وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (4): من بدأ الحرب العراقية ـ الإيرانية؟

وثائق أميركية «سرية للغاية» كشفت الظروف التي أدت إلى إشعال حرب الخليج الأولى

أول أحداث الحرب انفجار محطة الطاقة في بغداد في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1980 (غيتي)
أول أحداث الحرب انفجار محطة الطاقة في بغداد في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1980 (غيتي)
TT

وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (4): من بدأ الحرب العراقية ـ الإيرانية؟

أول أحداث الحرب انفجار محطة الطاقة في بغداد في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1980 (غيتي)
أول أحداث الحرب انفجار محطة الطاقة في بغداد في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1980 (غيتي)

من الإخفاقات التي تؤخذ على دائرة تحليل المعلومات في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) أنها انتظرت مضي 7 أعوام - لا 7 أيام - على بدء الحرب العراقية - الإيرانية، لتطرح على محللي وخبراء الشأن الإيراني والعراقي في الوكالة السؤال البديهي: من بدأ الحرب؟ وعندما بدأ المتحاربان يستنفدان قدرتهما على الاستمرار، أعد محللو الوكالة تقريرًا محكمًا وشاملاً للإجابة عن التساؤل المطروح من كل جوانبه، ولكن بعد فوات الأوان. وبدلاً من بحث وقف إطلاق النار أشغلت «سي آي إيه» محلليها بجدل من بدأ إشعال النار. وظلت طهران تردد أنها كانت مجبرة على خوض الحرب، وهو القول ذاته الذي ظلت بغداد تردده طوال سنوات الصراع. ولكن بغض النظر عمن كان البادئ الفعلي في الحرب العراقية - الإيرانية، فإن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إذا ما اعتبرناها طرفًا ثالثًا محايدًا، فإنها في جميع تقاريرها السرية المفرج عنها تؤكد بالأدلة والقرائن القوية أن الإصرار على استمرار الحرب كان من جانب إيران وليس العراق.

تفسر بعض تقارير الوكالة التشدد الإيراني في مسألة وقف الحرب أن القيادات الإيرانية تبدي قناعة كبيرة بأن العراق بقيادة رئيسه صدام حسين هو من أعطى نفسه حق تحديد زمن بدء الحرب، وبالتالي يتوجب حرمانه من حق اختيار توقيت إنهاء الحرب، ومنح هذا الحق للمرشد الإيراني الأول الخميني.

محكمة دولية لتحديد البادئ
تناولت وكالة «سي آي إيه» موضوع البداية والنهاية لحرب السنوات الثماني في وثيقتين بالغتي الأهمية تستعرضهما «الشرق الأوسط» في حلقتين؛ اليوم وغدًا. ستركز حلقة اليوم على الوثيقة المتعلقة بجدل من بدأ الحرب، في حين سيتم تكريس حلقة الغد لعرض وثيقة تتعلق بالكيفية التي انتهت عليها الحرب. ومن المفارقات في هاتين الوثيقتين أن الأولى تتضمن إشارة إلى أن المرشد الإيراني الأول، الخميني، أجبر على خوض الحرب، فيما تتضمن الثانية تأكيد أن الخميني أجبر كذلك على إنهاء الحرب، وتستشهد بقوله إنه وهو يقبل بوقف إطلاق النار كمن يتجرع السم الزعاف.
وثيقة بدء الحرب يرجع تاريخها الأصلي إلى 25 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1987 وتصنيفها «سري للغاية».
وأبرز ما جاء فيها هو إصرار إيران (والكلام هنا للاستخبارات الأميركية وليس للمحرر)، على أنها لن تدرس مسألة إقرار وقف إطلاق نار في حربها مع العراق حتى تحدد محكمة دولية من بدأ الحرب. ويلقي كل طرف بالمسؤولية على الآخر فيما يتعلق ببدء الحرب، والواضح أن كليهما أسهم في جذور الحرب. وبغض النظر عن مدى منطقية الحجة التي يطرحها كل طرف، من غير المحتمل أن تتفق طهران وبغداد في المستقبل القريب على تشكيل محكمة نظرًا لإصرار كل طرف على الاستعانة بأطراف «متعاطفة» معه.
وعلى امتداد المستقبل المنظور، لن ترضى إيران بمجرد صدور حكم من مثل هذه المحكمة لصالحها، وإنما ستصر على معاقبة صدام حسين وتقديم تعويضات لها. في الوقت ذاته، تدرك إيران أن احتمالات وصولها إلى مثل هذه النتيجة ضئيلة للغاية، لكن دعمها لفكرة المحكمة يتماشى مع الجهود الدبلوماسية الحالية للأمم المتحدة، ويعينها على تجنب الدخول في معارضة مباشرة لقرار الأمم المتحدة رقم 598 وتعرضها لعقوبات ضدها من جانب الأخيرة.
ومنذ عام 1980، اتفقت إيران والعراق على فكرة المحكمة الدولية لتحديد الطرف المعتدي في الحرب، لكن القضية حظيت باهتمام كبير منذ تمرير قرار الأمم المتحدة رقم 598، يوليو (تموز) الماضي.
وتنص المادة السادسة من القرار على أن يدرس الأمين العام للأمم المتحدة، بالتشاور مع الطرفين المتحاربين، فكرة تشكيل مثل هذا الكيان. إلا أن إيران تصر على أن تخلص المحكمة إلى قرار محدد وتعاقب المعتدي وتقدر التعويضات قبل الشروع في تنفيذ بنود أخرى من القرار الأممي تتعلق بوقف إطلاق النار وانسحاب إيران من مناطق عراقية. أما العراق، فيرى ضرورة تطبيق القرار على نحو متسلسل، وتبعًا لهذا التصور ستنشأ المحكمة فقط بعد وقف إطلاق النار والانسحاب الإيراني.
الحجج العراقية ضد إيران
يدفع العراق بحجة أن غزوه إيران في سبتمبر (أيلول) 1980 كان مبررًا بسبب محاولات طهران منذ مطلع عام 1979 إسقاط النظام العراقي. وتشدد بغداد على أن إيران دعت مرارًا لاندلاع انتفاضة ضد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عبر إذاعاتها وقدمت دعمًا ماديًا وماليًا للمنشقين من الشيعة والأكراد من العراقيين.
وطبقًا للجانب العراقي، فإن قتلة مأجورين هم من شاركوا في حملة إرهابية بتوجيه من طهران جرى تنفيذها داخل بغداد وبلغت ذروتها في محاولة قتل نائب رئيس الوزراء آنذاك طارق عزيز ووزير عراقي آخر في أبريل (نيسان) 1980.
أيضًا، سعت إيران نحو تقويض النظام العراقي عبر حملة من المضايقات الدبلوماسية والعسكرية، طبقًا لما أفاده مسؤولون عراقيون. وأشاروا إلى أن طهران استولت على قنصليتين عراقيتين غرب إيران في نوفمبر 1979، وعمدت باستمرار إلى قصف نقاط تمركز لقوات حفظ الحدود العراقية واخترقت الأجواء العراقية. وبلغت الانتهاكات الحدودية ذروتها في قصف 3 مدن حدودية عراقية في 4 سبتمبر (حادثة ترى بغداد أنها تشكل بداية الحرب).
رغم هذه الاستفزازات، يؤكد العراق أنه بذل جهودًا دؤوبة لبناء علاقات أفضل مع طهران. ويدعي العراق أنه بعث رسالة تهنئة إلى الخميني في فبراير (شباط) 1979 فور عودته من المنفى إلى طهران وعرض خلال الأشهر التالية عقد مقابلات مع مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى.
الحجج الإيرانية ضد العراق
تؤكد إيران أن محاولتها تقويض النظام العراقي تشكل استجابة مبررة للسياسات العراقية العدائية. وتبعًا لما ذكره مسؤولون إيرانيون، قدم العراق دعمًا ماديًا وماليًا للأقليات العربية والكردية داخل إيران. ويزعمون أن هذه الحملة العدائية التي شنها العراق تضمنت تقديم الدعم المباشر للاستيلاء على السفارة الإيرانية في لندن من جانب معارضين من الأحواز العرب وتنفيذ محاولات اغتيال بحق مسؤولين إيرانيين، بينهم وزير الخارجية قطب زاده في أبريل 1980. وتدعي طهران كذلك أن القوات العراقية انتهكت الحدود الإيرانية باستمرار خلال عامي 1979 و1980، قبل الغزو العراقي في سبتمبر 1980.
ويقول الإيرانيون كذلك إن محاولاتهم تقويض نظام صدام حسين مبررة بسبب سياساته التمييزية ضد الشيعة العراقيين، وإن العراق يتعمد بصورة ممنهجة إقصاء الشيعة عن السلطة، علاوة على إعدام الزعيم الشيعي محمد باقر الصدر و70 ناشطًا شيعيًا آخر عام 1980.
مراجعة الأدلة
بادئ الأمر، سعى العراق للتقارب مع إيران بعد رحيل الشاه في يناير (كانون الثاني) 1979. ورغم شعور بغداد بالأسف لعودة الخميني إلى إيران من باريس في وقت لاحق من الشهر ذاته، فإنها أملت في أن تتمكن من العمل مع العناصر الإيرانية المعتدلة، مثل رئيس الوزراء بارزغان، وذلك للحيلولة دون عودة الدعم الإيراني للأكراد العراقيين. تبعًا للتقارير الواردة في ذلك الوقت من قسم تمثيل المصالح الأميركية في بغداد، فإن العراق استدعى مرارًا السفير الإيراني في بغداد خلال النصف الأول من عام 1979، للإعراب عن قلقه حيال الفوضى السياسية في إيران ولحث طهران على تنفيذ بنود اتفاقية الجزائر المبرمة عام 1979 التي وافق في إطارها الشاه على إنهاء دعمه للعصابات الكردية العراقية المسلحة.
وبدأت العلاقات بين الدولتين في التردي بحدة في أعقاب إلقاء العراق القبض على الصدر في يونيو (حزيران) 1979 للاشتباه في تأجيجه القلاقل في صفوف العراقيين الشيعة بدعم من إيران. كان الخميني قد تعرف إلى الصدر أثناء وجوده بالمنفى بمدينة النجف العراقية بين عامي 1965 و1978. وانتقامًا من إلقاء القبض عليه، أذاعت إيران دعوات متكررة للإطاحة بنظام صدام حسين. واستجابت بغداد بإذاعات معادية من جانبها، لكنها لم تدعُ لإسقاط الحكومة الإيرانية.
ويكاد يكون في حكم المؤكد أن الجانبين قدما قدرًا كبيرًا من الدعم المادي والمالي للمنشقين لدى كل منهما بحلول أواخر 1979.
عام 1980، يكاد يكون في حكم المؤكد أن الجانبين نفذا عمليات إرهابية ضد مسؤولين من الجانب الآخر. كما أننا نشتبه، لكن لا نملك دليلاً على ذلك، في أن إيران قدمت دعمًا مباشرًا لمنشقين عراقيين شاركوا بحملة كبرى لاغتيال مسؤولين عراقيين بلغت ذروتها في محاولة قتل نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز في 2 أبريل ووزير الإعلام العراقي بعد ذلك بـ12 يومًا.
ومع تردي العلاقات الثنائية، بدأ العراق في الاستعداد للحرب خلال النصف الأول من 1980.
إلا أن العراق لم يشرع في تعبئة قواته إلا بعد القصف الإيراني لمدن حدودية عراقية في 4 سبتمبر. ورغم أن هذا شكّل الانتهاك الحدودي الأكثر خطورة من قبل الجانبين منذ تردي العلاقات في منتصف عام 1979، فإن السرعة التي نفذ بها العراق تعبئة القوات توحي بشدة أن بغداد كانت تتطلع نحو ذريعة للهجوم. في 22 سبتمبر، غزت 9 فرق عراقية إيران على امتداد جبهة بلغت 700 كيلومترًا.
التعويضات هي الهدف
«نعتقد أن الأمين العام للأمم المتحدة سيواجه صعوبة بالغة في تشكيل محكمة دولية مرضية للطرفين»، هكذا كتب المحللون في الوثيقة. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن إيران ستصر على نيل سلطة الموافقة على أعضاء المحكمة وستنتظر منهم الوصول إلى حكم سريع ومعاقبة صدام حسين وتقييم التعويضات. وحتى إذا أصدرت المحكمة حكمًا لصالح إيران بوجه عام، فمن المحتمل أن تمضي طهران في محاولة تحقيق انتصار عسكري أمام العراق إلا إذا تمكنت المحكمة على نحو غير متوقع من الحصول على تعويضات واتخاذ ترتيبات للإطاحة بصدام من السلطة. ونظرًا لإدراك إيران أن احتمالات الوصول إلى مثل هذه النتيجة ضئيلة للغاية، نعتقد أن هدفها قصير الأجل من وراء تأييد فكرة تشكيل محكمة دولية يكمن في التماشي مع الجهود الدبلوماسية الحالية التي تبذلها الأمم المتحدة لتجنب الدخول في رفض صريح لقرار الأمم المتحدة رقم 598 والتعرض لعقوبات من جانب الأخيرة.
على الجانب الآخر، سيصر العراق هو الآخر على اختيار أعضاء بالمحكمة متعاطفين معه يؤمنون بمسؤولية إيران عن اشتعال الحرب. ونكاد نجزم بأن العراق لن يدفع تعويضات.
وعليه، فإن المحكمة، حال تشكيلها، قد تحاول اتخاذ قرار حكيم يضمن خروج الطرفين فائزين فيما يتعلق بتحديد أسباب الحرب. قد تشدد المحكمة على الحدث البارز (الغزو العراقي). حال حدوث ذلك، فإن طهران قد ترى في ذلك تشجيعًا لها على إنهاء الحرب. إلا أن أعضاء المحكمة قد يشعرون كذلك بالحاجة إلى أن يضعوا في اعتبارهم الأعمال العدائية الإيرانية تجاه العراق قبل الحرب، وذلك لأسباب، منها تجنب إثارة سخط بغداد.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!