام. وكان هذا المنصب واحدًا من عدد من المناصب الحكومية التي تقلدها علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الذي يوصف بأنه «الأكثر براغماتية في جمهورية ولاية الفقيه». ويذكر أن هذا «المجلس» كان قد شُكّل بعد مقترح همس به رفسنجاني في أذن المرشد الأعلى الإيراني السابق آية الله الخميني. بل لم يكن لهذا «المجلس» أي دور يذكر عندما كان رفسنجاني رئيسًا للجمهورية.
ولكن، لاحقًا، مع وصول محمد خاتمي للرئاسة، ودخول إيران عصر ما سُمي «الإصلاح» لفترة ثماني سنوات، أخذ دور «مجلس تشخيص مصلحة النظام» يبرز أكثر من أي وقت مضى. إذ قوّض «المجلس» صلاحيات الحكومة والبرلمان المتناغم معها في الإصلاح آنذاك، وفرض سياسات أجبرت خاتمي ورجاله على العمل وفقها.
لم يكن ذلك، بالطبع، ممكنًا لولا مباركة المرشد الذي أخرج تيار رفسنجاني من قمقمه ليصبح «مجلس تشخيص مصلحة النظام» لُقمة يصعب ابتلاعها ولفظها في التركيبة التي ازدادت تعقيدًا مع دخول خامنئي إلى العقد الثاني من ولايته، وذلك حتى دخل رفسنجاني «سنوات النكبة» بعد صراع دار بينه وبين «المتشدّدين» الموالين للمرشد الأعلى الحالي علي خامنئي عقب وصول محمود أحمدي نجاد للرئاسة.

الخطوات المرتقبة
لقد رحل رفسنجاني قبل حلول الشهر الأخير من فترته الرئاسية الخامسة، ويتوقّع الآن أن يختار المرشد 45 عضوًا لـ«المجلس» خلال مارس (آذار) المقبل. ويُذكر أنه قبل رحيل رفسنجاني كانت ثمة شكوك تحوم حول نية خامنئي تجديد رئاسته، بيد أن التجربة أثبتت أن خامنئي لا يريد تغيير شخص عيّنه الخميني. ولكن، على أي حال، تطوي إيران صفحة رفسنجاني في وقت تثار فيه تساؤلات حول «السيناريوهات» المتوقعة لتياره ومكتبه ومناصبه.
فيما يتعلق بـ«مجلس تشخيص مصلحة النظام» تأكد أن اختيار خامنئي لخلافة رفسنجاني وقع على محمدعلي موحّدي كرماني (85 سنة)، زعيم التيار الأصولي ورئيس «رابطة العلماء المجاهدين» المتنفذة. وكان الرجل يمثل المرشد في الحرس الثوري بين عامي 1990 و2004، ووفق ما أعلنته وسائل الإعلام الإيرانية فإن موحّدي كرماني باشر مسؤولياته مؤقتًا ريثما يصار إلى انتخاب الأعضاء.
السيناريو الأول بالنسبة لهذا «المجلس» هو أن يجدد خامنئي رئاسة كرماني مع تجديد عضوية غالبية الأعضاء الحاليين، أما السيناريو الثاني فهو تقليص صلاحيات «المجلس» ليصبح مجلسًا استشاريًا للمتقاعدين السياسيين.
كثيرون من الخبراء المطلعين يرجحون السيناريو الثاني، من منطلق أن «المجلس» لن يستعيد الثقل السياسي الذي خسره برحيل هاشمي رفسنجاني، ولأن الفرصة باتت مؤاتية الآن للمرشد للحد من صلاحياته تجنبا لتكرار ظاهرة رفسنجاني.
وهناك مؤشر آخر لا يقل أهمية يتمثّل في رغبة كل من الحكومة والبرلمان بتقليص صلاحيات «المجلس» بسبب تقويض صلاحياتهما فيه بصيغته الحالية. وحقًا، لا يدافع عنه إلا قلائل على هامش اللعبة السياسية، والكل يطمعون في الجلوس على كراسيه. وعلى ضوء ما تقدم فإن تراجع صلاحياته أمر وارد.

مصير «الإصلاحيين» و«المعتدلين»
أما على صعيد قيادة معسكر «الإصلاحيين» و«المعتدلين» فإن الحديث يطول. وتكفي الإشارة إلى أن التساؤلات عن مستقبل التيار شغلت أنصار هذا المعسكر أو التيار الذين تسود في صفوفهم حالة من القلق والترقب.
لقد كان هاشمي رفسنجاني الشخصية التي تمحورت حولها أهم الشخصيات في التيار «الإصلاحي» - إلى جانب محمد خاتمي - بعد الانقسامات التي شهدها التيار في انتخابات الرئاسة 2005، وهي تلك الانقسامات التي سهّلت صعود «المتشدد» أحمدي نجاد، وكان تيار «المحافظين» و«المتشددين» حقًا أكبر المستفيدين من الفوضى بين «الإصلاحيين». بل إن حتى وجود أحمدي نجاد في منصب الرئاسة أخفق في الدفع للملمة شمل البيت «الإصلاحي»، فتكرّر التنافس في انتخابات عام2009، عندما انقسم «الإصلاحيون» بين مهدي كروبي وميرحسين موسوي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تفجر احتجاجات «الحركة الخضراء» (الإصلاحية) عشية إعلان فوز أحمدي نجاد ورفض «الإصلاحيين» نتائج الانتخابات، أدى إلى اختفاء كروبي وموسوي عن المشهد السياسي عقب إقرار «المجلس الأعلى للأمن القومي» فرض الإقامة الجبرية عليهما في مارس 2011 بالتزامن مع حملة القمع الواسعة التي استهدفت الاحتجاجات السلمية.
ومن ثم، بعد اعتقال عدد كبير من «الإصلاحيين» لم يبق خارج السجن من قادتهم سوى خاتمي (الذي أصبح بعد ذلك رمزا لـ«الإصلاحيين») حسن الخميني، حفيد الخميني الذي راهن «الإصلاحيون» على موروث جده في ردهات السلطة لكسب ود أنصاره.
أما السبب الآخر لتغير وضع معسكر «الإصلاحيين» فكان دخول هاشمي رفسنجاني على الخط. ذلك أنه على الرغم من الضربة التي تلقاها رفسنجاني من «الإصلاحيين» أيام خاتمي فإنه آثر الدخول على خطهم، لا سيما أن القادة «الإصلاحيين» الذين استهدفوه باتوا الآن خارج اللعبة. وبالفعل، حمل دخول رفسنجاني على الخط معطيات جديدة لـ«الإصلاحيين» وللمشهد السياسي الإيراني بشكل عام.

كيف جرى ذلك؟

جرى كما يلي:
1 - غياب الزعماء والقادة الميدانيين ترك الساحة مفتوحة أمام محمد خاتمي، الذي كان وزيرا من وزراء هاشمي رفسنجاني، وكانت حكومته امتدادًا في كثير من زواياها لحكومته (كان وزراء الداخلية والاقتصاد والنفط والثقافة والتعليم وغيرهم... من حكومة رفسنجاني). وكان خاتمي يحمل رؤية مفادها الاقتراب من رفسنجاني وتأسيس ما يُعرف بـ«الجبهة الوسطية». وهذا ما جعل الباب مفتوحًا أمام رفسنجاني ليدخل البيت، ولم يكن هو الرجل الذي يرفض الدخول.
2 - وصول منظّري «الإصلاحيين» إلى قناعة بأنهم يجب أن يحتموا بعباءة رفسنجاني. إذ بعد تلقيه ضربات لفترة طويلة وصل عقلاء «الإصلاحيين» إلى خلاصة مفادها أنهم عرّضوا أنفسهم لحرارة الشمس وقصوا أجنحتهم بأيديهم مقابل السلطة المطلقة التي يتمتع بها خامنئي. وبالتالي، عليهم تحكيم «العمود الآخر للسلطة»، أي رفسنجاني، كي يحميهم من سياط «المحافظين». بعبارة أخرى توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن خروج رفسنجاني من السلطة سيؤدي حتمًا إلى إطلاق يد خامنئي ومن معه من «المتشددين»، في حين أن بقاء رفسنجاني قويًا سيعني الحد من هامش حرية هؤلاء. وبناء عليه، قرروا الاقتراب منه.
3 - الخط السياسي الذي أسسه وزراء هاشمي رفسنجاني وكبار مساعديه في حزب «عمال البناء» - الذي كان منعزلا عن «الإصلاحيين» - دخل على الخط من جديد. وكان هؤلاء قد دخلوا قبل ذلك - بإذن من رفسنجاني - على الخط في التنافس بين علي أكبر ناطق نوري ومحمد خاتمي عام 1997، إذ دعموا خاتمي وكان لهم أثر بالغ في فوزه. كما شكلوا العمود الفقري لحكومته قبل أن ينعزلوا عن «الإصلاحيين». لكنهم الآن عادوا بكامل قواهم إلى المعسكر «الإصلاحي».
4 - رفسنجاني نفسه أحس أنه لا بد له من الاقتراب من الخط «الإصلاحي». إذ في أعقاب صعود نجم محمود أحمدي نجاد عزم الأخير على ضرب «الإصلاحيين» وتصفية حساباته معهم. واللافت أن المرشد الأعلى اتخذ موقفًا داعمًا لأحمدي نجاد، ما أغضب رفسنجاني كثيرًا، فترك إمامة الجمعة في العاصمة طهران، وكتب رسالة من دون سلام إلى المرشد وانعزل عنه نهائيًا. وجاءت الضربة القاضية في رفض أهلية رفسنجاني من قبل مقربي المرشد إبان المعركة الرئاسية الماضية. كل ذلك جعل رفسنجاني يفكر جديًا في التقرب من «الإصلاحيين» لاستعادة بعض نفوذه المتراجع.
5 - نتيجة لكل ذلك، تشكل مشهد من خصوصياته تشكيل جبهة واسعة من «الإصلاحيين» و«المعتدلين» أخذت تتسع يومًا بعد يوم، و«تسرق» عددًا من الوجوه من معسكر «المحافظين» (مثل علي لاريجاني وعلي أكبر ناطق نوري وعلي مطهري وآخرين كثيرين على رأسهم الرئيس حسن روحاني نفسه) ونقلهم إلى جبهة تميل إلى الإصلاحات أكثر من ميلها إلى «المحافظين».
وكان من خصوصيات هذا المشهد الابتعاد عن الجموح «الإصلاحي» وتغليب الحكمة والتحكيم وسعة الصدر، وكذلك غلبة رفسنجاني على المشهد كرأس يتبعه خاتمي وحسن الخميني... وظهر أثر ذلك في ميل «الإصلاحيين» نحو التضحية بوجه بارز من وجوههم (محمد رضا عارف الذي كان مساعدا لخاتمي) من أجل رجل من رجال رفسنجاني (روحاني) خلال سباق الرئاسة 2013 من دون أن يحدث ذلك ضجيجا لدى الجبهة «الإصلاحية».
6 - ربما يعود الكثير مما تقدم ذكره إلى سجل رفسنجاني «البراغماتي» في بنية النظام، ولكن واقع الأمر أن من ينظر بعمق أبعد يجد أن «الإصلاحيين» كانوا سيظلون مختلفين لولا تدخل الرجل الذي تقدم بهم، بالفعل، خطوات إلى الأمام وأعاد تنظيمهم من جديد، أنه وضع حدودًا لطموحاتهم السياسية لكي يصطفوا كلهم في «جيش» روحاني.
لكن هذا «البراغماتي» الجامع الذي «لصق» شراذم «الإصلاحيين» قد رحل، ولذا لا بد من التساؤل عن شكل المشهد «الإصلاحي» - أو قُل «الوسطي» بتعبير أصح - بعده؟
ربما يمكن القول إن «الإصلاحيين» قد ينقلبون على أعقابهم، فمن جهة حزب «عمال البناء» المقرّب من رفسنجاني قد يفقد لحمته بـ«الإصلاحيين»، ويعود للابتعاد عنهم ليلتصق أكثر فأكثر بالرئيس روحاني. ومن جهة أخرى، قد يفقد روحاني يفقد أواصره بـ«الإصلاحيين»، خاصة في ظل ابتعاد خاتمي عنه. صحيح أن ذلك لا يتضح خلال الشهور القليلة المقبلة، لكن ثمة مؤشرات على أن هذا «الطلاق» يلوح في الأفق، ويرى كثيرون أنه أمر لا بد منه.
إن المتفحص المدّقق يجد خطين بين «الإصلاحيين» من قديم الزمان إلى يومنا هذا تعيد إنتاج ذاتها مع كل الظروف. هذان الخطان هما: خط «الإصلاحيين الصقور» الذين يؤكدون على الماهية المستقلة للإصلاحات وينادون بضرورة الإصرار على اكتفاء الإصلاحات بذاتها بجانب اكتفائها بالدعم الشعبي، وعدم الانفتاح على الآخر (هؤلاء هم الذين طرحوا شعار «تجاوز خاتمي» ومارسوا الضغط عليه من أجل أن يبتعد عن التيار «الوسطي»، ويعيد إنتاج الحكومة «الإصلاحية» الخالصة، ما أدى إلى إصلاح داخل حكومة خاتمي وخروج رجال رفسنجاني منها). وخط «الإصلاحيين الحمائم» الذين ينادون بالاندماج مع باقي التيارات الوسطية من أجل مواجهة الخط الآخر.
هذا الفريقان يعيدان إنتاج نفسيهما الآن، وبعدما كانت هيمنة رفسنجاني تلعب دورًا مؤثرًا في إضعاف «الصقور» وتقوية «الحمائم»، ما ساهم بوقوف التيار «الإصلاحي» وراء روحاني في الانتخابات الأخيرة على الرغم من وجود مرشح «إصلاحي» (هو عارف)، فإن الشرخ بينهما قد يتسع من جديد.

نقاط ضعف خاتمي

ويمكن هنا القول إن خاتمي قد لا يستطيع أن يلعب الدور نفسه في لملمة «الإصلاحيين» لعدة أسباب منها:
1 - أن خاتمي ليس مقبولاً من قبل كل تيارات النخب «الإصلاحية» على الرغم من شعبيته الواسعة. والكلام هنا ليس عن الشعب، بل عن النخب الناشطة. أثبتت التجربة أن خاتمي لا يستطيع توحيد الصف بمستوى قدرته على تجييش الشارع، ذلك أنه وظيفيًا عنصر شعبي وليس عنصرًا تنظيميًا، بعكس رفسنجاني. في حين أن ما يحتاجه «الإصلاحيون» في الفترة المقبلة هو العنصر التنظيمي أكثر من العنصر الشعبي.
2 - نتائج هذا الانقسام في الخط «الإصلاحي» ستنعكس على جبهة روحاني خلال الانتخابات. وأغلب الظن أن إجماعًا في الصف «الإصلاحي» مثل الذي حدث خلال الانتخابات الرئاسية الماضية أو ذلك الذي جربناه خلال انتخابات البرلمان قد لا نراه في الانتخابات المقبلة، وخلال العمل السياسي في الفترة الآتية. ومن أسباب ذلك الشرخ الذي تكلمنا عنه وكذلك غياب منافس شرس من «المتشددين» يستطيع تخويفهم، وبالتالي يفرض عليهم التكتل تحت راية واحدة. وللعلم، فإن روحاني هو الوحيد حتى الآن - على الأقل - في الصورة، لكن تكتل «الإصلاحيين» قد يدفعهم للابتعاد عنه وترشيح أحد «الصقور» بدلاً منه.
3 - على صعيد الزعامة سيعاني «الإصلاحيون» من مشاكل كثيرة. إذ إن رفسنجاني، استطاع خلال حياته السياسية أن يخلق زعامة على مستويين: المستوى الأول هو «المربّع» المكوّن من خاتمي وحسن الخميني ورفسنجاني وروحاني. أما المستوى الثاني فيضم العشرات من القادة المتوسطين مثل عارف وعلي لاريجاني وناطق نوري ومطهّري (صهر لاريجاني و«عرّاب الإصلاحيين» هذه الأيام في البرلمان) وشخصيات من العيار العالي نفسه، أو أقل منه، لا طريق لهم إلى «المربّع» الأول بسبب هيمنة رفسنجاني بالذات.
ولكن رحيل رفسنجاني سيجعل «المربّع» الأول عرضة للتفكك، كما يفتح الباب أمام المستوى الثاني ليطمح إلى الصعود إلى المستوى الأول. وما يزيد الوضع سوءًا هو عوز خاتمي لمزايا الزعامة وصفاتها، وقلة التجربة لدى حسن الخميني، وإحجام «الإصلاحيين» عن مبايعة روحاني، وشعور كل من ناطق نوري ولاريجاني أنهما بنفس مكانة الثلاثي الآنف الذكر (خاتمي والخميني وروحاني)، ما يقلل من نسبة وفائهم والتزامهم.
ومن ثم، فإن العنصر الذي قرّب عددًا كبيرًا من «المحافظين» سابقًا (على رأسهم روحاني وناطق نوري ولاريجاني) إلى التيار «الإصلاحي» ليخلق ما بات يعرف بالتيار «الاعتدالي» أو «المعتدل» قد مات. وهو ما يعني تفككًا محتملاً في النظام من شأنه إخراج الحالة من قطبية «الاعتدال» - «التشدد» إلى ثلاثية «الإصلاحيون» - «الوسطيون» - «المحافظون المتشددون».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».