وثائق {سي آي إيه} الرؤية الأميركية للاستيطان الإسرائيلي (1): وتيرة بناء المستوطنات في غزة تصاعدت بعد 1967

انزعاج الولايات المتحدة من إسرائيل خفت علنًا واشتعل سرًا

الجيش الإسرائيلي يستجوب فلسطينيين في مخيم جباليا بقطاع غزة عام 1968 (غيتي)
الجيش الإسرائيلي يستجوب فلسطينيين في مخيم جباليا بقطاع غزة عام 1968 (غيتي)
TT

وثائق {سي آي إيه} الرؤية الأميركية للاستيطان الإسرائيلي (1): وتيرة بناء المستوطنات في غزة تصاعدت بعد 1967

الجيش الإسرائيلي يستجوب فلسطينيين في مخيم جباليا بقطاع غزة عام 1968 (غيتي)
الجيش الإسرائيلي يستجوب فلسطينيين في مخيم جباليا بقطاع غزة عام 1968 (غيتي)

منذ العام الذي تلا نكسة 1967، بدأت حركة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة تثير انزعاج الولايات المتحدة، لكن التعبير عن هذا الانزعاج ظل خافتًا على المستوى العلني، وصاخبًا في التقارير السرية.
وربما أن أول تقرير في هذا السياق هو الصادر عن الاستخبارات الأميركية في 11 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1968، ويتضمن تقييمًا مبكرًا لمخاطر الاستيطان، غير أنه لسبب غير معروف تعمدت الوكالة عند إزاحة ستار السرية عن التقرير إلى طمس الجهة التي يُفترض أن التقرير كان موجَّهًا إليها، وأبقت على كلمة «سري» في أعلى التقرير، ويحمل التقرير تقييمًا شاملاً لمواقف الأطراف من الاستيطان وتحذيرًا من أنه مع مرور الأيام سوف يتمخض عن أكبر عقبة في طريق تحقيق تسوية سلمية للصراع العربي - الإسرائيلي.
وأشار التقرير إلى أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر والعاهل الأردني الملك حسين ربما يكونان الوحيدين القادرين في تلك الأيام على المشاركة في مفاوضات جادة لتسوية الصراع، وأنهما راغبان في ذلك.
وأشارت الوكالة في التقرير ذاته إلى أن عبد الناصر والملك حسين لديهما الاستعداد كذلك لدفع ثمن العودة إلى حدود ما قبل عام النكسة، وأن هذا الثمن سيتحملانه بصورة شخصية من خلال التضحية بسمعتهما وشعبيتهما جراء القبول بأي تسوية لا تحظى بتأييد الشعوب العربية، إضافة إلى حملات إعلامية سيتعرضان لها جراء الموافقة على أي تسوية تبدو للعرب غير عادلة، أو تتضمن شروطًا قاسية يجب عليهما الالتزام بها.

جهود استيطانية في القطاع
وفي تقرير آخر تحت عنوان «أنشطة الاستيطان الإسرائيلي تحت حكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية»، جاء بعد سنوات طويلة وتطورات كبيرة على التقرير الأول. استعرضت الاستخبارات الأميركية مشكلة تصاعد وتيرة بناء المستوطنات وتسكين المستوطنين في قطاع غزة في ظل حكومة تصفها إسرائيل بأنها حكومة وحدة الوطنية ولكن بزعامة حزب الليكود المتشدد.
جاء في التقرير أنه على الرغم من أن الجهود الاستيطانية الإسرائيلية في قطاع غزة تأتي في المرتبة تتلو مرتبة مرتفعات الجولان، وفي مرتبة هي أدنى كثيرًا عن تلك الجهود القائمة في الضفة الغربية، فإن قطاع غزة هو الإقليم الوحيد الذي شهد ارتفاعًا في وتيرة البناء داخل المستوطنات خلال العامين الأولين من حكومة «الوحدة الوطنية الإسرائيلية».
وأشار التقرير إلى البدء في تشييد مستوطنة واحدة جديدة، على الأقل، واستكمال تشييد مستوطنة أخرى، والتطوير المكثف للمرافق السياحية المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وقال التقرير إن إسرائيل بدأت بناء 224 وحدة سكنية جديدة في مستوطنات قطاع غزة منذ سبتمبر (أيلول) عام 1984، مقارنة بـ178 وحدة سكنية جديدة خلال العامين الأخيرين من حكومة الليكود المؤيدة لبناء المستوطنات. وعلى الرغم من هذه الإنشاءات الجديدة، زاد تعداد سكان المستوطنات بنحو 250 نسمة فقط مقارنة بنحو 1050 نسمة في الفترة بين سبتمبر 1982 وسبتمبر 1984.
ويرجع ذلك في جزء منه إلى عدد كبير من الوحدات السكنية غير المأهولة داخل المستوطنات. وإننا لا ننتظر أية زيادة في المستقبل القريب في وتيرة بناء المستوطنات بعد تغيير رؤساء الوزراء في إسرائيل، الذي تم في منتصف أكتوبر. ومن المؤكد أن تنخفض تلك الوتيرة فعليا.

إقامة «يهودية دائمة»
وقدم التقرير خلفية لصانع القرار الأميركي عن الاستيطان قائلا إن الحركة الاستيطانية بدأت منذ يونيو (حزيران) عام 1967، حيث اتبعت تل أبيب سياسة تشجيع تشييد المستوطنات اليهودية الدائمة في الأراضي المحتلة، الرامية إلى ترسيخ مزاعمها وسيطرتها على الأرض.
ومن بين 17 مستوطنة إسرائيلية مشيدة بالفعل في قطاع غزة، شيدت وزارة حزب العمل 4 مستوطنات جديدة (كلها تقع في النصف الجنوبي من القطاع) في الفترة بين عامي 1967 و1977. وعلى الرغم من أن هذه المستوطنات - على غرار مستوطنات أخرى في مرتفعات الجولان ووادي الأردن - موجهة بشكل عام نحو الجهود الزراعية، فإن بناءها قد ساعد في تلبية أهداف حزب العمل في تركيز وجود المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الاستراتيجية من الأراضي المحتلة للمساعدة في تشكيل المحيط الدفاعي الأكثر أمانًا، وحتى يمكن الاحتفاظ بها في أي تسوية مستقبلية تحت شعار الأرض مقابل السلام، (وكان في شهر مارس/ آذار، وفي أعقاب المناقشات الحامية بين الصقور والحمائم، تمكن حزب العمل من استبعاد مستوطنات جنوب قطاع غزة من على قائمة المناطق الأمنية خاصته)، ومع وصول حكومة حزب الليكود إلى السلطة في عام 1977، استمرت سياسة حزب العمل بشأن المستوطنات في قطاع غزة، ولكنها ضاعفت الجهود بوتيرة كبيرة في محاولة لجعل هذا الجزء غير قابل للانقسام عن كيان دولة إسرائيل. وتمكنت إسرائيل في عهد حكومة الليكود، بين عامي 1977 و1984، من إنشاء 11 مستوطنة جديدة في قطاع غزة.

بناء المستوطنات بعد الانسحاب من سيناء
ولخص التقرير حركة البناء أواخر عام 1984 بأن إسرائيل قامت بالبدء في بناء 224 وحدة سكنية، مع استكمال بناء 196 وحدة منها بالكامل. وهذا يقارن بناء 178 وحدة سكنية بين سبتمبر 1982 وسبتمبر 1984، مع استكمال بناء الوحدات كافة خلال تلك الفترة. كما كشف عن ارتفاع السعة السكانية في مستوطنات قطاع غزة بنحو 935 نسمة إلى 3455 نسمة مقارنة بزيادة تقدر بنحو 850 نسمة خلال العامين الماضيين. وأفاد بأنه تم البدء في بناء 144 وحدة أخرى، للأغراض غير السكنية، منها 52 صوبة زراعية. مقارنة بـ289 وحدة غير مخصصة للسكن بدأت خلال العامين السابقين، ومن بينها 187 صوبة زراعية.
وإجمالاً للقول، منذ مبادرة السلام الأميركية في سبتمبر من عام 1982، التي اقترحت تجميد جهود بناء المستوطنات الإسرائيلية، بدأت إسرائيل في بناء 402 وحدة سكنية جديدة في قطاع غزة، وزادت من السعة السكانية هناك بنحو 1925 نسمة، بحسب التقرير.
التوطين
قدرت الوكالة وجود نحو 1940 مستوطنًا يهوديًا يعيشون في مستوطنات قطاع غزة، بزيادة قدرها 250 مستوطنًا منذ سبتمبر 1984، حتى تاريخ كتابة التقرير، وزيادة قدرها نحو 1300 مستوطن منذ سبتمبر 1982.
وخلال السنوات الأخيرة من كتابة التقرير، لم تتفق الزيادة المسجلة في عدد المستوطنين مع الزيادة المسجلة في عدد الوحدات السكنية الجديدة في مستوطنات قطاع غزة. ومن شأن الوحدات السكنية غير المأهولة أن تستوعب نحو 1500 مستوطن جديد بأكثر من المستوطنين المقيمين فعليًا في المستوطنات.
وتعكس هذه الفجوة، في جزء منها، بين التعداد الفعلي والسعة السكانية للمستوطنين الوحدات السكنية المشيدة حديثًا وغير المأهولة بالسكان حتى الآن في مستوطنة «بينه ازمون »، ومستوطنة «ينفيه ديكاليم»، ومستوطنة «شاطئ غزة».
توقعات الوكالة لمستقبل الاستيطان
في تقدير الوكالة، حسبما جاء في التقرير، فإن جهود بناء المستوطنات في قطاع غزة في ظل حكومة التي كانت قائمة بقيادة حزب الليكود، سوف تستمر، ولكن ربما بوتيرة أبطأ. ولاحظت الوكالة أنه خلال العامين الماضيين كان حزب الليكود يعتبر أن الضفة الغربية تملك أهمية اقتصادية، ودينية، واستراتيجية كبرى بالنسبة لإسرائيل.
وبسبب التعداد السكاني الكبير للمستوطنين في الضفة الغربية، وتأثيرهم السياسي من زاوية حزب الليكود، فمن شأن حزب الليكود محاولة توجيه أغلب الموارد المحدودة والمتاحة للمستوطنات نحو الضفة الغربية بدلاً من قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نتوقع بطئًا محتملاً في جهود البناء حتى يتم تسكين العدد الكبير الخالي من الوحدات السكنية المشيدة بالفعل داخل المستوطنات. وفي الوقت الراهن، فإن معدل الوحدات الخاوية إلى المسكونة في قطاع غزة هو أكبر مرة ونصف المرة من المعدل ذاته في الضفة الغربية.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.