«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

كيف سيرتسم مستقبل «الإصلاحيين» و«المعتدلين» في إيران؟

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني
TT

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

الرحيل المباغت لعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الأكثر نفوذًا في عمر النظام الإيراني، تسبب بفجوة ثمة من يتوقع أن تترك أثرها على خريطة القوى في إيران، وإن تراجعت إلى الهامش بعد الصدمة الكبيرة التي هزت طهران إثر اندلاع الحريق في أهم معالمها التجارية قبل انهياره.
والحقيقة، أنه رغم الإشاعات التي دارت حول وفاة رفسنجاني والحديث عن لقاء دار بين المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد طلب خلاله المرشد التريث حتى نهاية العام قبل أن يحل أحمدي نجاد محله في منصب رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، فأغلب الظن أن الرجل - الذي مات ميتة طبيعية - يخلّف وراءه ثغرة قد لا يسدّها شيء.
دور رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النـظام» في إيران دور استشاري مهم وحسّاس يتولى شاغله الفصل في خلافات تحدث عادة بين الحكومة والبرلمان، والنظر في السياسات العامة للنظام. وكان هذا المنصب واحدًا من عدد من المناصب الحكومية التي تقلدها علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الذي يوصف بأنه «الأكثر براغماتية في جمهورية ولاية الفقيه». ويذكر أن هذا «المجلس» كان قد شُكّل بعد مقترح همس به رفسنجاني في أذن المرشد الأعلى الإيراني السابق آية الله الخميني. بل لم يكن لهذا «المجلس» أي دور يذكر عندما كان رفسنجاني رئيسًا للجمهورية.
ولكن، لاحقًا، مع وصول محمد خاتمي للرئاسة، ودخول إيران عصر ما سُمي «الإصلاح» لفترة ثماني سنوات، أخذ دور «مجلس تشخيص مصلحة النظام» يبرز أكثر من أي وقت مضى. إذ قوّض «المجلس» صلاحيات الحكومة والبرلمان المتناغم معها في الإصلاح آنذاك، وفرض سياسات أجبرت خاتمي ورجاله على العمل وفقها.
لم يكن ذلك، بالطبع، ممكنًا لولا مباركة المرشد الذي أخرج تيار رفسنجاني من قمقمه ليصبح «مجلس تشخيص مصلحة النظام» لُقمة يصعب ابتلاعها ولفظها في التركيبة التي ازدادت تعقيدًا مع دخول خامنئي إلى العقد الثاني من ولايته، وذلك حتى دخل رفسنجاني «سنوات النكبة» بعد صراع دار بينه وبين «المتشدّدين» الموالين للمرشد الأعلى الحالي علي خامنئي عقب وصول محمود أحمدي نجاد للرئاسة.

الخطوات المرتقبة
لقد رحل رفسنجاني قبل حلول الشهر الأخير من فترته الرئاسية الخامسة، ويتوقّع الآن أن يختار المرشد 45 عضوًا لـ«المجلس» خلال مارس (آذار) المقبل. ويُذكر أنه قبل رحيل رفسنجاني كانت ثمة شكوك تحوم حول نية خامنئي تجديد رئاسته، بيد أن التجربة أثبتت أن خامنئي لا يريد تغيير شخص عيّنه الخميني. ولكن، على أي حال، تطوي إيران صفحة رفسنجاني في وقت تثار فيه تساؤلات حول «السيناريوهات» المتوقعة لتياره ومكتبه ومناصبه.
فيما يتعلق بـ«مجلس تشخيص مصلحة النظام» تأكد أن اختيار خامنئي لخلافة رفسنجاني وقع على محمدعلي موحّدي كرماني (85 سنة)، زعيم التيار الأصولي ورئيس «رابطة العلماء المجاهدين» المتنفذة. وكان الرجل يمثل المرشد في الحرس الثوري بين عامي 1990 و2004، ووفق ما أعلنته وسائل الإعلام الإيرانية فإن موحّدي كرماني باشر مسؤولياته مؤقتًا ريثما يصار إلى انتخاب الأعضاء.
السيناريو الأول بالنسبة لهذا «المجلس» هو أن يجدد خامنئي رئاسة كرماني مع تجديد عضوية غالبية الأعضاء الحاليين، أما السيناريو الثاني فهو تقليص صلاحيات «المجلس» ليصبح مجلسًا استشاريًا للمتقاعدين السياسيين.
كثيرون من الخبراء المطلعين يرجحون السيناريو الثاني، من منطلق أن «المجلس» لن يستعيد الثقل السياسي الذي خسره برحيل هاشمي رفسنجاني، ولأن الفرصة باتت مؤاتية الآن للمرشد للحد من صلاحياته تجنبا لتكرار ظاهرة رفسنجاني.
وهناك مؤشر آخر لا يقل أهمية يتمثّل في رغبة كل من الحكومة والبرلمان بتقليص صلاحيات «المجلس» بسبب تقويض صلاحياتهما فيه بصيغته الحالية. وحقًا، لا يدافع عنه إلا قلائل على هامش اللعبة السياسية، والكل يطمعون في الجلوس على كراسيه. وعلى ضوء ما تقدم فإن تراجع صلاحياته أمر وارد.

مصير «الإصلاحيين» و«المعتدلين»
أما على صعيد قيادة معسكر «الإصلاحيين» و«المعتدلين» فإن الحديث يطول. وتكفي الإشارة إلى أن التساؤلات عن مستقبل التيار شغلت أنصار هذا المعسكر أو التيار الذين تسود في صفوفهم حالة من القلق والترقب.
لقد كان هاشمي رفسنجاني الشخصية التي تمحورت حولها أهم الشخصيات في التيار «الإصلاحي» - إلى جانب محمد خاتمي - بعد الانقسامات التي شهدها التيار في انتخابات الرئاسة 2005، وهي تلك الانقسامات التي سهّلت صعود «المتشدد» أحمدي نجاد، وكان تيار «المحافظين» و«المتشددين» حقًا أكبر المستفيدين من الفوضى بين «الإصلاحيين». بل إن حتى وجود أحمدي نجاد في منصب الرئاسة أخفق في الدفع للملمة شمل البيت «الإصلاحي»، فتكرّر التنافس في انتخابات عام2009، عندما انقسم «الإصلاحيون» بين مهدي كروبي وميرحسين موسوي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تفجر احتجاجات «الحركة الخضراء» (الإصلاحية) عشية إعلان فوز أحمدي نجاد ورفض «الإصلاحيين» نتائج الانتخابات، أدى إلى اختفاء كروبي وموسوي عن المشهد السياسي عقب إقرار «المجلس الأعلى للأمن القومي» فرض الإقامة الجبرية عليهما في مارس 2011 بالتزامن مع حملة القمع الواسعة التي استهدفت الاحتجاجات السلمية.
ومن ثم، بعد اعتقال عدد كبير من «الإصلاحيين» لم يبق خارج السجن من قادتهم سوى خاتمي (الذي أصبح بعد ذلك رمزا لـ«الإصلاحيين») حسن الخميني، حفيد الخميني الذي راهن «الإصلاحيون» على موروث جده في ردهات السلطة لكسب ود أنصاره.
أما السبب الآخر لتغير وضع معسكر «الإصلاحيين» فكان دخول هاشمي رفسنجاني على الخط. ذلك أنه على الرغم من الضربة التي تلقاها رفسنجاني من «الإصلاحيين» أيام خاتمي فإنه آثر الدخول على خطهم، لا سيما أن القادة «الإصلاحيين» الذين استهدفوه باتوا الآن خارج اللعبة. وبالفعل، حمل دخول رفسنجاني على الخط معطيات جديدة لـ«الإصلاحيين» وللمشهد السياسي الإيراني بشكل عام.

كيف جرى ذلك؟

جرى كما يلي:
1 - غياب الزعماء والقادة الميدانيين ترك الساحة مفتوحة أمام محمد خاتمي، الذي كان وزيرا من وزراء هاشمي رفسنجاني، وكانت حكومته امتدادًا في كثير من زواياها لحكومته (كان وزراء الداخلية والاقتصاد والنفط والثقافة والتعليم وغيرهم... من حكومة رفسنجاني). وكان خاتمي يحمل رؤية مفادها الاقتراب من رفسنجاني وتأسيس ما يُعرف بـ«الجبهة الوسطية». وهذا ما جعل الباب مفتوحًا أمام رفسنجاني ليدخل البيت، ولم يكن هو الرجل الذي يرفض الدخول.
2 - وصول منظّري «الإصلاحيين» إلى قناعة بأنهم يجب أن يحتموا بعباءة رفسنجاني. إذ بعد تلقيه ضربات لفترة طويلة وصل عقلاء «الإصلاحيين» إلى خلاصة مفادها أنهم عرّضوا أنفسهم لحرارة الشمس وقصوا أجنحتهم بأيديهم مقابل السلطة المطلقة التي يتمتع بها خامنئي. وبالتالي، عليهم تحكيم «العمود الآخر للسلطة»، أي رفسنجاني، كي يحميهم من سياط «المحافظين». بعبارة أخرى توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن خروج رفسنجاني من السلطة سيؤدي حتمًا إلى إطلاق يد خامنئي ومن معه من «المتشددين»، في حين أن بقاء رفسنجاني قويًا سيعني الحد من هامش حرية هؤلاء. وبناء عليه، قرروا الاقتراب منه.
3 - الخط السياسي الذي أسسه وزراء هاشمي رفسنجاني وكبار مساعديه في حزب «عمال البناء» - الذي كان منعزلا عن «الإصلاحيين» - دخل على الخط من جديد. وكان هؤلاء قد دخلوا قبل ذلك - بإذن من رفسنجاني - على الخط في التنافس بين علي أكبر ناطق نوري ومحمد خاتمي عام 1997، إذ دعموا خاتمي وكان لهم أثر بالغ في فوزه. كما شكلوا العمود الفقري لحكومته قبل أن ينعزلوا عن «الإصلاحيين». لكنهم الآن عادوا بكامل قواهم إلى المعسكر «الإصلاحي».
4 - رفسنجاني نفسه أحس أنه لا بد له من الاقتراب من الخط «الإصلاحي». إذ في أعقاب صعود نجم محمود أحمدي نجاد عزم الأخير على ضرب «الإصلاحيين» وتصفية حساباته معهم. واللافت أن المرشد الأعلى اتخذ موقفًا داعمًا لأحمدي نجاد، ما أغضب رفسنجاني كثيرًا، فترك إمامة الجمعة في العاصمة طهران، وكتب رسالة من دون سلام إلى المرشد وانعزل عنه نهائيًا. وجاءت الضربة القاضية في رفض أهلية رفسنجاني من قبل مقربي المرشد إبان المعركة الرئاسية الماضية. كل ذلك جعل رفسنجاني يفكر جديًا في التقرب من «الإصلاحيين» لاستعادة بعض نفوذه المتراجع.
5 - نتيجة لكل ذلك، تشكل مشهد من خصوصياته تشكيل جبهة واسعة من «الإصلاحيين» و«المعتدلين» أخذت تتسع يومًا بعد يوم، و«تسرق» عددًا من الوجوه من معسكر «المحافظين» (مثل علي لاريجاني وعلي أكبر ناطق نوري وعلي مطهري وآخرين كثيرين على رأسهم الرئيس حسن روحاني نفسه) ونقلهم إلى جبهة تميل إلى الإصلاحات أكثر من ميلها إلى «المحافظين».
وكان من خصوصيات هذا المشهد الابتعاد عن الجموح «الإصلاحي» وتغليب الحكمة والتحكيم وسعة الصدر، وكذلك غلبة رفسنجاني على المشهد كرأس يتبعه خاتمي وحسن الخميني... وظهر أثر ذلك في ميل «الإصلاحيين» نحو التضحية بوجه بارز من وجوههم (محمد رضا عارف الذي كان مساعدا لخاتمي) من أجل رجل من رجال رفسنجاني (روحاني) خلال سباق الرئاسة 2013 من دون أن يحدث ذلك ضجيجا لدى الجبهة «الإصلاحية».
6 - ربما يعود الكثير مما تقدم ذكره إلى سجل رفسنجاني «البراغماتي» في بنية النظام، ولكن واقع الأمر أن من ينظر بعمق أبعد يجد أن «الإصلاحيين» كانوا سيظلون مختلفين لولا تدخل الرجل الذي تقدم بهم، بالفعل، خطوات إلى الأمام وأعاد تنظيمهم من جديد، أنه وضع حدودًا لطموحاتهم السياسية لكي يصطفوا كلهم في «جيش» روحاني.
لكن هذا «البراغماتي» الجامع الذي «لصق» شراذم «الإصلاحيين» قد رحل، ولذا لا بد من التساؤل عن شكل المشهد «الإصلاحي» - أو قُل «الوسطي» بتعبير أصح - بعده؟
ربما يمكن القول إن «الإصلاحيين» قد ينقلبون على أعقابهم، فمن جهة حزب «عمال البناء» المقرّب من رفسنجاني قد يفقد لحمته بـ«الإصلاحيين»، ويعود للابتعاد عنهم ليلتصق أكثر فأكثر بالرئيس روحاني. ومن جهة أخرى، قد يفقد روحاني يفقد أواصره بـ«الإصلاحيين»، خاصة في ظل ابتعاد خاتمي عنه. صحيح أن ذلك لا يتضح خلال الشهور القليلة المقبلة، لكن ثمة مؤشرات على أن هذا «الطلاق» يلوح في الأفق، ويرى كثيرون أنه أمر لا بد منه.
إن المتفحص المدّقق يجد خطين بين «الإصلاحيين» من قديم الزمان إلى يومنا هذا تعيد إنتاج ذاتها مع كل الظروف. هذان الخطان هما: خط «الإصلاحيين الصقور» الذين يؤكدون على الماهية المستقلة للإصلاحات وينادون بضرورة الإصرار على اكتفاء الإصلاحات بذاتها بجانب اكتفائها بالدعم الشعبي، وعدم الانفتاح على الآخر (هؤلاء هم الذين طرحوا شعار «تجاوز خاتمي» ومارسوا الضغط عليه من أجل أن يبتعد عن التيار «الوسطي»، ويعيد إنتاج الحكومة «الإصلاحية» الخالصة، ما أدى إلى إصلاح داخل حكومة خاتمي وخروج رجال رفسنجاني منها). وخط «الإصلاحيين الحمائم» الذين ينادون بالاندماج مع باقي التيارات الوسطية من أجل مواجهة الخط الآخر.
هذا الفريقان يعيدان إنتاج نفسيهما الآن، وبعدما كانت هيمنة رفسنجاني تلعب دورًا مؤثرًا في إضعاف «الصقور» وتقوية «الحمائم»، ما ساهم بوقوف التيار «الإصلاحي» وراء روحاني في الانتخابات الأخيرة على الرغم من وجود مرشح «إصلاحي» (هو عارف)، فإن الشرخ بينهما قد يتسع من جديد.

نقاط ضعف خاتمي

ويمكن هنا القول إن خاتمي قد لا يستطيع أن يلعب الدور نفسه في لملمة «الإصلاحيين» لعدة أسباب منها:
1 - أن خاتمي ليس مقبولاً من قبل كل تيارات النخب «الإصلاحية» على الرغم من شعبيته الواسعة. والكلام هنا ليس عن الشعب، بل عن النخب الناشطة. أثبتت التجربة أن خاتمي لا يستطيع توحيد الصف بمستوى قدرته على تجييش الشارع، ذلك أنه وظيفيًا عنصر شعبي وليس عنصرًا تنظيميًا، بعكس رفسنجاني. في حين أن ما يحتاجه «الإصلاحيون» في الفترة المقبلة هو العنصر التنظيمي أكثر من العنصر الشعبي.
2 - نتائج هذا الانقسام في الخط «الإصلاحي» ستنعكس على جبهة روحاني خلال الانتخابات. وأغلب الظن أن إجماعًا في الصف «الإصلاحي» مثل الذي حدث خلال الانتخابات الرئاسية الماضية أو ذلك الذي جربناه خلال انتخابات البرلمان قد لا نراه في الانتخابات المقبلة، وخلال العمل السياسي في الفترة الآتية. ومن أسباب ذلك الشرخ الذي تكلمنا عنه وكذلك غياب منافس شرس من «المتشددين» يستطيع تخويفهم، وبالتالي يفرض عليهم التكتل تحت راية واحدة. وللعلم، فإن روحاني هو الوحيد حتى الآن - على الأقل - في الصورة، لكن تكتل «الإصلاحيين» قد يدفعهم للابتعاد عنه وترشيح أحد «الصقور» بدلاً منه.
3 - على صعيد الزعامة سيعاني «الإصلاحيون» من مشاكل كثيرة. إذ إن رفسنجاني، استطاع خلال حياته السياسية أن يخلق زعامة على مستويين: المستوى الأول هو «المربّع» المكوّن من خاتمي وحسن الخميني ورفسنجاني وروحاني. أما المستوى الثاني فيضم العشرات من القادة المتوسطين مثل عارف وعلي لاريجاني وناطق نوري ومطهّري (صهر لاريجاني و«عرّاب الإصلاحيين» هذه الأيام في البرلمان) وشخصيات من العيار العالي نفسه، أو أقل منه، لا طريق لهم إلى «المربّع» الأول بسبب هيمنة رفسنجاني بالذات.
ولكن رحيل رفسنجاني سيجعل «المربّع» الأول عرضة للتفكك، كما يفتح الباب أمام المستوى الثاني ليطمح إلى الصعود إلى المستوى الأول. وما يزيد الوضع سوءًا هو عوز خاتمي لمزايا الزعامة وصفاتها، وقلة التجربة لدى حسن الخميني، وإحجام «الإصلاحيين» عن مبايعة روحاني، وشعور كل من ناطق نوري ولاريجاني أنهما بنفس مكانة الثلاثي الآنف الذكر (خاتمي والخميني وروحاني)، ما يقلل من نسبة وفائهم والتزامهم.
ومن ثم، فإن العنصر الذي قرّب عددًا كبيرًا من «المحافظين» سابقًا (على رأسهم روحاني وناطق نوري ولاريجاني) إلى التيار «الإصلاحي» ليخلق ما بات يعرف بالتيار «الاعتدالي» أو «المعتدل» قد مات. وهو ما يعني تفككًا محتملاً في النظام من شأنه إخراج الحالة من قطبية «الاعتدال» - «التشدد» إلى ثلاثية «الإصلاحيون» - «الوسطيون» - «المحافظون المتشددون».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.