داعش ينشّط خلاياه في وادي النيل

رصد تدفق مالي لتمويل عمليات خارج «المثلث الساخن» بشبه جزيرة بسيناء

رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
TT

داعش ينشّط خلاياه في وادي النيل

رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
رجل أمن مصري يعاين آثار الدمار الذي خلفه تفجير طال كنيسة للأقباط الارثودوكس بالقاهرة في ديسمبر الماضي (أ ف ب)

حذّر خبراء مصريون من أن تنظيم داعش الإرهابي ينشّط خلاياه في وادي النيل بمصر بعيدا عن «المثلث الساخن» في شبه جزيرة سيناء، الذي يشهد عمليات عنيفة للتنظيم ضد الجيش والشرطة منذ 3 سنوات. وتزامنت هذه التحذيرات مع صدور دراسة مصرية تحدثت عن رصد تدفق مالي كبير أخيرًا لتمويل عمليات إرهابية في مصر، وهو الأمر الذي تقول: إنه كان له عظيم الأثر في عودة التيارات التكفيرية للساحة من جديد. ويأتي هذا وسط إجراءات كبيرة تقوم بها السلطات المصرية لضبط أي عناصر لـ«داعش» في المحافظات قبل تنفيذ أي عمليات أو تجنيد أتباع جدد.
رصد مراقبون مصريون مضاعفة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف هجماته في العاصمة المصرية القاهرة وما حولها خلال عام 2016 مقارنة بعام 2015، الذي شهد تركيزا شبه حصري على شبه جزيرة سيناء. ورأوا أن هذا يُنذر بأن التنظيم يسعى لتوسيع نطاق إرهابه بعيدًا عن سيناء، حيث يشن عمليات يومية ضد الجيش والشرطة منذ 2013.
وكالة الأنباء «حق» التابعة لـ«داعش» نشرت عناوين 5 آلاف ضابط شرطة في مصر بعيدا عن سيناء، بجانب أنواع وألوان سياراتهم، وعناوين الكثير من ممتلكاتهم، مذيلة بعبارة: «سنستفيد من هذه العناوين في القريب العاجل إن شاء الله». كذلك نشر التنظيم على نظام للرسائل الفورية المشفرة يستخدمه في الاتصال بأتباعه، صورًا وعناوين لضباط في الجيش والشرطة. ودعا عناصره إلى ملاحقتهم وقتلهم تحت عبارة «مطلوب للدولة»، وقال محللون إن «هؤلاء الضباط لا يخدمون في محافظة شمال سيناء التي ينشط فيها التنظيم والتي تتاخم إسرائيل وغزة، إنما يخدمون في أنحاء أخرى من البلاد في الوادي والدلتا».
ويذكر أن «داعش» أعلن مسؤوليته عن أكبر وأخطر عملية إرهابية خارج سيناء استهدفت الكنيسة البطرسية، الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في ضاحية العباسية بالقاهرة خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وأوقعت العملية 28 قتيلا وأحدثت دويًا دوليًا وعربيًا ومصريًا كبيرًا. ويرى المتابعون أن «استهداف الكنيسة البطرسية يؤكد مد التنظيم لعملياته إلى أنحاء أخرى من البلاد، وبخاصة العاصمة القاهرة».

العودة إلى التكفير
من ناحية ثانية، تحدثت دراسة مصرية حديثة التي أعدتها دار الإفتاء المصريةن عن أن مصر شهدت في الفترة الماضية تدفقا تمويليا للجماعات الإرهابية بصورة كبيرة، ما كان له عظيم الأثر في عودة التيارات التكفيرية إلى الساحة من جديد أشد صلابة وقوة عن ذي قبل. بل إن بعض التيارات التي كانت في وقت سابق قد أعلنت أنها نبذت العنف مثل تنظيم «الجهاد»، و«الجماعة الإسلامية» وغيرها، وأنها تفرغت للعمل الدعوي؛ استأنفت العنف، وأصبح لديها معسكراتها التي تدرب فيها أعضاءها على أعمال القتال. وعادت من جديد لغة التكفير تطغى على خطابها، سواء كان موجها لأعضائها أو كان موجها للآخر.. وبعض عناصر هذه التيارات بايعوا «داعش» ويسيرون على نهج التنظيم في القتل والعنف. ووفق الدراسة، استطاعت مصر تجفيف منابع التطرف والإرهاب في السابق من خلال القضاء على جذور رؤوس التيارات المتطرفة من ناحية. ومن ناحية أخرى من خلال المراجعات الفكرية التي تمت داخل السجون المصرية خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، التي استمرت لمدة 15 عاما انتهت بمبادرة وقف العنف في عام 1997. وبالتالي، شهدت بداية الألفية الجديدة هدوءا نسبيا على الساحة واختفاء لغة التكفير، حتى ولو بشكل ظاهري، بجانب رغبة جماعات ما يسمى الإسلام السياسي في الانخراط في الحياة السياسية والبرلمانية. إلا أن هذا الهدوء وهذا التحول لم يلبسا أن تبخرا في عام 2013 (عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين والرئيس المعزول محمد مرسي) وعاد الخطاب التكفيري أشد ضراوة ومصحوبا بالقتال والاصطدام مع الدولة من جديد، وتبنت معظم هذه العمليات «داعش مصر». من جهته، قال الخبير الأمني والاستراتيجي المصري، العميد السيد عبد المحسن: إن «عمليات (داعش) في الدلتا تعتمد على مجموعات صغيرة من العناصر تنشط في سرية تامة، وتتصل ببعضها بعضا عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) و(تويتر) لتنفيذ أي عملية إرهابية جديدة، بعد ذلك يعلن التنظيم الرئيسي- أي (داعش)- مسؤوليته عن العملية». مضيفًا أن «(داعش) يعتمد في ذلك على استراتيجية (الذئاب المنفردة) ويمارس جذب وتجنيد عناصر (الذئاب المنفردة) من خلال شبكة الإنترنت. ويجري من خلال الإنترنت التعرف إلى استراتيجيات التنظيم والأهداف التي يضعها بهدف شن هجمات إرهابية. ولفت إلى أن توافر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت يكمل مهمة تدريب أفراد (الذئاب المنفردة) من خلال توفير الإرشادات اللازمة لصناعة القنابل اليدوية الناسفة واستخدام السلاح وغيره من التدريبات العسكرية التي تحول هؤلاء الأشخاص لمنفذين ماهرين».

نجاح «داعش»... اقتصاديًا
عودة إلى دراسة دار الإفتاء المصرية، فإنها تشير إلى أن اقتصاد «داعش» هو أحد أهم أسباب بقائه إلى الآن على الساحتين العربية والدولية، رغم الضربات الشديدة التي توجه له عبر الكثير من الأنظمة في الدول والتحالفات، لافتة إلى أن «هذا الاقتصاد أصبح جزءا من الاقتصاد العالمي». وزعمت مجلة «أعماق» الشهرية التي يصدرها التنظيم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن عدد العمليات الانتحارية التي قام بها عناصر من التنظيم تراوحت بين 50 و60 عملية شهريا حتى نوفمبر عام 2015؛ لكنها ارتفعت في الشهور التالية، ووصلت إلى ما بين 80 و100 عملية شهريا، بمعدل عمليتين أو ثلاث يوميا.. وهو ما يكلف التنظيم أموالا كثيرة. وحسب الدراسة، فإن «تكلفة اليوم الواحد لـ(داعش) للقيام بعمليات إرهابية على الدول، تصل إلى ما يقرب من 15 مليون دولار». وهنا، يوضح متابعون مطلعون أن «اقتصاد الإرهاب يمنح الجماعات المتطرفة الحياة والبقاء أمام الضربات المتتالية التي تُمنى بها من الدول والأنظمة»... و«هذا الاقتصاد الكبير يقدم تفسيرا لكثرة العمليات الإرهابية المتتالية التي تشهدها مصر وغيرها من الدول التي تواجه الإرهاب». كذلك، كشفت الدراسة عن أن «اقتصاد (داعش) ليس اقتصادا عشوائيا كما يظن البعض، أو قائم على الجباية وتحصيل أموال الزكاة أو الجزية من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، بجانب تجارة الآثار والمخدرات؛ بل على العكس. فـ(داعش) مثلا يعلم جيدا أنه يحتاج إلى نفقات كبيرة جدا لكي يواصل حروبه ضد الدول التي يتواجد بها، وأن ما يجنيه من المصادر السابقة (أي الجزية والزكاة والتهريب) ليس بمقدورها وحدها أن تضمن له البقاء فترة طويلة. وبالتالي، فهو يبحث دائما عن مصادر دخل أخرى تضمن له البقاء، وتعود عليه بالأموال التي تعينه على الحرب؛ لأن تكلفة الحرب كبيرة للغاية».

غسل الأموال
وتحدثت الدراسة المصرية عن أن «التنظيمات الإرهابية التي منها (داعش) تعتمد في اقتصادها على رجال أعمال وشركات تجارية بجانب جماعات فاسدة في بعض الدول لتخفي اقتصادها المشبوه خلفهم، في عمليات غسل للأموال؛ وذلك لأمرين، أولهما: 1 - استثمار هذه الأموال وضمان زيادتها بالصورة التي تغطي كلفة الحرب. و2 - إخفاء هذا الاقتصاد من خلال تغلغله عبر شبكات كثيرة في الاقتصاد العالمي بشكل يجعل عملية الكشف عنه في غاية الصعوبة.
ومن ثم أشارت إلى أن نمو اقتصاديات الجماعات المتطرفة يعتمد على ضعف وإنهاك اقتصاد الدول التي تحارب الإرهاب؛ لأنه يعتمد بالأساس على إنهاك هذه الدول من خلال رفع فاتورة الحرب ضدها، بتلونه ومواصلة ضرباته وعملياته ضد الدول، وضرب مصادر الدخل القومي من جهة أخرى كالسياحة والبترول وما شابه ذلك من مصادر دخل أساسية للدول. ثم أوضحت أن وجهة النظر تلك تؤكد ضخامة حجم اقتصاد التنظيمات المتطرفة، وهذا ما يعطيها قبلة الحياة، أو يضمن لها سريان الدم في عروقها طيلة الوقت. ومن شأن هذا تصعيب فرص القضاء على هذه التنظيمات الإرهابية أمام الدول التي تحاربها مثل مصر وغيرها؛ لأنها ما إن تقضي على نقطة إرهابية في مكان إلا ويظهر تنظيم في مكان آخر بكامل عتاده وعدته وفي وقت قصير للغاية.

بيانات الداخلية المصرية
وبما يخص مصر بالذات، تحدثت وزارة الداخلية المصرية عن ضبط أكثر من خلية تنتمي إلى «داعش» وبحوزة أفرادها أوراق مالية ومخططات للقيام بعمليات تخريبية. ويقول بعض المحللين الأمنيين إنه مع فقدان «داعش» معاقله في سوريا والعراق وليبيا.. من المنطقي أن يتحول اهتمامه صوب مصر، أكبر الدول العربية سكانا.
ويؤكد خبراء أمنيون، أن «داعش» يحاول خلط الأوراق في مصر بالضرب في الوادي والدلتا، في محاولة لإرباك الأجهزة اﻷمنية لصعوبة تعقب عناصره، تحديدا تلك التي تعمل في إطار محافظتي القاهرة والجيزة. وبالفعل، أعلن التنظيم في هذا الصدد، وجود مجموعة عاملة في محيط القاهرة والجيزة.. وبلغ عدد العمليات التي نفذها ما يقرب من 11 عملية مسلحة في القاهرة وحدها. وهنا علّق العميد السيد عبد المحسن قائلاً إن تعمد «داعش» تشكيل خلايا له في الوادي والدلتا، جاء نتيجة التشديدات اﻷمنية في سيناء؛ لذلك هناك حاجة للتنظيم إلى تعديل استراتيجيته في اختيار اﻷهداف. مضيفًا أن عناصر «داعش سيناء» تمد الخلايا العاملة في الوادي والدلتا بالدعم المادي واللوجيستي وتدريب المقاتلين والإمداد بالسلاح والمتفجرات.
وحقًا، تشدد الأجهزة الأمنية من إجراءاتها لكل من يخرج من سيناء في اتجاه الوادي والدلتا، وقالت مصادر أمنية إن «هذه الإجراءات لمنع تسلل شباب ينضمون إلى المسلحين في سيناء أو عودة بعضهم للوادي والدلتا بعد تلقي تدريبات لتنفيذ عمليات إرهابية»، لافتة إلى أنه «يجري الكشف عن هوية أي شخص قبل أن يدخل القاهرة أو أي محافظة من سيناء». ولكن تشير المصادر إلى أنه رغم ذلك تتسلل عناصر للوادي والدلتا؛ نظرا لوجود ممرات وطرق جبلية وصحراوية، يستغلها التنظيم في الخروج والدخول إلى سيناء، بعيدا عن أعين الأجهزة المعنية التي تهتم بمكافحة الإرهاب.
ومن ثم، يركز متابعون مطلعون على «ضرورة زيادة النشاط الاستخباراتي للأجهزة الأمنية وجمع المعلومات بالتعاون مع أهالي سيناء، لرصد تحركات وخبايا التنظيم المسلح؛ وذلك من أجل إحكام السيطرة على منافذ الأموال والسلاح إليه، وتسلل عناصره من وإلى سيناء». كذلك يطالب خبراء بمراقبة تحركات كل خلايا «داعش» المحتملة في القاهرة والجيزة والقضاء عليها تماما في أقرب وقت؛ وإلا فإن موجة تفجيرات متوقعة ستشهدها الكثير من المحافظات المصرية في المستقبل القريب.

محاكمات المتهمين الدواعش
في سياق متصل، حددت هيئة القضاء العسكري المصري جلسة 14 فبراير (شباط) المقبل لأولى جلسات محاكمة 176 متهما في قضية «ولاية سيناء»، أو «داعش مصر»، أمام المحكمة العسكرية، بتهم الانضمام إلى جماعة أسست خلافا لأحكام القانون والدستور، الغرض منها تعطيل مؤسسات الدولة، ومنعها من ممارسة عملها، والتخابر مع تنظيم أجنبي يقع مقره خارج مصر.
وقالت أوراق القضية، إن «المتهمين اعتنقوا فكر (داعش) من خلال عدد من الكتب التكفيرية، على رأسها (مسائل في فكر الجهاد) لأبي عمر المهاجر، الذي يروج لأفكار الحرق والذبح، وكتاب (إدارة التوحش) لأبي بكر ناجي، الذي يوضح فيه كيفية استغلال فترة الفوضى التي من الممكن أن تحدث في بلاد الإسلام من أجل الوصول للحكم».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.