وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

إضاءة على مداولات القوى الكبرى لضبط الوضع اللبناني في مطلع 1976

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
TT

وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976

في حلقة اليوم من وثائق الاستخبارات الأميركية نتناول وثائق عائدة لمرحلة حاسمة من تاريخ لبنان السياسي المعاصر. هذه المرحلة هي تحديدًا مفصل «تكليف» القوى الكبرى النظام السوري في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، بالتدخل عسكريًا في لبنان، لإنهاء القتال الدائر يومذاك بين «القوات المشتركة» لما كان يُعرف بـ«الحركة الوطنية اللبنانية» وحركات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها من جهة، وقوات الأحزاب المسيحية اللبنانية من الجهة المقابلة.
في تلك المرحلة، تفاقم الوضع في لبنان - إبان رئاسة الرئيس الأسبق الراحل سليمان فرنجية - ورجّحت الكفة الميدانية لـ«القوات المشتركة» بمكوّنيها اللبناني والفلسطيني، ما هدّد بخروج الصراع عن نطاقه المحلي والتحول إلى أزمة إقليمية ودولية، في ظل استعانة المكوّنات المحلية اللبنانية باللاعبين الإقليميين. وتشير الوثائق البريطانية - الأميركية المتبادلة التي ننشرها اليوم إلى المداولات التي أخذت في الاعتبار عام 1976 قطع الطريق على تدخل إسرائيلي مباشر لمنع الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين والقوميين من اللبنانيين من الغلبة العسكرية، وإلى الدور الموكل لدمشق لوقفهم. وبين أهم الوثائق برقية لوزير الخارجية البريطاني يومذاك جيمس كالاهان (رئيس الوزراء فيما بعد) عن بحثه في الأمر مع وزير الخارجية السوفياتي آندريه غروميكو (رئيس الاتحاد السوفياتي لاحقًا) والتواصل والتشاور مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في حينه. أيضًا من الوثائق المهمة رسالة للسفير البريطاني في بيروت السير بيتر ويكفيلد حول الوضع، وما يمكن فعله، والدور الذي يمكن للرئيس الأسد فعله لتبريد الأجواء واحتواء التفجر.
نعلم أن عددًا من العسكريين النظاميين السوريين موجودون بالفعل داخل لبنان. ويعلم الإسرائيليون أيضًا هذا الأمر، إلا أنهم لم يبدوا اعتراضهم حتى الآن.
ربما يظن السوريون أنهم نجحوا في إخفاء وجود جنودهم في صورة فلسطينيين، إلا أنهم حال إقدامهم على استخدامهم سيصبح وجودهم أمرًا معروفًا. وسيشعرون حينذاك بالقلق حيال رد الفعل الإسرائيلي.
وربما تنوي سوريا إرسال مزيد من القوات النظامية. وهنا سيكون السؤال هل سيسمح الإسرائيليون بهذا الأمر تبعًا لشروط معينة - تحديدًا أن يجري البقاء عليهم بعيدًا عن الجنوب؟
تفيد أنباء بأن (الرئيس اللبناني سليمان) فرنجية اتصل هاتفيًا بالرئيس (السوري) حافظ الأسد بالأمس، وأعرب عن غضبه وهدد باللجوء إلى إجراءات أخرى في حال إحجام سوريا عن التدخل العسكري المباشر لإنهاء الاقتتال. ويعكس هذا الأمر حدوث انتكاسات عسكرية للمسيحيين. وبالأمس تلقيت مناشدة عاجلة للحصول على مساعدة غربية من شارل مالك (عضو «جماعة الكسليك» ووزير الخارجية السابق). الواضح أن الذخائر بدأت تنفد، في الوقت الذي حانت الساعة الأخيرة للبنان. ويبدو أن (الرئيس حافظ) الأسد استجاب عبر ممارسة ضغوط على (الزعيم الفلسطيني ياسر) عرفات للمساعدة في إقرار وقف إطلاق نار والوساطة لدى (الزعيم الاشتراكي كمال) جنبلاط. و«أبو إياد» (القيادي الفلسطيني في «فتح» صلاح خلف) توجه صباحا إلى سوريا.
تشير تقديراتنا إلى أن قوات (منظمة) «الصاعقة» (الفدائية الفلسطينية التابعة لجناح سوريا في حزب البعث العربي الاشتراكي) ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات النظامية السورية كافية لفرض وقف إطلاق نار في حال تعاونت منظمة فتح، الأمر الذي تبدو المنظمة مستعدة للقيام به في الوقت الراهن. أما إذا كانت لدى السوريين خطط أبعد من ذلك، مثل تشكيل جبهة لجماعات الممانعة هنا، فسيكون من الواضح أنه ليس بإمكانهم التعويل كثيرًا على تعاون «فتح».
لقد كان من شأن تشجيع مصر منظمة فتح على إقصاء نفسها عن التسوية السياسية السورية زيادة تعقيد الموقف هنا. وربما أدى هذا الأمر، علاوة على الجهود العراقية القوية لتخريب محاولات التسوية، إلى إقناع السوريين بحاجتهم للدفع بمزيد من القوات النظامية للاضطلاع بالمهمة.
هل ينبغي أن تفكر حكومتنا، وربما نحن، في كبح جماح الجهود المصرية على أساس أن ما يقومون به سيخلق إما مزيدًا من الفرص أمام القوى اليسارية داخل لبنان لتعزيز موقفها وإما تدخلاً سوريًا عسكريًا أقوى؟

السير بيتر ويكفيلد
برقية من وزارة الخارجية إلى السفارات في بيروت ودمشق وتل أبيب وباريس والقاهرة وعمّان وموسكو وبعثة المملكة المتحدة لدى نيويورك
أطلعت (وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آندريه) غروميكو باختصار على النيات السورية هذا الصباح، لمنحه فرصة لمراجعة الأمر مع موسكو. وعلق بقوله إنه نما إلى مسامعه شائعات تفيد الأمر ذاته. وقلت إنه رغم أن المعلومات المتاحة لدينا ليست مؤكدة، لكنها تعتمد على ما هو أكثر من مجرد شائعات، وأننا نشعر بضرورة التعامل معها بجدية. إننا نتفهم إمكانية وجود القليل من القوات السورية النظامية داخل لبنان بالفعل، لكن ما يثير قلقنا إمكانية أن ترسل سوريا تعزيزات كبيرة. في اعتقادنا، من الممكن أن يثير ذلك تحركًا إسرائيليًا إلى داخل الجنوب اللبناني. وسيكون من المتعذر التكهن بتداعيات مثل هذا التطور، لكنها ربما تتضمن صدامًا بين إسرائيل وسوريا، الأمر الذي قد يشعل صراعًا أوسع نطاقًا يحمل مخاطر كبرى على السلام الدولي ومصالح الأطراف الثالثة. وأكدت أننا سنعمل على استغلال نفوذنا لدى الإسرائيليين للحيلولة دون حدوث تصعيد، وعمدت إلى حث غروميكو إلى القيام بالمثل مع السوريين. كان هناك بالطبع خطر في الاتجاهين: فإذا تصدى السوريون لممارسات قوات الحركة الوطنية (اللبنانية) المتطرفة قد تفلت الأمور عن السيطرة، لكننا عمومًا ارتأينا أن هذا أفضل الشرّين، إذ سيكون أفضل من تدخل إسرائيلي حتمي ضد دخول سوري واسع.
من جانبه، قال غروميكو إنه لا يرغب في التشكيك في معلوماتي. بل إنه يود القول فحسب إن التقارير التي وصلت إليه لا يمكن التعامل معها على أنها تستحق الاعتماد عليها، وإنما تقوم على شائعات صادرة عن دوائر بعينها داخل العالم العربي، ونظرًا لأنه جرى تمريرها إليه من قبل حكومة موسكو فإنها ربما يكون قد عفا عليها الدهر. وأضاف أن الروس ما كانوا راضين عن الوضع السابق في لبنان والمنطقة المحيطة به، إلا أن الروس اتفقوا على أن الوضع محفوف بالمخاطر. وبالتالي، تعهد بأنه سيعمل على الاتصال بـ«بعض الأشخاص داخل دول عربية»، للحث على التزام سياسات معتدلة، لكن من الصعب تحديد التأثير الذي سيحققه ذلك. وأعرب عن أمله في أن نقوم من جانبنا باتخاذ خطوات لتحقيق بعض الاعتدال في الموقف.
وطلب غروميكو التعرف على وجهات نظرنا بخصوص كيف يمكن حل المشكلة، مشيرًا إلى اعتقاده أن ما بدا كشأن داخلي انتهى بتدويله بسبب التدخلات الأجنبية لصالح الجماعات اللبنانية المتناحرة. وأنا من جانبي لم أرفض هذا الرأي، إلا أنني أوضحت أن الجماعات اللبنانية ذاتها هي التي سعت إلى استدعاء دعم خارجي وجاءت النتيجة فوضوية ومربكة. في أي حال، نحن نعتقد أنه بصورة عامة، اضطلع السوريون بدور مسؤول، ونرى أنه لا تزال لديهم فرصة للتوصل إلى تسوية عبر التفاوض.
أيضًا بوجه عام، أعتقد أن رد فعل غروميكو جاء مرضيًا، وآمل أن يجده (وزير الخارجية الأميركي هنري) كيسنجر مفيدًا. ولقد اقترحت أن يتبادل الآراء مع الجانب الأميركي، وأيضا مع الفرنسيين بالنظر إلى اهتمامهم التقليدي بشؤون لبنان.
تشير أحدث التقارير الواردة من بيروت وتل أبيب إلى وجود قوات نظامية سوريا بالفعل داخل لبنان، وحسب تقديرنا فإن هذه القوات بجانب (فدائيي منظمة) «الصاعقة» ومنظمة التحرير الفلسطينية كافية لفرض وقف إطلاق نار بشرط تعاون «فتح».
ويبدو رد الفعل الإسرائيلي حيال التوجه السوري وتجاه الأميركيين مبالغا فيه بعض الشيء، وإن كان وضع الحكومة الإسرائيلية حاليًا متراجعًا للغاية إلى درجة قد تخلق لديها شعورًا بالحاجة إلى تقديم رد فعل أقوى إزاء ما يتطلبه الوضع على أرض الواقع حيال التدخل السوري الصريح.
وهنا أتساءل حول ما إذا كان من الممكن إقناع الإسرائيليين بأن تدخلاً عسكريًا أكبر من جانب سوريا في لبنان سيكون أقل خطرًا من استمرار الفوضى أو من ظهور سلطة في الجنوب حريصة على تشجيع شن الهجمات على إسرائيل، ولن تتأثر بعقوبات كتلك التي يمكن لإسرائيل فرضها على سوريا أو أي سلطة لبنانية يعاد تأسيسها؟ هل سيكون الإسرائيليون مستعدين للسماح بدخول قوات سورية إضافية إلى لبنان على أن تبقى بعيدة عن جنوبه؟
أما بالنسبة للوضع داخل لبنان فإنه يتقلب بين يوم وآخر، في وقت يعكف المبعوثون السوريون على محاولة اتخاذ الترتيبات اللازمة لإقرار وقف إطلاق نار. وأميل إلى الاعتقاد أنه في ظل هذا الوضع الشديد التعقيد والغموض، فإن المسار الأفضل أمامنا يكمن في محاولة كسب الوقت لفترة أطول عبر كبح ميل السوريين والإسرائيليين إلى اللجوء لإجراءات متطرفة.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.