وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

إضاءة على مداولات القوى الكبرى لضبط الوضع اللبناني في مطلع 1976

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
TT

وثائق «سي آي إيه» كالاهان ارتأى دخولاً سوريًا لوقف القتال من دون أن تعترض إسرائيل

صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976
صورة أرشيفية من بيروت خلال الحرب اللبنانية في يناير عام 1976

في حلقة اليوم من وثائق الاستخبارات الأميركية نتناول وثائق عائدة لمرحلة حاسمة من تاريخ لبنان السياسي المعاصر. هذه المرحلة هي تحديدًا مفصل «تكليف» القوى الكبرى النظام السوري في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، بالتدخل عسكريًا في لبنان، لإنهاء القتال الدائر يومذاك بين «القوات المشتركة» لما كان يُعرف بـ«الحركة الوطنية اللبنانية» وحركات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها من جهة، وقوات الأحزاب المسيحية اللبنانية من الجهة المقابلة.
في تلك المرحلة، تفاقم الوضع في لبنان - إبان رئاسة الرئيس الأسبق الراحل سليمان فرنجية - ورجّحت الكفة الميدانية لـ«القوات المشتركة» بمكوّنيها اللبناني والفلسطيني، ما هدّد بخروج الصراع عن نطاقه المحلي والتحول إلى أزمة إقليمية ودولية، في ظل استعانة المكوّنات المحلية اللبنانية باللاعبين الإقليميين. وتشير الوثائق البريطانية - الأميركية المتبادلة التي ننشرها اليوم إلى المداولات التي أخذت في الاعتبار عام 1976 قطع الطريق على تدخل إسرائيلي مباشر لمنع الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين والقوميين من اللبنانيين من الغلبة العسكرية، وإلى الدور الموكل لدمشق لوقفهم. وبين أهم الوثائق برقية لوزير الخارجية البريطاني يومذاك جيمس كالاهان (رئيس الوزراء فيما بعد) عن بحثه في الأمر مع وزير الخارجية السوفياتي آندريه غروميكو (رئيس الاتحاد السوفياتي لاحقًا) والتواصل والتشاور مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في حينه. أيضًا من الوثائق المهمة رسالة للسفير البريطاني في بيروت السير بيتر ويكفيلد حول الوضع، وما يمكن فعله، والدور الذي يمكن للرئيس الأسد فعله لتبريد الأجواء واحتواء التفجر.
نعلم أن عددًا من العسكريين النظاميين السوريين موجودون بالفعل داخل لبنان. ويعلم الإسرائيليون أيضًا هذا الأمر، إلا أنهم لم يبدوا اعتراضهم حتى الآن.
ربما يظن السوريون أنهم نجحوا في إخفاء وجود جنودهم في صورة فلسطينيين، إلا أنهم حال إقدامهم على استخدامهم سيصبح وجودهم أمرًا معروفًا. وسيشعرون حينذاك بالقلق حيال رد الفعل الإسرائيلي.
وربما تنوي سوريا إرسال مزيد من القوات النظامية. وهنا سيكون السؤال هل سيسمح الإسرائيليون بهذا الأمر تبعًا لشروط معينة - تحديدًا أن يجري البقاء عليهم بعيدًا عن الجنوب؟
تفيد أنباء بأن (الرئيس اللبناني سليمان) فرنجية اتصل هاتفيًا بالرئيس (السوري) حافظ الأسد بالأمس، وأعرب عن غضبه وهدد باللجوء إلى إجراءات أخرى في حال إحجام سوريا عن التدخل العسكري المباشر لإنهاء الاقتتال. ويعكس هذا الأمر حدوث انتكاسات عسكرية للمسيحيين. وبالأمس تلقيت مناشدة عاجلة للحصول على مساعدة غربية من شارل مالك (عضو «جماعة الكسليك» ووزير الخارجية السابق). الواضح أن الذخائر بدأت تنفد، في الوقت الذي حانت الساعة الأخيرة للبنان. ويبدو أن (الرئيس حافظ) الأسد استجاب عبر ممارسة ضغوط على (الزعيم الفلسطيني ياسر) عرفات للمساعدة في إقرار وقف إطلاق نار والوساطة لدى (الزعيم الاشتراكي كمال) جنبلاط. و«أبو إياد» (القيادي الفلسطيني في «فتح» صلاح خلف) توجه صباحا إلى سوريا.
تشير تقديراتنا إلى أن قوات (منظمة) «الصاعقة» (الفدائية الفلسطينية التابعة لجناح سوريا في حزب البعث العربي الاشتراكي) ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات النظامية السورية كافية لفرض وقف إطلاق نار في حال تعاونت منظمة فتح، الأمر الذي تبدو المنظمة مستعدة للقيام به في الوقت الراهن. أما إذا كانت لدى السوريين خطط أبعد من ذلك، مثل تشكيل جبهة لجماعات الممانعة هنا، فسيكون من الواضح أنه ليس بإمكانهم التعويل كثيرًا على تعاون «فتح».
لقد كان من شأن تشجيع مصر منظمة فتح على إقصاء نفسها عن التسوية السياسية السورية زيادة تعقيد الموقف هنا. وربما أدى هذا الأمر، علاوة على الجهود العراقية القوية لتخريب محاولات التسوية، إلى إقناع السوريين بحاجتهم للدفع بمزيد من القوات النظامية للاضطلاع بالمهمة.
هل ينبغي أن تفكر حكومتنا، وربما نحن، في كبح جماح الجهود المصرية على أساس أن ما يقومون به سيخلق إما مزيدًا من الفرص أمام القوى اليسارية داخل لبنان لتعزيز موقفها وإما تدخلاً سوريًا عسكريًا أقوى؟

السير بيتر ويكفيلد
برقية من وزارة الخارجية إلى السفارات في بيروت ودمشق وتل أبيب وباريس والقاهرة وعمّان وموسكو وبعثة المملكة المتحدة لدى نيويورك
أطلعت (وزير خارجية الاتحاد السوفياتي آندريه) غروميكو باختصار على النيات السورية هذا الصباح، لمنحه فرصة لمراجعة الأمر مع موسكو. وعلق بقوله إنه نما إلى مسامعه شائعات تفيد الأمر ذاته. وقلت إنه رغم أن المعلومات المتاحة لدينا ليست مؤكدة، لكنها تعتمد على ما هو أكثر من مجرد شائعات، وأننا نشعر بضرورة التعامل معها بجدية. إننا نتفهم إمكانية وجود القليل من القوات السورية النظامية داخل لبنان بالفعل، لكن ما يثير قلقنا إمكانية أن ترسل سوريا تعزيزات كبيرة. في اعتقادنا، من الممكن أن يثير ذلك تحركًا إسرائيليًا إلى داخل الجنوب اللبناني. وسيكون من المتعذر التكهن بتداعيات مثل هذا التطور، لكنها ربما تتضمن صدامًا بين إسرائيل وسوريا، الأمر الذي قد يشعل صراعًا أوسع نطاقًا يحمل مخاطر كبرى على السلام الدولي ومصالح الأطراف الثالثة. وأكدت أننا سنعمل على استغلال نفوذنا لدى الإسرائيليين للحيلولة دون حدوث تصعيد، وعمدت إلى حث غروميكو إلى القيام بالمثل مع السوريين. كان هناك بالطبع خطر في الاتجاهين: فإذا تصدى السوريون لممارسات قوات الحركة الوطنية (اللبنانية) المتطرفة قد تفلت الأمور عن السيطرة، لكننا عمومًا ارتأينا أن هذا أفضل الشرّين، إذ سيكون أفضل من تدخل إسرائيلي حتمي ضد دخول سوري واسع.
من جانبه، قال غروميكو إنه لا يرغب في التشكيك في معلوماتي. بل إنه يود القول فحسب إن التقارير التي وصلت إليه لا يمكن التعامل معها على أنها تستحق الاعتماد عليها، وإنما تقوم على شائعات صادرة عن دوائر بعينها داخل العالم العربي، ونظرًا لأنه جرى تمريرها إليه من قبل حكومة موسكو فإنها ربما يكون قد عفا عليها الدهر. وأضاف أن الروس ما كانوا راضين عن الوضع السابق في لبنان والمنطقة المحيطة به، إلا أن الروس اتفقوا على أن الوضع محفوف بالمخاطر. وبالتالي، تعهد بأنه سيعمل على الاتصال بـ«بعض الأشخاص داخل دول عربية»، للحث على التزام سياسات معتدلة، لكن من الصعب تحديد التأثير الذي سيحققه ذلك. وأعرب عن أمله في أن نقوم من جانبنا باتخاذ خطوات لتحقيق بعض الاعتدال في الموقف.
وطلب غروميكو التعرف على وجهات نظرنا بخصوص كيف يمكن حل المشكلة، مشيرًا إلى اعتقاده أن ما بدا كشأن داخلي انتهى بتدويله بسبب التدخلات الأجنبية لصالح الجماعات اللبنانية المتناحرة. وأنا من جانبي لم أرفض هذا الرأي، إلا أنني أوضحت أن الجماعات اللبنانية ذاتها هي التي سعت إلى استدعاء دعم خارجي وجاءت النتيجة فوضوية ومربكة. في أي حال، نحن نعتقد أنه بصورة عامة، اضطلع السوريون بدور مسؤول، ونرى أنه لا تزال لديهم فرصة للتوصل إلى تسوية عبر التفاوض.
أيضًا بوجه عام، أعتقد أن رد فعل غروميكو جاء مرضيًا، وآمل أن يجده (وزير الخارجية الأميركي هنري) كيسنجر مفيدًا. ولقد اقترحت أن يتبادل الآراء مع الجانب الأميركي، وأيضا مع الفرنسيين بالنظر إلى اهتمامهم التقليدي بشؤون لبنان.
تشير أحدث التقارير الواردة من بيروت وتل أبيب إلى وجود قوات نظامية سوريا بالفعل داخل لبنان، وحسب تقديرنا فإن هذه القوات بجانب (فدائيي منظمة) «الصاعقة» ومنظمة التحرير الفلسطينية كافية لفرض وقف إطلاق نار بشرط تعاون «فتح».
ويبدو رد الفعل الإسرائيلي حيال التوجه السوري وتجاه الأميركيين مبالغا فيه بعض الشيء، وإن كان وضع الحكومة الإسرائيلية حاليًا متراجعًا للغاية إلى درجة قد تخلق لديها شعورًا بالحاجة إلى تقديم رد فعل أقوى إزاء ما يتطلبه الوضع على أرض الواقع حيال التدخل السوري الصريح.
وهنا أتساءل حول ما إذا كان من الممكن إقناع الإسرائيليين بأن تدخلاً عسكريًا أكبر من جانب سوريا في لبنان سيكون أقل خطرًا من استمرار الفوضى أو من ظهور سلطة في الجنوب حريصة على تشجيع شن الهجمات على إسرائيل، ولن تتأثر بعقوبات كتلك التي يمكن لإسرائيل فرضها على سوريا أو أي سلطة لبنانية يعاد تأسيسها؟ هل سيكون الإسرائيليون مستعدين للسماح بدخول قوات سورية إضافية إلى لبنان على أن تبقى بعيدة عن جنوبه؟
أما بالنسبة للوضع داخل لبنان فإنه يتقلب بين يوم وآخر، في وقت يعكف المبعوثون السوريون على محاولة اتخاذ الترتيبات اللازمة لإقرار وقف إطلاق نار. وأميل إلى الاعتقاد أنه في ظل هذا الوضع الشديد التعقيد والغموض، فإن المسار الأفضل أمامنا يكمن في محاولة كسب الوقت لفترة أطول عبر كبح ميل السوريين والإسرائيليين إلى اللجوء لإجراءات متطرفة.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!