وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (2): وحدة دول الخليج ... كابوس المرشد الإيراني

الـ«سي آي إيه» تنبأت أن طهران ستمد «الشيعة العرب» بالسلاح واعتبرته «تهديدًا للأمن القومي»

موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)
موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)
TT

وثائق «سي آي إيه» إيران والجيران بعد ثورة الخميني (2): وحدة دول الخليج ... كابوس المرشد الإيراني

موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)
موظفو القصر في طهران يعلقون صورة الخميني مكان صورة الشاه عقب الثورة الايرانية.. وفي الإطار 53 رهينا أميركيا احتجزتهم طهران 444 يوما عام 1981 (غيتي)

عندما أسس المرشد الإيراني «آية الله» الخميني في فبراير (شباط) من عام 1979، جمهوريته الإسلامية على أنقاض نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، لم يكن مجلس التعاون الخليجي قد تأسس. وطبقا لما ترويه تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية، مؤخرا، فإن الوكالة بدأت منذ الشهور الأولى لعودة الخميني من منفاه في باريس إلى كرسي الحكم في طهران، برصد مؤشرات مبكرة على عزم النظام الإيراني الجديد على تصدير ثورته لبعض الجيران وبسط نفوذه على جيران آخرين.
وتوصل محللو الوكالة في ذلك الحين إلى أن الخميني كان يأمل في ابتلاع البحرين أولا، والكويت ثانيا، قبل الإقدام على أي خطوة أخرى. وكان أكثر ما يخشاه الخميني في ذلك الحين هو أن تبادر دول الخليج العربية إلى تنظيم نفسها في تكتل واحد يجمعها مع المملكة العربية السعودية، أو يوحد بين دول الخليج العربية الست في نمط من أنماط الاتحاد والتعاون بما يؤدي إلى إجهاض آمال الخميني في الانفراد بالكويت والبحرين.
لم يمر سوى عام ونصف العام على نقاش مخاوف الخميني في حال توحد دول الخليج في الأروقة السرية لوكالة الاستخبارات لأميركية إلا وقد تحقق بالفعل ما كان يخشاه، حيث أعلنت دول الخليج العربية الست في منتصف عام 1981، تشكيل مجلس التعاون الخليجي، في وقت كان فيه الخميني قد تورط منذ شهر سبتمبر (أيلول) من العام السابق 1980، في حرب طاحنة مع العراق. تسببت هذه الحرب في تأجيل خطط المتحاربين لالتهام جيرانهم الصغار.
أثناء ذلك، كانت نشوة الانتصار على نظام الشاه قد بدأ زخمها يتلاشى، لكن جهود مد النفوذ إلى بلدان الجوار ومحاولات إيران زعزعة استقرار الجيران لم تتوقف مثلما لم تتوقف شكوى واشنطن من السلوك الإيراني منذ أواخر عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر حتى أوائل عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترمب. مرورا بإدارات أربعة رؤساء آخرين، هم الجمهوريان جورج بوش الأب وجورج بوش الابن، والديمقراطيان بيل كلينتون وباراك أوباما. وفي الصفحات التالية أمثلة من تقارير استخبارية أميركية توضح فيها وكالة الاستخبارات المركزية بعضا من خفايا العلاقة بين إيران والجيران، طوال الفترة التي كانت فيها الوكالة شاهدا عليها بتقاريرها.
في التقرير الصادر عن دائرة الشرق الأدنى في وكالة سي آي إيه، في أكتوبر (تشرين الأول) 1979، وتطرقنا إلى أجزاء منه في الحلقة السابقة، أكد محللو الوكالة أن إيران تعمل على توظيف الأقليات الشيعية في البلدان العربية ذات الأغلبية السنية لخدمة الخطط الإيرانية الساعية لزعزعة أمن واستقرار دول الجوار. ولكن الوكالة لم تستند في استنتاجها الجازم عن هذا الأمر إلى معلومات سرية أو أدلة دامغة على تحركات بعينها، لكنها اعتمدت في الأساس على تفسير محلليها لتصريحات كبار «آيات الله» الإيرانيين عن كل من البحرين والكويت. واعترفت الوكالة في التقرير بعجزها عن معرفة مدى الدعم الذي تقدمه طهران لشخصيات بعينها من قيادات الشيعة في البحرين والكويت.
وجاء في التقرير المؤلف من عشر صفحات أن إيران شجعت المواطنين الشيعة في هذين البلدين الخليجيين على التمرد، وتنظيم الاحتجاجات ضد حكومتي هاتين الدولتين.
ورجحت الوكالة في التقرير المقدم لصناع القرار بأن التواصل المباشر بين المسؤولين الجدد في طهران، مع الشخصيات المعارضة في الكويت أقل كثافة مما يتم تصويره في الإعلام الإيراني وأقل زخما مما هو حاصل بالفعل مع المعارضة البحرينية، رغم أن هناك وفودا كويتية استقبلها الخميني في طهران.
فيما يتعلق بالسعودية، يبدو أن الحجم الكبير للبلاد وعدد سكانها وضخامة إمكاناتها جعلت المحللين الأميركيين أقل مبالغة في توصيف الخطر الداخلي بالمقارنة مع بقية دول الخليج العربية. وحسب تقديرات وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، فإن الأقلية الشيعية في السعودية تصل نسبتها إلى 2 في المائة من عدد السكان. وينشط الكثير من أبنائها في التجارة والأعمال الحرة.
وربما أن همومهم ومطالبهم لا تختلف عن هموم وقضايا بقية السكان في رأي الوكالة. لكن اللافت فيما أشار إليه التقرير الصادر عام 1979، هو أن أعيان الشيعة في المملكة لم تصدر عنهم أي حماسة لمحاولات النظام الجديد في طهران لاختراق صفوفهم. ووصف التقرير موقفهم من نظام الخميني بأنه اتسم بالحذر الشديد وعدم التسرع في الاستجابة للتحريض القادم من طهران.
لكن التقرير لم يتطرق إلى دور الخلاف الآيديولوجي بين الشيعة بشأن ولاية الفقيه، التي ينظر إليها الكثير من مجتهديهم على أنها بدعة وخروج عن المتعارف عليه في مذهبهم الجعفري. وبدلا من توضيح هذه الجزئية استرسل التقرير في الحديث عن النشاط السياسي للشيعة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، سواء كانوا في العراق أو السعودية أو البحرين، قائلا إنهم أكثر ميلا للأحزاب اليسارية والقومية بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي، بل إن البحرين كانت بمثابة الملتقى للشيوعيين العرب من كافة أنحاء البلاد العربية. فضلا عن أن نشاط القوميين واليساريين في تلك الفترة كان مفتوحا على مصراعيه في العراق وسوريا. ولم تكن الأحزاب الدينية والتنظيمات الإسلامية في تلك الفترة جاذبة للناشطين الشيعة.
لم تقتصر محاولات التمدد الإيراني على الجانب الغربي والجنوبي من الحدود، بل كانت هناك جهود لمد النفوذ باتجاه الشرق، وعلى وجه التحديد في أفغانستان. ولاحظت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1979 أن الخلاف الكبير بين العلمانيين ورجال الدين في طهران ظهر بشكل جلي في وجهتي نظر الطرفين بشأن التدخل في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي.
حسب ما ورد في تقرير الوكالة، فقد كان رئيس الوزراء الإيراني مهدي بازرجان يميل إلى عدم تدخل بلاده في الشؤون الداخلية لأفغانستان. وأعلن عن تقديم إيران معونات إنسانية لنحو 4000 - 5000 لاجئ أفغاني موجودين على الجانب الإيراني من الحدود. غير أن التناقض بين موقف الساسة وموقف الملالي بات واضحا، فقد أعلن الملالي عن تأييدهم الصريح للتمرد داخل أفغانستان ضد النظام العلماني، وكان ذلك عن طريق الخميني نفسه الذي أصدر أوامره لدعم المتمردين الذين يحاربون النظام غير الإسلامي، ورغم ذلك يعد التأثير الإيراني على مجريات السياسة في أفغانستان ضئيلا. وتفسر الوكالة ذلك بأنه عائد للاختلاف المذهبي.
رغم تكرار التأكيدات الصادرة عن الحكومة الإيرانية وكبار المسؤولين هناك على عدم تدخل بلادهم في الشؤون الداخلية لجيرانهم. وتشديد المسؤولين الإيرانيين بأن إيران لا تسعى لتصدير الثورة أو إرسال الأسلحة لقتال أنظمة أخرى، فإن طهران حسب ترجيح الاستخبارات الأميركية في تلك الأيام سوف تستمر في التدخل بأساليب مباشرة وغير مباشرة في شؤون دول الجوار.
ورأت الوكالة أثناء كتابة التقرير بعد شهور من اندلاع الثورة الإيرانية أن نظام ولاية الفقيه في إيران سوف يتخذ من دعم الأقليات الشيعية في دول المنطقة، ذريعة للتدخل. وتوقع محللو الوكالة ألا يتجاوز الدعم الإيراني للمعارضين العرب بعض المعونات المالية الضئيلة. أما الدعم الحقيقي فسوف يكون دعائيا وتحريضيا أكثر مما هو واقعي. وحذرت الوكالة من أن تقديم السلاح والذخائر لأي مجموعة في أي بلد من بلدان المنطقة هو ما سيشكل تهديدا كبيرا على الأمن الداخلي للدول ولأمن المنطقة بصورة عامة.
ونبه التقرير إلى أن الدولة الخليجية الأكثر تعرضا للخطر الإيراني هي البحرين، وتأتي بعدها بدرجة ثانية الكويت. أما العراق حسب اعتقاد محللي وكالة الاستخبارات الأميركية فإن هناك عوامل كثيرة تجعل التدخل الإيراني في شؤونه لا تستدعي الشعور بالخوف للخوف أو الخطر آنذاك. ويعود هذا الافتراض على ما يبدو إلى علم المحللين أن قوة القبضة الأمنية للنظام العراقي في تلك الأيام، بالإضافة إلى قوة جيشه وحصانته الآيديولوجية تقلل من المخاوف عليه، وإن كانت لا تزيلها تماما.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!