ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

الدوافع الخفية لمعارك الرئيس الأميركي الجديد مع الصحافيين

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى
TT

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

باستثناء القنوات الإعلامية المملوكة لإمبراطور الإعلام الأميركي الأسترالي روبرت مردوخ، تشن كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية حربا شرسة على الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ أعلن ترشحه للرئاسة. ويبادل ترمب وأنصاره هجمات الإعلام التقليدي بهجمات مضادة لا تقل شراسة، رغم غياب التكافؤ بين الطرفين.
ومن المفارقات أن هذه الحرب، التي لا تزال مستمرة حتى الآن، خدمت ترمب أكثر مما أضرت به أثناء حملته الانتخابية، إن لم تكن هي سبب وصوله للرئاسة... كونها حققت له انتشارًا واسعًا لم يحصل عليه أي مرشح آخر غيره لا في المراحل التمهيدية ولا في التصفيات اللاحقة. كما أسفرت هذه الحرب عن انتشار وجهات نظره المثيرة للجدل انتشار النار في الهشيم.
بغض النظر عما إذا كان دونالد ترمب، قبل انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، قد تعمد إشعال الحرب وإثارة الجدل حول نفسه لتحقيق الهدف المشار إليه، أم أنه يؤمن بالفعل بما كان يجاهر به من آراء مثيرة للجدل، فالشيء المؤكد هو أنه لم يعد في صالحه استمرار هذه الحرب أو تصاعد الهجمات الإعلامية عليه. ذلك أنه لم يعد مرشحًا بل بات رئيسًا يتوجب عليه التخفيف من المعارك الجانبية. ولكن، مع ذلك نجد أنه يواصل صب الزيت على نار هذه الحرب بدلاً من محاولة إطفاء لهيبها.
وحقًا، لم يكف ترمب، منذ لحظة إعلان فوزه، عن استهداف الإعلام والإعلاميين وإطلاق أبشع الأوصاف عليهم، مثل قوله في خطاب ألقاه أمام موظفي وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، في مقر الوكالة بولاية فيرجينيا إن الصحافيين «من أقل البشر أمانة على وجه الأرض». وبدلاً من محاولة كسب الإعلاميين أو التخفيف من نقمتهم عليه، يبدو ترمب مصمما على خوض حرب وراء أخرى ليس فقط ضد إعلام التيار الليبرالي... بل وحتى مع جزء من الإعلام المعبّر عن التيار الوسطي في الحزب الجمهوري ذاته الذي ينتمي إليه. فما هو السبب يا ترى في إصرار الرئيس على خوض مجابهات لا تبدو نتائجها في صالحه بعد فوزه في الانتخابات؟!
لقد أجاب ترمب بنفسه عن هذا السؤال من دون أن يُطرح عليه عندما قال في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير (كانون الثاني) الماضي إنه يمثل «حركة سياسية تاريخية لم يسبق العالم أن عرف لها مثيلا من قبل». وتابع أن يوم تنصيبه سيحفر في الذاكرة بأنه اليوم الذي استعاد فيه الشعب السلطة في الولايات المتحدة. ورغم استعادة «الشعب» للسلطة، حسب تعبير ترمب، فإن المهمة لم تنته بوصوله للرئاسة بل ستستمر لتحقيق أهداف الحركة السياسية التي قال إنه يمثلها.
يفسر ما جاء في هذا الخطاب معنى أبرز إعلان تلفزيوني إبان حملته الانتخابية للرئاسة الذي تضمن الشعار الشهير «إنها حركة وليست حملة انتخابية».
أما ما هي هذه الحركة التي يعتقد ترمب أن التاريخ سيتذكرها في صفحاته، وتستحق منه أن يغامر بخوض عداوات ومجابهات مع تيارات سياسية ذات أذرع إعلامية قوية، فهذا ما لم يكشفه ترمب بصورة مباشرة لا في خطاب التنصيب أو ما سبقه من خطابات. بل إنه أغفل ذكره في إعلانات الترويج لبرنامجه الانتخابي من ليلة إعلانه العزم على خوض السباق الرئاسي في منتصف عام 2015، إلى ليلة فوزه بالرئاسة يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، ولكن عدم الإعلان الصريح عن أهداف حركته لا يعني أن الرسالة لم تفهم أو لم تصل إلى المعنيين بها من طرفي المعادلة في المجتمع الأميركي.
الحقيقة يصعب على أي مراقب تفسير أقوال وأفعال ترمب ما لم يتوصل أولا إلى فهم أهداف حركته والأسباب التي أدت لنجاحه في انتخابات الرئاسة على حساب عائلتين سياسيتين في الولايات المتحدة وهما عائلة بوش وكلينتون.
هناك وسيلة سهلة يمكن عن طريقها فهم أهداف ترمب حركته السياسية وهي أخذ أجزاء من خطاباته وتصريحاته أو تغريداته والإبدال بكلمة «الشعب» أو «الناس» أو «الصالحين» أو ما شابه ذلك كلمة «البيض»، أي أفراد الغالبية البيضاء في المجتمع الأميركي. ومن يريد التعمق أكثر في هذا الأهداف عليه أن يستعيض عن كلمة «الأشرار» ومرادفاتها في أقواله بكلمة «الأقليات».
فعندما قال ترمب في خطاب تنصيبه إن التاريخ سيذكر يوم 20 يناير 2017 باعتباره اليوم الذي استعاد الناس فيه حكم هذه الأمة، فإنه يقصد على الأرجح أنه اليوم الذي استعاد فيه البيض» حكم الأمة.
* التمييز الإيجابي
الواقع أنه يوجد في الكونغرس الأميركي كتل للمشرّعين السود تهتم بالدفاع عن حقوق الناخبين السود. وتوجد منظمات تهتم بحقوق المهاجرين من ذوي الأصل اللاتيني، وكذلك جمعيات تعنى بحقوق المسلمين الأميركيين، إلى آخر القائمة. كذلك تُعطي الجامعات أفضلية في المنح الدراسية ومعايير القبول للأميركيين من ذوي الأصل الأفريقي، وتعطي الحكومة الفيدرالية الأفضلية في القروض العقارية والتجارية والوظائف للأقليات وغيرها من الميزات والفوائد. وعندما تتساوى مؤهلات متنافسين اثنين في أي سباق وظيفي أو دراسي... فإن الأولوية لا تكون لصالح الأبيض من بين المتنافسين، وذلك تطبيقا لقوانين سنها أجداد الرجل الأبيض منذ سنين للأخذ بيد الأقليات ورفع مستواها.
ولقد عرفت جميع فترات التاريخ المعاصر للولايات المتحدة حركات سياسية تتبنى الدفاع عن حقوق الأقليات بمختلف أطيافها، وحقق النضال السياسي لهذه الأقليات مكاسب لا يستهان بها. ولكن منح هذه المكاسب للأعراق المختلفة داخل المجتمع الأميركي لم يشكل خطرًا وجوديًا على الغالبية البيضاء. وما كانت الغالبية البيضاء في أي فترة من تلك الفترات تخشى على نفسها من أن تصبح أقلية، بل إن أبرز المناضلين من أجل منح الأقليات حقوقها الإنسانية كانوا قادة من البيض. وكمثال كان الرئيس إبراهام لنكولن، وهو رجل أبيض لا أسود، أكثر من خدم الأقلية السوداء ووضع قواعد تحريرها من الرق.
إذن ما الذي استجد ليشعر الأميركيون البيض بالقلق؟ ولماذا بات البيض يعتبرون أنفسهم أنهم «المنسيون»؟ يمكن العثور على إجابة لهذا التساؤل بالإنصات للهمس الخافت في أوساط الغالبية البيضاء بأنهم يتآكلون عدديًا لصالح الأقليات. وتزداد المخاوف أكثر من أن نسبة المواليد بين الأقليات وموجات الهجرة من المجتمعات غير الأوروبية باتت تهدد البيض بأن يغدوا أقلية ربما بعد أقل من نصف قرن. ولقد استغل ترمب ذلك فخاطب مكامن القلق لدى هؤلاء. ويمكن القول إن أهم أهداف حركته غير المعلنة هي الحفاظ على مصالح الغالبية البيضاء، وأولها أن تظل غالبية للأبد.
لتحقيق ذلك - حسب مناصري ترمب - لا بد للغالبية البيضاء أن يكون لها الحق كبقية أطياف المجتمع الأميركي في تنظيم نفسها والدفاع عن مصالحها، كما يفعل السود واللاتينيون والمسلمون، ولا يجوز أن يظل «البيض» وحدهم الذين يستهجن الجميع تنظيمهم أنفسهم أو دفاعهم عن مصالح تجمع بينهم كفئة من لون واحد. كذلك – حسب مناصري ترمب أيضًا - ما عاد البيض غالبية مثيرة لقلق الأقليات بل باتت هي القلقة، ولا سيما من خطر منبعه سبع دول إسلامية، يجب محاصرته في منابعه.
قد يكون دونالد ترمب أبرز القلقين لكنه لم يكن أولهم ولن يكون آخرهم. لقد غدا رمزًا لهؤلاء مع أنه كثيرا ما تبرأ من الجماعات العنصرية التي تجاهر بعنصريها، أو بتفضيل الجنس الأبيض على ما عداه. ولكن، على ما يبدو فإن الحركات السياسية الساعية للحفاظ على حق الغالبية البيضاء بألا تفقد وضعها كغالبية حققت أبرز نجاحاتها بوصول ترمب لموقع القرار الذي سيؤثر على حياة عشرات الملايين من البشر ليس خلال الأربع سنوات من رئاسته، بل ربما على مدى السنوات الـ40 المقبلة.
ونظرا لخطورة الموقع الذي يشغله ترمب، فإن المنابر الإعلامية القوية المعبّرة عن تيار واسع من ذوي التوجه الليبرالي - المصدوم بخسارة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون الرئاسة - تعمل على التمهيد لخطوات إسقاطه بحملات إعلامية قاسية. وبين هؤلاء نسبة كبيرة من البيض لهم رؤية مختلفة عن رؤية ترمب ويريدون تسخير الأقليات لخدمة رؤيتهم بدلا من استعدائهم. وبما أن الغالبية البيضاء منقسمة بالتساوي تقريبًا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ربح الديمقراطيون خلال السنين الماضية باستمالة الأقلية السوداء إلى جانبه. وردا على ذلك بدأ الجمهوريون يخططون لاستمالة الأقلية اللاتينية لتحقيق التوازن. وبما أن الحزب الديمقراطي قدم للبيت الأبيض رجلا أسود تعبيرًا عن حسن النوايا، كانت خطة الحزب الجمهوري أن يقوم بخطوة مشابهة بتبني السيناتور ماركو روبيو أو السيناتور تيد كروز (وهما من أصل لاتيني) لمعركة الرئاسة. وخاض الاثنان المنافسة بالفعل، لكن ترمب نجح في إثارة مخاوف الغالبية البيضاء وتمكن من تحويل أعداد كبيرة من مؤيدي الحزب الديمقراطي البيض للتصويت لصالحه بسبب انحيازه لمصالحهم العرقية.
* مهمة لم تنته بعد
الواضح أن ترمب مصمم على خوض المعارك السياسية والإعلامية مع خصومه بلا توقف. وأهم المؤشرات على ذلك أنه يعد العدة لإطلاق قناة تلفزيونية خاصة به، حسب ما أكدته مصادر إعلامية أميركية متعددة. ويأمل ترمب من قناته أن تتولى مهام الدفاع عنه وعن أجندته ومواجهة ما تطرحه قناة «سي إن إن» التي يعتقد أنها تناصبه العداء، وبالتالي يجب تفنيد «أكاذيبها»، كما كرر ترمب في غير مناسبة.
طبعًا الرجل ليس ساذجًا أو محدود الذكاء، ومن ثم، فالتفسير الأقرب إلى المنطق هو أن الرجل فعلا يعتبر نفسه مسؤولاً عن حركة سياسية لم تنته مهمتها، وأن أمامه مشوارا طويلا من الصراع لتحقيق أكبر قدر من الأهداف التي كانت سببا لانتخابه. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار المواجهة الإعلامية مع الخصوم عرضًا من أعراض صراع أكثر عمقا بين تيار واسع يمثله وتيار أوسع من الخصوم داخل الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري، يبدو أنه مصمم على تصيد أخطاء الرئيس الجديد والعمل على نزع شرعيته وإسقاطه من الرئاسة بكل الوسائل قبل إكمال فترته الأولى، لأنه أصبح خطرا على التوازن القائم. أما الأخطر من كل ذلك فهو أن المعارك الإعلامية أخذ تتطاول المؤسسات الأمنية الحكومية، ومنها الاستخبارات.
* أبرز جولات الحرب
كانت القرارات التي اتخذها ترمب قبل انقضاء أسبوعين من وجوده في البيت الأبيض من بين الأخطاء التي وجد فيها المتربصون به من خصومه وجبة دسمة ومغرية لشن حملة إعلامية على رئاسته هي الأكثر شراسة من كل ما سبقها من حملات.
وقد يظن البعض للوهلة الأولى أن دافع المنتقدين لما اتخذته إدارة ترمب من إجراءات ضد رعايا سبع دول إسلامية هو الغيرة على الحق. ولكن على الأرجح أن أكثر المسيسين من مهاجميه أرادوا فقط استغلال إجراءات ترمب ضد المسلمين كـ«حق يراد به باطل»، فالهدف الفعلي لهم هو تأليب العالم على الرجل ودحرجة الصخور في طريقه لإعاقته عن تنفيذ أجندة لا تروق للخصوم، وفي ذات الوقت تعبيد طريق آخر قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق رغبتهم بمحاكمته أو عزله.
ترمب، من جهته، يستعين في مواجهاته الراهنة بأسلحة قوية أهمها شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية اليمينية، التي يملكها روبرت مردوخ ملكية غير مباشرة وتقدم ما يخدم ترمب من مضامين عن طريق تضخيمها لمخاوف الأميركيين من «الإرهاب المتستر في أثواب اللاجئين أو المهاجرين». وهذه الجولة من الحرب الإعلامية لا تزال مستمرة ولم تظهر نتائجها بعد.
أما الجولة التي سبقتها، فهي تلك التي استهدفت ترمب خلال الفترة الواقعة بين 8 نوفمبر 2016 (يوم إعلان فوزه في الانتخابات) و20 يناير 2017 يوم تنصيبه. وكان من اللافت أن الحملة على ترمب في الفترة المشار إليها ركزت على هدف التشكيك في شرعيته عن طريق تضخيم الدور الروسي في إيصاله إلى الرئاسة.
إلا أن ترمب رد بذكاء، مدركًا أن أنجع وسيلة من وسائل الدفاع هي الهجوم، فبادر لاتهام أنصار منافسته الديمقراطية بتزييف ملايين الأصوات العائدة لموتى أو مهاجرين غير شرعيين ومطالبا بالتحقيق في ذلك، وسرعان ما رد عليه الخصوم بدفاع كاسح بأن الانتخابات كانت سليمة 100 في المائة، ولم يشبها أي تزييف... فكان هذا ما يريد سماعه بالضبط لما فيه من اعتراف بشرعية وصوله للرئاسة، في حين تناسى المدافعون عن سلامة الانتخابات ما سبق أن قالوه بأن التدخل الروسي تمخض عن فرض نتائج لم يكن الناخبون الأميركيون راغبين بها.
ونجح ترمب أيضًا بإفشال خطة التشكيك بولائه لبلاده عن طريق إبراز تعاملاته التجارية مع روسيا «العدو التقليدي» لأميركا، إلا أن النكسة الإعلامية الكبرى للخصوم وقعت عند لجوئهم لاختلاق قصة خضوعه للابتزاز الروسي بتسريب معلومات عن فضائح أخلاقية مختلقة زعم مصدرها أنها وقعت له قبل سنوات في فنادق موسكو باستدراج من الاستخبارات الروسية. وزعم التسريب أن الروس تمكنوا من تصويره في أوضاع مخلة بالآداب. ولتفنيد هذه المزاعم لجأ ترمب إلى سلاح «تويتر» الفتاك بإيصال وجهة نظره إلى جمهور من المتابعين يزيد عن عشرين مليون شخص. وساعده في ذلك أن القنوات والمنابر المناوئة له تتناقل كل تغريدة من تغريداته تقريبا بغرض السخرية منه، لكنها تحقق في ذات الوقت هدفًا عكسيًا يصب في مصلحته وهو إيصال رأي الرجل إلى جمهور واسع النطاق بدأ يرحب بأفكاره أو على الأقل يتمعن فيها. وانتهت هذه الجولة بالتالي لصالحه.
أما الجولة الأطول والأسبق زمنيا من الحرب الإعلامية بين ترمب وخصومه المتعددين أو منافسيه من جمهوريين وديمقراطيين فهي التي تمت في خضم الحملة الانتخابية، فكان لها ما يبررها، لأن من الطبيعي أن يتخلل الحملات الانتخابية للرئاسة مواجهات حامية. ولكن حملة ترمب الانتخابية لم تكن عادية، إذ إنها دشنت الحرب الإعلامية منذ اليوم الأول فيها عندما أعلن ترمب ترشحه للرئاسة، من بهو برجه في نيويورك المعروف باسمه. وتضمن إعلان الترشح أول تصريح أثار الجدل ولفت الانتباه إلى ترمب من قبل من ساءهم التصريح قبل أن يصل مضمونه إلى المتفقين معه. لقد تضمن تبيان الهدف الأول من الترشح هدف «إنقاذ أميركا» من موجات الهجرة غير الشرعية خصوصا من المكسيك. ووصف ترمب القادمين من الحدود الجنوبية لبلاده بأنهم تجار مخدرات وقتلة ولم تعرف الولايات المتحدة منهم إلا الشر. وتعهد في بيان الترشح ببناء جدار عازل على الحدود لوقف موجات التسلل وتحصين سوق العمل في الولايات المتحدة لمنع القادمين الجدد من سرقة الوظائف من المواطنين الأميركيين.
أنتجت هذه التصريحات زوبعة كبيرة وردود فعل لم تتوقف، وكان الرجل يعلم تماما أنه بهذه التصريحات سيخسر بلا شك أصوات الأقلية اللاتينية، لكنه لم يكترث. وبمجرد أن خمدت الزوبعة مع ذوي الأصول اللاتينية، فتح جبهة مع الأميركيين الأفارقة. ثم بمجرد أن هدأت هذه الجبهة، فجر مفاجأته الكبرى باقتراح منع دخول المسلمين الأراضي الأميركية. ومرة أخرى كان يعلم أنه يخسر أصوات الأقليات فيما كان منافسوه حريصين كل الحرص على أصوات تلك الأقليات.
* حسابات الربح والخسارة
واتضح لاحقا أن ترمب، بعقلية التاجر المحترف، كان يعلم أكثر من منافسيه بأن أي مكسب لا يمكن أن يأتي من دون خسارة. ومن أجل الحصول على أصوات وتعاطف الغالبية البيضاء لم يتردد في التضحية بأصوات الأقليات، بل والمجاهرة في العداء لهم. وكان الرجل بارعًا في الحساب والتعامل مع الأرقام، إذ إنه أدرك أنه لكي يكسب أربعة ناخبين من البيض على سبيل المثال فإن عليه أن يخسر على الأقل ناخبا واحدا من السود وآخر من اللاتينيين الهيسبانيكيين، أما المنافسون فقد أعماهم حرصهم على أصوات الأقليات عن التفكير بأصوات الغالبية فكانت النتائج مخيبة لآمالهم، ومن كسب منهم ناخبا من الأقليات خسر مقابله ثلاثة ناخبين من الأغلبية البيضاء، بمن في هؤلاء المرشحين هيلاري كلينتون التي كانت أقواهم وقاب قوسين أو أدنى من الرئاسة.
ولم تكن حملة ترمب الإعلامية حملة عادية، إذ إن هجماته لم تقتصر على الخصوم أو المنافسين السياسيين بل وزعها في كل الاتجاهات عن عمد. وكانت أهم غنائم معاركه هي التي حصدها من فتح جبهة مع الإعلام والإعلاميين، حيث تعمد أن يهاجم شبكات أخبار واسعة الانتشار أو مقدمي برامج مشاهير في هذه المحطات، مثل «فوكس نيوز» في بداية الأمر ثم «سي إن إن» لاحقا. وفي الوقت الذي كان ترمب يهاجم هذه المحطات فلم يكن يقاطعها بل يستفيد منها ويتعمد استثارتها للحصول على ردود فعل كانت بالنسبة له بمثابة دعاية مجانية لحملته ساعدته نهاية المطاف في تحقيق هدفه نحو الرئاسة.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.