جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

قراءة من تجارب الماضي والحاضر

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

جدل العلاقة بين الحالة الفكرية و«الصحوة» الأصولية

عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)
عنصر من التنظيم الإرهابي يقف على أنقاض منزل دمرته غارات طائرات التحالف في الرقة الشهر الماضي (أ.ف.ب)

يظل ضروريًا في اللحظة الإقليمية والعالمية الراهنة، التي لا تبرز إلا التطرف وسخونة وحسم التشدد شرقا وغربا، دور المثقف الإنساني والمعرفي كمصدر للمعنى والقيم. يظل ضروريا ينبغي العودة إليه، دورا ورسالة بشكل كبير، ليس فقط لتنوير العالم ولا لتغييره بل للمحافظة على بقاء قيمه الإنسانية ومواجهة الأصوليات الصاعدة الجديدة بعد فشل الآيديولوجيات. رغم كثرة المؤسسات والمنابر الصانعة للوعي والمعلومة، تعاني الحالة الفكرية العربية، بتشكلاتها المختلفة، الأكاديمية والإبداعية والنظرية، حالة من السيولة والتشظي لا يخفيها ضعف الاتصال والتفاعل والتأثير العام، أو ينبه إليها غياب استراتيجيات السياسات الثقافية الناظمة والمنظمة لها.
كان ولا يزال إلحاح البعض، من آن لآخر، على ضرورة إنتاج مشروع فكري عربي وإسلامي، لمواجهة أفكار التطرف وحركاته، ضروريا وشرعيا إلى حد كبير، من أجل ضبط السيولة ومواجهة التحديات ونظم لحن للخروج من الأزمات العالقة والمستمرة.
وتزداد شرعية هذا الطرح في واقعنا الراهن، خاصة أمام تحدي «الصحوة» الأصولية، عند استكشاف العلاقة بين الحالة الثقافية ودور المثقف من جهة، وانتشار أفكار التطرف من جهة أخرى.
وهنا يمكن تحديد أربع قواعد تضبط هذه العلاقة بين حالة الوعي العام أو وجود مشروع فكري من عدمه، وبين صعود أو تراجع أفكار التطرف، هي كما يلي:
أولا: متى تتراجع الأصوليات؟
ثبت تراجع الحركات الأصولية والمتطرفة في فترات صعود مشاريع قوية بديلة، سواء في ذلك مشروع النهضة والإصلاح في نهايات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، فقد تراجعت القوى التقليدية والماضوية بدرجة كبيرة أمام جهود مدرسة الإصلاحية الإسلامية التي مثلها السيد جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1897 ميلادية) والإمام محمد عبده (توفي سنة 1905 ميلادية) وعبد الرحمن الكواكبي (توفي سنة 1902) وغيرهم وهي مدرسة واسعة، كما ضمت في صفوفها اتجاهات متعددة ومختلفة، ضمت «عقلانيين» و«حريين» أمثال أديب إسحاق، و«داروينيين» كالدكتور شبلي الشميّل، كما ضمت أمثال الليبرالي لطفي السيد وولي الدين يكن وعلي الغاياتي ومصطفى وعلي عبد الرازق وقاسم أمين... كما ضمت رفيق العظم وأحمد حافظ عوض، ولم يكن السيد محمد رشيد رضا وريثها الوحيد أو الأبرز خاصة في مرحلة تحوله - بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 - داعية وممهدا لتنظيمات استعادة هذه الخلافة، رغم أنه كان ينتقدها قبل ذلك، ويسفه أستاذه الإمام محمد عبده رحمهما الله.
ولقد تعرض محمد عبده لمحاولات اغتيال وتصفية أحيانا، وهوجم أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي ألف أحد التقليديين من الأزهر رسالة ضده بعنوان «تحذير الأمم من كلب العجم» وحمل عليه الحملات كلها معاصره ومجايله المقرب من العثمانيين أبو الهدى الصيادي حينها، كذلك تعرض الكواكبي وعلي عبد الرازق وغيرهما لمثل ذلك، ولكن على الرغم من ذلك برزت أفكار هؤلاء بل ما دعوا له من أفكار حداثية، كحقوق المرأة والدستورية والمواطنة، والاستقلال عن الترك، ومؤسسات تحديثية كالبرلمان والجامعة والصحافة وتنشيط الترجمة وإعادة اكتشاف التراث وإحياء تاريخيته. (كان محمد عبده أول من أوصى ودعا لنشر مقدمة ابن خلدون الشهيرة في الأزهر، كما دعا وشجع على إحياء كثير من كتب التراث المهملة خلف المتون، وأشرف بنفسه على إصدار بعضها). بل وتمكنوا من أمثال الشيخ عليش وبعده محمد شاكر وغيرهما من التقليديين عن سدة المشهد بشكل واضح حينها.
وهكذا، لم تكن فقط لحظة الأنوار الغربية التي استطاعت أن تخرج أوروبا من العصور الوسطى للتاريخ الحديث وعصور الحداثة. بل على طريقتها وطريقها، استلهمت وأسست جهود الاستنارة العربية - كما كانت تسمى قبل ستينات القرن الماضي - في مصر وسائر الحواضر العربية، آثارا مهمة في مختلف المجالات، وهدمت كثيرًا من العوائق الثقافية والتقليدية في الوعي والفكر الاجتماعي والثقافي.
ثانيا: أهمية السياسات الثقافية البديلة.
تراجعت الأصولية، أفكارا ومشروعا وتنظيمات، حين وجد مشروع بديل، يمتلك سياسات ثقافية تمكن لمقولاته. وهو ما حدث في لحظات معينة كالبورقيبية في تونس، وعلى نقيضها حدث كذلك مع أطروحات الناصرية في مصر، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، في الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي.
وليس مهما أن نذكّر بانحسار جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عهد عبد الناصر الذي لم يتردد في إصدار قرار بإعدام سيد قطب سنة 1966 ميلادية رغم رجاءات كثير من الدول والنخب في المنطقة. ولم يتأثر نظامه بهذا القرار ولا شرعيته داخليا رغم ذلك، وهو ما قد يصح تفسيره بوجود مشروع شامل. وهذا المشروع وإن اختلفنا معه علينا أن نقر بأنه أجاد توظيف وسائطه الفكرية والإعلامية والفنية - من أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ إلى صلاح جاهين وغيرهم كثيرون - ووضع سياسة ثقافية سطرها وزيره المثقف الراحل الدكتور ثروت عكاشة في كتاب أصدره في ستينات القرن الماضي بعنوان «السياسة الثقافية في مصر» وظف فيه فنونا كالمسرح والسينما. وكذلك أنشأ هيئات كالثقافة الجماهيرية وقصور الثقافة ونشط فيه مجال النشر الرسمي المعبر، وأنشأ إعلاما مرئيا ومسموعا استطاع أن يكون خادما جيدا لهذا المشروع كذلك.
إن هذا الاهتمام والوعي بأهمية السياسات الثقافية وأهمية الطرح النخبوي للجماهير توعية وحشدا ضد المقولات الانغلاقية، أو بديلا عنها، يملآن الأبنية المعنوية لها، ولا يجعلها مباحة ومستباحة لمقولات التطرف وتصوراته.
ثالثا: تمدد الأصوليات وسط السيولة والأزمات
إن الأصولية والتطرف، العنيف بالخصوص، المؤمن والمعتقد في تصورات الصراع والنفي والصدام بالمختلف، مشروع يتمدد في حالات السيولة والفراغ بغياب مشاريع موازية عقلانية وإصلاحية تقيد من انطلاقته وتكشف زيف ولا تاريخية مقولاته... مشاريع تطلقها النخب وتتمدد وسط القواعد والجماهير كذلك، وتتفاعل معها. ثم إن أزمات المشاريع البديلة تجعل الأصوليات تطرح نفسها حلا شعاراتيا وكليا بديلا لها ينغرس عاطفيا في رحم «الهوية» الدينية والثقافية وينطلق خيالا أسطوريا طموحا نحو أستاذية العالم والهيمنة عليه، ضدا على قوانين التاريخ زمانا ومكانا.
قاعدة أخرى، تؤكدها لنا السنوات القليلة الماضية، هي أن الأصوليات تنتج أصوليات مضادة، فينتج الإرهاب «الإسلاموفوبيا»، وينتج الآخر المتشدد يمينا متشددا. ووفق هذه القاعدة أنتجت النصرة الإيرانية، في لونها وسلوكها الطائفي المناصر لنظام بشار الأسد في سوريا، وميليشياتها الراديكالية التابعة والموالية لها وللولي الفقيه الحاكم في إيران، جماعات ونصرات مضادة كجبهة النصرة التي انقسمت فيما بعد للنصرة و«داعش» و«خلافته» المزعومة... وهكذا جرت عسكرة ثورة كانت أكثر ثورات العرب رشدا ولا عنفية حين انطلقت من براءة أطفال درعا في مارس (آذار) 2011 ولم تتهور للمطالبة بإسقاط النظام قولا واحدا، بل دعت لحواره وإصلاحه الذي يظل يتعالى على الاستجابة له مركزا على القمع والانتهاك اغتصابا لبراءتها.
ثم إن الأصوليات - بطابعها الاحتجاجي أيضا - تصعد وتنمو مع الأزمات والإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وتعثر التنمية وتوظف هذه المسائل في معارضها للأنظمة، وطرحا لنفسها بديلا ونقيضا يكفر بالأنظمة ويحاربها.
رابعا: قدرة التنظيمات على توظيف التواصليات:
تبدو المواقع التواصلية تكريسا لفردية مفرطة في الفضاء العام، وتنتج قراءات ومعرفة عشوائية غير منظمة في الغالب، إلا لمن ضبطها لأغراض ومتابعات معينة، إخبارية أو متخصصة دون سواها، لكنها في العموم كذلك، وكانت هذه الفردية أحد حوامل الشعبوية والفكر اليميني المتشدد الصاعد في الغرب، كما أنها خانت سريعا الوعد بها والذي حملته وبشرت به في الانتفاضات العربية سنة 2011، حين كان لـ«تويتر» و«فيسبوك» بالخصوص دور مهم في فعالياتها ودعواتها المدنية، لكن سريعا ما قفزت عليهما التنظيمات الأصولية ورموزها وصارت هي المسيطرة على هذا العالم ما بعد الحديث دون القوى الحديثة غير المنظمة.
بينما تمتلك الأصوليات وجماعات التطرف العنيف شعارات مشحونة وصلبة وجذابة دائما، كما تملك إصرار عناصرها وتنظيماتها على نشر أفكارها وتبرير ممارساتها الخارجة والبشعة، في ظل الهجمات المضادة لها. وكان أيمن الظواهري يفاخر في كتابه «التبرئة» بأن «القاعدة» نجحت قبل عام 2011 في السيطرة على الإنترنت، عكس ما توقع من الأخيرة، وكانت «القاعدة» تمتلك حتى عام 2005 ما يقرب من خمسة آلاف موقع ومدونة.
من هنا، ظل تأثير استخدام التنظيمات الأصولية والآيديولوجية للمواقع التواصلية أكبر بكثير عن تأثير معارضيهم وخصومهم من التيارات المعتدلة والمدنية بشكل واضح؛ إذ استخدمتها «القاعدة» واستخدمها «داعش» - وأخواتهما من جماعات التطرف - منبرا دائما لنشر أفكارها وتأكيد حضورها، ومساحات دائمة للتوسع والتجنيد والتمدد والاتصال بشكل واضح، وجاءت الصحوة ضد نشاط هذه التنظيمات متأخرة قليلا خلال العام الماضي.
وحسبنا أن نذكر أن معدل عمر المقاتلين الأجانب في «داعش» - الذين تم تجنيدهم عبر المواقع التواصلية، عامي 2014 و2015 كان في المتوسط 24 سنة فقط، وجندوا عبر مواقع كـ«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» وغيرها. وكانت حسابات التنظيم خلال فترة صحوته بعد سيطرته على الموصل ثم إعلان «خلافته» المزعومة عام 2014 تصدر بخمس لغات، في وقت واحد، ويجري تداولها عبر آلاف الحسابات الحقيقية والوهمية.
هذا بينما تبدو خطوط المواجهة والمكافحة للفكر المتطرف في الفضاء الإلكتروني أو غيره مشتتة، تبحث عن نظم مستمر مفقود بين كثير من مؤسساتها، ولا تتراكم خبراتها، بشكل واضح، وتبحث عن استراتيجيات ومواثيق فاعلة لتجديد الخطاب أو الوعي الديني، أو تحديد الفكر العربي والإسلامي بعموم، وتبدو صورة الجزر المنعزلة الكثيرة والمنفصلة حتى في أوساط النخبة المفكرة هي المسيطرة على المشهد بشكل كبير.
ومن الدقة استحضار أن المواقع التواصلية ليست تواصلية أو اتصالية تماما، بل هي تكرر أو تؤكد وسائط الواقع القائمة، وأحيانا تضعفها بل تبقى غايتها الأخيرة هي ترجمتها في العالم الحقيقي ليس أكثر، وكثير منها لا يغادر عالمه الافتراضي وجمهوره الذي لا يتفاعل معها دائما، وإن تفاعل يتفاعل معها بشكل مؤقت غير منظوم وغير مؤمن ملتزم بأطروحاتها.
ختاما، من الضروري مراجعة حالة الوعي العام، وعمليات صناعة الأفكار وتاريخها وإعادة الاعتبار بالخصوص للسياسات الثقافية الضرورية في مواجهة الصحوات الأصولية، وهو ما يستدعي بشكل أساسي إعادة الاعتبار للمثقف نفسه كمركز ومصدر للأفكار والتصورات بموازاة الداعية التنظيمي المحرض، وإن بدت عودة جديدة لقضية قديمة هي العلاقة بين التجديد والتقليد، أو معركة «العمائم والطرابيش» أواخر العقد الثاني من القرن العشرين في مصر.
إن تثمين دور المثقف من جديد ضرورة، لأن ثمة عبئا ومسؤولية كبيرة وثقيلة تقع على كاهله، في هذا السياق من التشظي المعلوماتي والتشتت المعرفي، الذي تستفيد منه تنظيمات وأفكار الأصولية الصلبة، بينما تتكرس سيولة القيم والتوجهات احتجاجا واستقطابا ينكر قيمة المعرفة فضلا عن التغيير أو التطوير، ولكن يظل العبء الأكبر على المؤسسات الواعية في تدوير هذه النخب والاستثمار فيها والتشبيك الناظم فيما بينها، وتجسير الفجوات بين النخب الحقيقية والجماهير.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».