من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس
TT

من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس

أعلنت الجمهورية التركية عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - بعد صراع مرير مع المحتل البريطاني واليوناني والأرميني، تحت قيادة الزعيم التركي مصطفى كمال «أتاتورك». ولقد خاض «أتاتورك» حرب استقلال ضروسًا، ليس فقط لإجلاء القوات الأجنبية، بل لإعادة التفاوض أيضًا على «اتفاقية سيفر» التي وقعها السلطان العثماني مع الحلفاء بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى، والتي قلصت الدولة التركية الحديثة إلى دويلة في قلب الأناضول لحساب الدول التي حولها.
وبالفعل، حقق القائد التركي مراده من خلال «اتفاقية لوزان» التي أعادت الهيبة إلى الدولة التركية الوليدة، من خلال الاعتراف بشرعية حكومة أنقرة التي صنعها «أتاتورك»، وأعادت أيضًا كل أراضي الأناضول وأكثر إلى أحضان هذه الدولة، ومنحتها السيادة على مضيقي الدردنيل والبوسفور. وبذا، ولدت الدولة التركية الحديثة بأرواح شهدائها ودم أبنائها، وانتُخب «أتاتورك» زعيمًا للدولة التركية الحديثة، وغدا لزامًا عليه إعادة صياغة الدولة الجديدة، بل والأخطر من ذلك إعادة مفهوم القومية الذي بُنيت عليه هذه الدولة الوليدة.
واقع الأمر أن «أتاتورك» تبنّى مفهومين أساسيين مُنِحَ من خلالهما الشرعية الجديدة التي شيد عليها هذه الدولة، هما: القومية التركية، والعلمانية. هذان المفهومان مترابطان إلى حد كبير داخل وجدان الدولة التركية، على الأقل حتى يومنا هذا. ذلك أن فكرة «تركيا للأتراك»، التي هي أساس الفكر القومي الحديث، لم تكن مفاجئة بالنسبة لكثير من الساسة والمراقبين الدوليين لبزوغ الدولة التركية الحديثة. إذ قرّر الرجل تبني مفهوم القومية التركية المبنية على كتابات المفكر التركي ضياء غوكالب الذي سعى بشكل كبير لمحاولة الإشارة إلى روح القومية التركية المبنية على أساس اللغة التركية والعمق الثقافي - بل والإثني - التركي على أساس الدائرة القومية الأولى لها في هضبة الأناضول، وهي البؤرة الجغرافية التي ذابت فيها القبائل التركية والتركمانية وغيرها، لتلد الثقافة التركية مع مرور القرون، كما أنها المركز الجغرافي الذي يفصلها عن القوميات الأخرى، خاصة العربية والفارسية، ولكنها ترتبط بهما من خلال مفهوم الأممية العثمانية بحكم تمثيل السلطان العثماني للخلافة الإسلامية.
ولقد اعتنق «أتاتورك» أفكار غوكالب، وما طرحه من دوائر للقومية التركية، من مركزها في الأناضول إلى المناطق المجاورة الممتدة لتركيا حتى وسط آسيا، وهو ما يعكس إلى حد كبير الرؤية التركية التي ترى في بعض الجمهوريات ذات الأصول التركية صلة قومية وشبه لغوية، مثل أذربيجان وتركمانستان وغيرهما. وساعد «أتاتورك» بشكل كبير في مشروعه القومي هذا أن الأرضية الفكرية على المستوى الدولي كانت ممهِّدة لمثل هذه الأفكار، إذ اعتبر كثير من المؤرخين القرن التاسع عشر «قرن الدولة القومية» المبنية على أساسي اللغة والثقافة المشتركتين، وعضد من هذا التوجه الشرعية التي منحها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في «نقاطه الـ14» أمام «مؤتمر صلح فرساي»، بعد الحرب العالمية الأولى.
وهكذا، لحقت تركيا الحديثة بالركاب السياسي والفكري الأوروبي السائد في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن من الصعب تقبل هذه الفكرة من الأساس. غير أن مشكلة «أتاتورك» لم تكن محصورة في المعارضة الدولية، بل المشكلات الخاصة بالفكر الأممي المرتبط بشكل مباشر بالسلطان ومفهوم الخلافة الإسلامية، فعلى مدار أربعة قرون من الزمان ترسخ لدى المواطن الأناضولي البسيط أن السلطان، بما يمثله، يحمل في طياته البذور الدينية باعتباره استمرارًا للخلافة الإسلامية، وبذا يؤمّن للدولة بشكل مباشر الشرعية لحكم كثير من الأقطار الإسلامية والعربية على مدار قرون. هنا، اختلط الفكر السياسي بالديني، ومن ثم كانت فكرة القومية قليلة الجاذبية، بالإضافة إلى هوية دينية دفينة داخل وجدان المواطن الأناضولي.
هذا الأمر جعل «أتاتورك» يسعى بشكل عنيف لاقتلاع المفهوم الأممي الذي كانت الدولة مبنية عليه. ومن ثم، استعر صراعه مع السلطان إلى أن أعلن الجمهورية، وأعقبه بقرار إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية من الأساس. هذه الخطوات، على صعوبتها، كانت أسهل بكثير على الزعيم التركي الطموح من إقناع المواطن التركي البسيط بفكرة «فصل الدين عن الدولة»، أو ما يعرف بـ«العلمانية»، أو ما يطلق عليه اليوم مجازًا دون خلفية أكاديمية حقيقية لفظ «المدنية».
وهنا، كان دور «أتاتورك» القوي في فصل البعد الديني ومؤسساته عن إدارة الدولة ومؤسساتها في أنقرة. وهذه كانت مشكلة كبيرة لم يتغلب عليها بمرور الوقت إلا بقوة العزيمة، و«الكاريزما» الشخصية، وتركته السياسية والعسكرية التي جعلته بطلاً قوميًا استجاب الكثيرون لرؤيته، فوضع الدولة التركية الحديثة على المسار السياسي العلماني. ومن الخطوات الراديكالية الصعبة التي اتخذها في سبيل تحقيق مشروعه تغيير شكل الهوية التركية، ومنحها طابعها المميز، بعيدًا عن الإرث التاريخي والديني. وفي هذا المجال، كان من أهم ما اتخذه من قرارات هو تغيير الأبجدية العربية، والاستعاضة عنها بالأبجدية اللاتينية، لفصل الدولة الوليدة عن إرثها الإسلامي، وتقريبها من الثقافة الغربية. ولقد أصر «أتاتورك» على إتمام هذه الخطوة خلال أشهر معدودات، على الرغم من معارضة كثيرين من مؤيديه لاعتقادهم بضرورة منح الشعب التركي وقتًا لهضم هذه الخطوة فكريًا، لكنه أصر على ذلك، وأعطى دروسًا بنفسه إلى العامة، ليكون مثالاً يحتذى به. كذلك، وعلى الفور، اتخذ قرارًا جديدًا يمنع ارتداء الجلباب، ويفرض على الشعب الزي الغربي وارتداء القبعة، وكان عنيفًا في تطبيق هذا القرار.
ولم يتوقف سعي «أتاتورك» لتغيير الهوية التركية عند هذا الحد، بل إنه تبنى القوانين السويسرية لإخراج الدولة التركية من تركة القوانين السلطانية - المتخلفة من وجهة نظره . وكان من ضمن ما فرضه منع تعدّد الزوجات، ومنح المرأة حقوق الرجل نفسها في الميراث، والحرية المطلقة في الزواج، وأيضًا منحها حق التصويت الحرّ أسوة بالرجل. وهكذا، لم يكن من المستغرب أن يكون في برلمان عام 1935 تمثيل للمرأة بلغ 17 امرأة، وبذا سبق بعض القوانين الوضعية الغربية التي لم تكن تسمح للمرأة بالتصويت من الأساس. ثم إنه سعى لتطوير المرأة فكريًا، ومنحها حقوق التعليم نفسها، إضافة إلى سعيه الدؤوب من أجل تغيير زي النساء ليتماشى مع الغرب، وتبنى بنات كثيرات، وسعى لجعلهن نموذجًا يحتذى به.
بطبيعة الحال، لم يكن «أتاتورك» ليفعل كل هذا من دون معارضة داخلية ارتأت إما رفض تغيير الهوية الأناضولية التركية، أو رفض الخطى السريعة التي أراد الرجل تطبيق هذه التغييرات من خلالها. إلا أن شخصيته الحازمة كانت أقوى من التأثير على مسارٍ رسمه، إذ أصر على مواقفه ورؤيته وخطاه. ولقد تطورت بعض المعارضة، فبلغت محاولة اغتياله في مناسبات عدة، كان أهمها عام 1926 في مدينة إزمير، ولكن المؤامرة فشلت، وألقي القبض على الجماعة المتهمة، وواجه «أتاتورك» الشخص الذي حاول قتله، وطلب منه أن يقتله، لكن الرجل انهار، وأعدم لاحقًا.
كثرة من المصادر التاريخية تؤكد أن تركيا دانت لـ«أتاتورك» بعد هذه المحاولة تمامًا، وما عاد باستطاعة أحد أن يوقف قطاره، خصوصًا أنه اتبع سياسات اقتصادية هادفة حسّنت بشكل كبير - وبزمن قصير - أوضاع المواطن. وهو ما أعطاه المزيد من الشرعية، وقوة الدفع لتنفيذ أهدافه، فوضعت تركيا على مسار التطوّر الاقتصادي المنشود، ولكن بطبيعة الحال ليس من دون مشكلات.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فاتبع «أتاتورك» سياسة خارجية متوازنة أدت إلى إطفاء كثير من التوترات التي كانت قائمة مع دول الجوار التي تعاني منها تركيا إلى يومنا هذا. وكان الرجل حكيمًا في هذه الخطوات، عندما ركّز على التطوير والتغيير الداخلي، وما كان ميالاً لأن يُستهلك أو تُستهلك الدولة في صراعات خارجية تؤثر على مشروعه القومي والتنموي. وفي هذا السياق، وقع على «ميثاق سعد آباد» الذي بمقتضاه طبع العلاقات مع إيران والعراق، بعد صراعات تاريخية مريرة، كما طبّع العلاقة مع اليونان - العدو التاريخي للدولة العثمانية - مما جعل رئيس وزرائها إيليفثيريوس فينيزيلوس يرشحه لجائزة نوبل للسلام، في تحرّك غير مسبوق، وأدت هذه السياسة إلى تجنيب تركيا خوض حروب خارجية لا فائدة منها.
هكذا، غيّر مصطفى كمال «أتاتورك» مسار الدولة العثمانية وتاريخها، وضمن ميلاد دولة تركية أساسها الفكر القومي التركي، وعقيدتها «العلمانية». ولقد ظل مؤمنًا بمشروعه القومي حتى أنه عندما طلق زوجته «لطيفة»، سأله أحد الصحافيين عن سبب عدم زواجه، فقال إنه قرّر الزواج من تركيا، كما أنه حافظ على قناعاته إلى أن مات في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1938، بعدما نجح إلى حد كبير في تطبيق رؤيته، وخلق الكيان التركي الذي نراه اليوم. وأيًا كانت الآراء، أو وجهات النظر، التي يتناول بها المؤرخون سيرة هذا الرجل، أو تجربته، فإن الثابت تاريخيًا أنه نجح في مشروعه السياسي والقومي، كما نجح في معاركه الحربية المهمة والمحورية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.