وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (5): «سي آي إيه» تجري تقييمًا ذاتيًا لإخفاقاتها

بعد قبول طهران القرار الأممي لوقف إطلاق النار وإنهاء حرب الخليج الأولى

سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)
سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)
TT

وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (5): «سي آي إيه» تجري تقييمًا ذاتيًا لإخفاقاتها

سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)
سيدة إيرانية تودع ابنها المتجه للقتال في العراق (غيتي)

خلال العام الأخير من الحرب العراقية الإيرانية، وعلى وجه التحديد قبل منتصف 1988، بدأت تظهر مؤشرات انتهاء المعارك، ومع ذلك استمر غالبية محللي الشأن الإيراني في وكالة الاستخبارات المركزية في تقديم استنتاجات خاطئة، عبر دائرة تحليل المعلومات إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ونائبه جورج بوش، ووزير خارجيته جورج شولتز، مفادها أن المرشد الديني الإيراني آية الله الخميني لن يقبل أبدًا بوقف غير مشروط لإنهاء الحرب مع العراق، في ظل التوازن القائم بين البلدين الجارين المتحاربين.
وخلافًا لتوقعات المحللين، أعلنت طهران قبولها لقرار أممي يدعو إلى وقف إطلاق النار، وهو ما جعل مسؤولي الوكالة يشعرون بالإحراج أمام صناع القرار. ولهذا السبب، قررت دائرة تحليل المعلومات في الوكالة مراجعة الكم الهائل من تقارير النصف الأول من عام 1988، في محاولة لمعرفة ما المقدمات الخاطئة التي قادت إلى التوصل لنتائج خاطئة.
ولجأ المعنيون بالتقويم إلى أسلوب علمي بحثي في المراجعة، إذ انتهى عملهم بورقة بحثية هدفت إلى استخلاص الدروس المستفادة من الأخطاء، وفي الوقت ذاته تقديم ما يشبه المرافعة لمسؤولي الوكالة بأن الإخفاق الجزئي لم يكن خطيرًا، استنادًا إلى نتائج وثيقة التقييم التي رأينا تسليط الضوء عليها هنا في الحلقة الخامسة والأخيرة، لما تتضمنها من إشارات وتلخيصات لتقارير كثيرة سبقت زمنيًا التاريخ الأصلي لهذه الوثيقة.
يعود تاريخ الوثيقة الأصلي إلى 17 أغسطس (آب) من عام 1988، وصنفت صفحاتها الـ12 بين «سري» و«سري للغاية».
رفعها ريتشارد ج. كير، نائب مدير دائرة المعلومات، إلى مدير وكالة المخابرات المركزية ونائبه حينها.
وهذا ما جاء في مقدمتها:
أرفق إليكم مع هذه المذكرة تقييمًا لتقارير موظفي دائرة تحليل المعلومات عن الإصرار الإيراني على مواصلة الحرب (مع العراق)، وأعتقد أنه من المفيد أن نتمعن جيدًا في مدى سلامة تقييمنا للضغوط التي تعرضت لها إيران قبل موافقتها على قرار الأمم المتحدة الشهر الماضي (يوليو/ تموز).
كما أعتقد أن تقييمًا مثل هذا جيد جدًا. وإذا كان هناك ما يمكن الإشارة إليه بشأن التقييم، فهو أن اتضاح الرؤية جاء بعد فوات الأوان، فلم تكن الرؤية واضحة لدينا بما فيه الكفاية في حينه، عن الجدل الداخلي الذي لا بد أنه قد جرى في إيران قبل إعلان قبول القرار. وأظن أن نتائج ذلك النقاش لم تكن قابلة للتأكد منها في ذلك الحين، وستجدون في المقتطفات المختصرة الملحقة بالتقييم المرفق معلومات مفيدة جدًا لفهم مراحل تطور تحليلاتنا.
وهناك واقعة معينة حيرتنا أكثر من غيرها، وهي اللامبالاة التي قابل بها الإيرانيون إسقاط طائرتهم. لقد كانت توقعات محللينا المدونة تؤكد أن الحادث سيدفع إيران إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا ضد الولايات المتحدة، وإلى تصعيد الحرب نفسها. ولكن على غير المتوقع، يبدو أن الحادث اعتبر بسيطًا أو هامشيًا إلى حد ما، من وجهة نظر الإيرانيين.

رفسنجاني هو من أقنع الخميني بوقف الحرب
على النقيض من الدراسات الأكاديمية التي تتألف من ثلاثة أجزاء، تبدأ بالمقدمة ثم التفاصيل وتنتهي بالخاتمة، فإن التقارير الاستخبارية تنحو منحى مختلفًا من حيث الترتيب، حيث تراعي ضيق الوقت وكثرة المهام لدى صناع القرار، فتبدأ بالخلاصة أو بالنقاط الجوهرية التي توصل إليها المحلل أو المحللون، ثم تدخل في شرح كيفية الوصول إلى تلك النتائج. فإذا تمكن صانع القرار من قراءة الورقة كاملة، فهو شيء جيد، وإن اكتفى بقراءة السطور الأولى منها، فيكون جوهر الموضوع قد وصل إليه، لأنه مدون في تلك السطور التي لا يجب إهدارها بمقدمات أو شروح يفضل ألا تتصدر الأوراق المقدمة لكبار مسؤولي الدولة.
ولم تخرج ورقة التقييم الخاصة بتقارير الحرب العراقية الإيرانية عن هذه القاعدة، إذ إن دائرة المعلومات تولت إعدادها بهدف تحديد مكامن الخطأ، والكشف عن الدروس المستفادة من الإخفاق المفترض، ولهذا فقد بدأ التقييم بإيراد النتائج في نقاط جوهرية، على رأسها استدراك الوكالة أن المزيد من الاهتمام كان يجب أن يولى لدور هاشمي رفسنجاني الذي رجحت أنه كان راغبًا وقادرًا على تغيير موقف آية الله الخميني، وهو من تولى إقناعه بتجرع السم.

مجال الدراسة
كما استعرضت الوثيقة تقييمًا للإعلام، والمواد المتعلقة بإيران والعراق في النشرة الاستخبارية اليومية، والأبحاث والمذكرات والنقاط المكتوبة التي كانت بمثابة أساس لإحاطات شفوية. واستعرضت المذكرات والمراسلات المتبادلة بين الوكالات المختلفة خلال الفترة من 1 يناير (كانون الثاني) 1988 إلى 20 يوليو 1988. وركزت على إيجاد إجابات للأسئلة التالية:
ما المواضيع التحليلية الرئيسية والاستنتاجات التي ثبت صحتها؟ وهل تم عرضها بفاعلية واستمرارية؟
هل كانت الاستنتاجات بصورة عامة صحيحة في تفسيرها للأحداث والتقييمات والتحليلات؟
كيف تم تطوير توقعاتنا للتطورات المستقبلية، على وجه التحديد قرار إيران قبول وقف إطلاق النار؟
هل قدم المحللون العاملون في الملف العراقي الإيراني تغطية كافية خلال الفترة المشمولة بالتقرير؟

إخفاق التوقعات
«غني عن القول إننا لم نتوقع أن الحكومة الإيرانية ستغير (موقفها الراسخ) لمدة ثماني سنوات، وتقبل بوقف غير مشروط لإطلاق النار»، هكذا قيمت الوكالة أداءها الاستخباراتي في حرب الخليج الأولى.
ولكنها عادت لتبرر: «الطريق الوحيد الذي كنا سنعلم من خلاله بالتغيير الجذري في موقف إيران قبل إعلانه هو عن طريق مصدر لنا داخل دائرة الحكم الضيقة في طهران، وحتى هذا المصدر قد يكون قادرًا على إبلاغنا قبل أيام معدودة فقط من إعلان القرار».
ما أبداه محللونا في التحليلات المتعلقة بسير الحرب هو مدى التأرجح على الجانب الإيراني من وضع مريح إلى وضع يمكن تحمله، وفي الأخير وضع صعب مع حلول منتصف العام، ثم سرعان ما تحول إلى صعب جدًا إلى درجة لا تطاق في يوليو.

جيش إيراني متقهقر
ونوه التقرير إلى أن المحللين كانوا قد لاحظوا كذلك على الجيش الإيراني أن الروح المعنوية لجنوده قد أصبحت منخفضة، والاحتكاكات بين أفراده أصبحت كثيرة، فضلاً عن النقص الخطير في المعدات واللوازم، وصعوبة في التجنيد، وضعف في التدريب والقيادة. وفي المقابل، يختلف الأمر على الجانب العراقي، فهذه العوامل السلبية يقابلها تزايد روح العمل الجماعي بين أفراد القوات العراقية، وتم بذل جهد مفيد في التركيز على توظيف الحرب الكيماوية من قبل العراقيين، وتأثيرها على سير الصراع. وتجمع كل الاستنتاجات على أن جهود إيران غير مجدية لإجبار الولايات المتحدة وحلفائها من دول الخليج، على حد سواء، من خلال الوسائل الدبلوماسية والعسكرية.

الاستنتاجات الرئيسية
* غالبية المحللين ظلوا طوال الشهور السابقة لوقف إطلاق النار على قناعة بأنه لا شيء يمكن أن يجبر خميني إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات سوى تهديد وجودي لنظامه.

* في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من عام 1988 بدأت تظهر أقلية من المحللين لها وجهة نظر مخالفة مفادها أن طهران أصبحت مستعدة لإجراء محادثات.

* رأي الغالبية هو ما تم إدراجه في التقديرات الاستخباراتية العديدة، في النشرة الاستخبارية اليومية وفي الملف اليومي الخاص بالرئيس، وكذلك في جميع الأوراق البحثية والدراسات الأكثر تفصيلاً.

* كانت وجهتا النظر المتنافستان تعكسان اختلافًا في فهم المحللين للمناقشات التي كان تجري بين القيادات الإيرانية طوال هذه الفترة.

* ابتداء من أبريل (نيسان) بدأ المحللون إجراء نقاشات بشأن إمكانية التغيير في التفكير الإيراني بشأن وقف الحرب.

* أجمع الفريقان المتنافسان في وجهتي النظر، على صعوبة، وربما استحالة، التنبؤ بمتى يُمكِن إقناع آية الله الخميني بـ«تجرع السم»، حسب وصفه هو نفسه لمشاعره من وقف الحرب.

* كان يجب تولية المزيد من الاهتمام لدور رفسنجاني، الذي من المرجح أنه كان راغبًا وقادرًا على تغيير موقف آية الله الخميني، وكان من تولى إقناعه على تجرع السم.

* طوال الفترة ما بين 1 يناير (كانون الثاني) و20 يوليو (تموز) 1988، لم يتوقع غالبية المحللين مطلقًا أن تقبل الحكومة الإيرانية بوقف إطلاق نار غير مشروط.

* تحليلات الوثيقة كشفت ظهورًا تدريجيًا للنكسات العسكرية، والمشكلات الاقتصادية، والفشل الدبلوماسي في طهران، بحلول يوليو، مما وضع الخميني تحت ضغط كبير وحد من خياراته بشكل كبير.

* جرى توثيق حقيقة أن إيران بدأت بالتقهقر في حربها مع العراق.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.