سياسات الصادق المهدي أبعدت السودان عن الغرب والجيران

وثائق الاستخبارات الأميركية كشفت عن أنه دفع ثمن الإطاحة بالنميري

الصادق المهدي (غيتي)
الصادق المهدي (غيتي)
TT

سياسات الصادق المهدي أبعدت السودان عن الغرب والجيران

الصادق المهدي (غيتي)
الصادق المهدي (غيتي)

عقب الإطاحة بالرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري في أبريل (نيسان) من عام 1985، كانت هناك فترة فاصلة قصيرة في السودان، لم تتجاوز 14 شهرا، تولى السلطة خلالها مجلس عسكري انتقالي بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، قبل أن يسلم السلطة بدوره لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي ومجلس سيادة يرأسه أحمد الميرغني.
وبعد مرور نحو عامين على حكومة الصادق المهدي، تنبهت الاستخبارات المركزية الأميركية إلى أهمية تقييم فترة حكمه، فتم تكليف مجموعة من المحللين لتقديم تحليل لصناع القرار، حرصوا فيه على عدم تقديم أي توصيات أو نصائح، بل ترك المعلومات كما هي وإضافة بعض الخلفيات التي قد يجهلها صانع القرار الأميركي. وتستعرض «الشرق الأوسط» مضمون هذا التحليل إضافة إلى مضامين وثائق أخرى حواها ملف السودان في الفترة التي أزيح عنها ستار السرية من أرشيف الاستخبارات الأميركية.
بعد دراسة فترة الشهور الأولى من عهد الصادق المهدي، خرج محللو الاستخبارات الأميركية باستنتاجات تتمحور حول محاولة إثبات أن المهدي نهج سياسة مختلفة عن جعفر نميري أدت إلى نقل السودان من موالاة الغرب في السياسة الخارجية إلى وضع أقرب إلى الحياد، وأن هذه السياسة، أبعدت بلاده عن الغرب والدول المجاورة، كما كلفت السودان ثمنا باهظا على الصعيدين الخارجي والداخلي.
فعلى الصعيد الخارجي، اعتقدت وكالة الاستخبارات الأميركية، طبقا لما ورد في الوثيقة، أن سياسات المهدي أسفرت عن خسران بلده جزءا كبيرا من مساعدات داعميه التقليديين في الغرب؛ حيث إنهم خفضوا مساعداتهم العسكرية والاقتصادية بسبب طموحاته. لكن الوثيقة على غير عادة التحليلات الاستخبارية لم تدلل على صحة هذا الزعم بأرقام محددة عن حجم ما خسره السودان من معونات، كما لم توضح ما طموحات الصادق المهدي التي أجبرت الغرب على معاقبة بلاده. ورغم أن الوثيقة أوردت المهدي بصفته رئيسا للوزراء، فإنها تحدثت عنه كما لو أنه رأس الدولة، متجاهلة تماما الدور المناط برئيس مجلس السيادة أحمد الميرغني، وهو شريك أساسي في السلطة.

كلفة الحياد
فيما يتعلق بخسائر الصادق المهدي على الصعيد الداخلي فقد انعكس النقص في المساعدات الخارجية سلبا على نفوذ الصادق المهدي ومكانته داخليا؛ حيث أدى تدهور الأوضاع الاقتصادية للناس، إلى ارتفاع الأصوات المعارضة للمهدي التي وجدت في ذلك التدهور مادة خصبة لمهاجمة الصادق المهدي وحكومته وفقا لتقييم «سي آي إيه».
واعتقد المهدي - وفقا للوثيقة - أن سياسة الحياد الإقليمي مفيدة للحفاظ على حكمه وعلى أمن السودان في وسط إقليمي مضطرب. ومن بين الهموم الإقليمية للصادق المهدي، أن طموح القذافي هدد السودان في قلب الخرطوم، كما أن إيران قد تسعى لتسليح بعض الأطراف السياسية المتنافسة بما يشكل ذلك من خطورة نشوب صراع مسلح إضافي في السودان إلى الصراعات المسلحة القائمة. وفضلا عن ذلك، فإن السيادة السودانية على إقليم دارفور في غرب السودان مهددة إلى درجة تقلق الصادق المهدي، إضافة إلى أن متمردي حركة جون قرنق يمضون قدما في تحقيق مسارهم نحو الاستقلال عن الخرطوم.
ومن الواضح في الوثيقة أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت غير مطمئنة لبقاء المهدي وتوقعت أن تتم الإطاحة به خلال أشهر قليلة، ولكن محلليها لم يعتبروا الإطاحة مدعاة للأسف عليه، بل أرادوا التعجيل بهذا الرحيل.
وتشير المعلومات الواردة في الوثيقة إلى أن الانطباع السائد وقتها عن حكومة المهدي أنها كانت على علاقة وطيدة مع الزعيم الليبي معمر القذافي على حساب مصر، غير أن المهدي يبرر ذلك بحرصه على عدم استعداء القذافي أو كما يقول: «تفاديا لشره وليس أملا في خيره».

بين ليبيا ومصر
وجزم المحللون أن الإطاحة بالمهدي ستتم العام المقبل، دون أي إشارة أو تلميح إلى أن الوكالة ستلعب دورا في ذلك. واكتفى التقرير بالقول إن الإطاحة بحكومة المهدي ستكون في صالح الولايات المتحدة والغرب لأن من سيأتي بعده، حسب جزم الوكالة في حينه، عسكريون، والعسكريون السودانيون بطبيعتهم عمليون وأكثر واقعية في تعاملهم مع الغرب.
وكون التحليل تم إعداده لصناع القرار باسم الوكالة فيمكن اعتبار ما ورد فيه معبرا عن وجهة نظر الوكالة بوصفها مؤسسة وليس رأي محلل فردي؛ ولهذا يمكن القول إن الوكالة عادت وأنصفت المهدي في الوثيقة ذاتها، حيث أشارت إلى أن الصادق المهدي يمكن اعتباره من قادة العالم الثالث، ويتمتع بقدر كبير من الثقة بنفسه.
وكشفت الوكالة عن معلومات لديها بأن أكثر ما يضايق الصادق المهدي التعالي الذي كانت تبديه الجارة مصر، وكأن السودان لا يزال تابعا لها، أو أنه يتحتم على السودان أن يمضي في فلك القاهرة أينما سارت. واعتقد المهدي، طبقا لما يقوله لمن كان حوله، أن من الأسباب التي أطاحت بجعفر نميري تبعيته الكاملة للسادات ولحسني مبارك من بعده، لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عابت على الصادق المهدي من جانبها اعتقاده أن من حقه أن يحكم أسرته ويحكم طائفته ويحكم السودان في آن واحد، ولمحت الوكالة إلى أن هذا الاعتقاد نابع من الإيمان بالحق الإلهي وهو ما يتنافى مع الواقعية السياسية.
ووصف خبراء الوكالة الصادق المهدي بأنه واسع الثقافة وذو مؤلفات وغزير المعرفة في التاريخ والأديان. وما لم يشر إليه التحليل أن الثقافة شيء والسياسة شيء آخر، لا يلتقيان بالضرورة ولا يفترقان بالضرورة. ويخلص التحليل إلى أن حكم المهدي لن يعمر لأنه أمام خيارات صعبة ولن يتمكن من الاستمرار في سياسة الحياد والبقاء في السلطة. وإذا كان الصادق المهدي يعتقد أن انحياز نميري قد أطاح به، فإن وكالة الاستخبارات المركزية بالعكس من ذلك، ترى أن حياد المهدي هو الذي سيطيح به.

جمعية الصحافيين السودانية
في تقرير آخر لافت، لكونه عن جمعية الصحافيين السودانية، وكان مختصرا لا يتجاوز الصفحتين، يبدو أن مصدره من السودان مرسل إلى واشنطن، وتحمل الوثيقة تاريخ 10 ديسمبر (كانون الأول)، ولكن العام لم يظهر في صورة الوثيقة المفرج عنها، وربما الأشخاص الواردة أسماؤهم في الوثيقة هم القادرون على معرفة العام الذي كتبت فيه.
يبدأ التقرير بإيراد معلومة أن الحكومة السودانية في إطار سعيها للسيطرة على جميع الصحف والدوريات الصادرة في البلاد، شجعت على تأسيس كيان للصحافيين السودانيين باسم جمعية الصحافيين ليكون الكيان بمثابة أداة غير مباشرة للحكومة لفرض الوصاية على الصحافة السودانية عن طريق قسم الصحافة في مكتب العلاقات العامة التابع للحكومة السودانية.
ويشير التقرير إلى أن شخصا باسم مايكل عيساوي كان يرأس قسم الصحافة في مكتب العلاقات العامة المشار إليه قبل أن ينتقل للقاهرة. أما جمعية الصحافيين السودانية فإنها تدار من قبل شخصيات سياسية أبرزهم: أحمد يوسف حازم رئيس الجمعية وهو كذلك ناشر صحيفة السودان الجديد، وكاتب ذائع الصيت في الصحافة السودانية وقت كتابة الوثيقة. أما الثاني فهو إسماعيل عتباني سكرتير الجمعية ومحرر صحيفة الرأي العام، وكان في السابق يرأس تحرير صحيفة صوت السودان. وتشير الوثيقة إلى أنه على الرغم من أن إسماعيل عتباني عضو في الحزب الاتحادي، فإنه تمكن من الحفاظ على موقف حيادي في الجمعية
وفي الفقرة الثانية من الوثيقة قائمة بأسماء أبرز الصحافيين الداعمين لجبهة الاستقلال وسياسات حزب الأمة وهم:
- عبد الرحيم أمين رئيس تحرير «النيل»، ثم انتقل إلى «الأمة»، ومحمد أحمد عمر، حل محل أمين في «النيل» وكان في السابق يرأس تحرير أسبوعية «الهادي»، ويوسف مصطفى تيناني، محرر سابق في «الأمة» وعضو في حزب الأمة، وعبد الله ميرغني سكرتير الحزب الاتحادي ورئيس تحرير «صوت السودان»، ومحمود فاضلي عضو حزب الأشقاء حتى منتصف عام 1948، ومكي عباس، صحيفة «الرائد»، ومحمد أمين بشير، «الأخبار»، وصالح عريبي، «التلغراف»، والفاتح النور، مجلة «كردفان»، وكمال ماجد، «يو إس بي يو»، وأمين رياض، «يو إس بي يو».
ومن غير المعروف ما سبب اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية بهذه الأسماء، ولكن من المؤكد بشكل قاطع ألا أحد منهم يعمل مع الوكالة؛ لأنها في العادة تشطب أسماء المتعاونين معها ولا تسمح بظهور أسماء عملائها، حتى في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية. ومن الملاحظ في هذه الوثيقة ذاتها أن الوكالة عمدت إلى تسويد مصدر الوثيقة في صدر الصفحة الأولى لإخفائه ربما للأبد.

اهتمام أميركي بالوجود الفلسطيني في السودان
* تكشف الوثائق الأميركية المتعلقة بالسودان أن الاستخبارات المركزية كانت تبدي اهتمامًا كبيرًا بالوجود الفلسطيني في السودان، حيث إن السودان كان من ضمن الدول العربية التي اختيرت لاستضافة النازحين الفلسطينيين من لبنان بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982.
وتحت عنوان: «معسكر محتمل للاجئي منظمة التحرير الفلسطينية بمدينة شندي السودانية»، تم إرسال تقرير سري في تلك الفترة إلى واشنطن من مصدر ذي صلة بالاستخبارات المركزية، من صفحة واحدة، جاء فيه:
1- معسكر ثان لاستقبال لاجئي منظمة التحرير الفلسطينية المنقول إلى السودان.
2- عنوان معسكر شندي المقرر استضافته لمقر منظمة التحرير الفلسطينية: «1 إن إم» غرب مدينة شندي، و«85 إن إم» شمال شرقي الخرطوم، ومن المتوقع أن يجري إخلاء المعسكر الأول بمدينة شندي والمخصص للاجئي منظمة التحرير الفلسطينية الكائن في «7 إن إم» جنوب شندي.
وتشير الرسالة المقتضبة إلى أن مشروع المعسكر الجديد لا يزال قيد الإنشاء ويتألف من خمسة مبان ثابتة، وثلاث خيام كبيرة، وثلاث خيام أخرى متوسطة، ونحو 180 خيمة صغيرة، غير أن الرسالة أكدت أن أربعة من تلك المباني الموجودة في المخطط الهندسي لم يبدأ مباشرة البناء فيها بعد، كما لم يتم نصب الخيام حتى الآن.
وأفادت الرسالة بأن فريق منظمة التحرير الفلسطينية بالسودان رفض الموقع المبدئي والمخصص لإعادة توطين لاجئيهم وأنه جرى تخصيص معسكر ثان داخل مرفق مخصص للأبحاث الزراعية بالقرب من مدينة شندي.

عمل سري في مجتمع حر
* رغم الإمكانات الكبيرة المتوفرة لوكالة الاستخبارات الأميركية فإن إلقاء نظرة فاحصة على معلومات محلليها عن الشأن السوداني تكشف عن مدى سطحية تلك المعلومات، أو في أحسن الأحوال يمكن وصفها بأنها لا تتناسب مع التوقعات بأن الوكالة لديها مخزون ثري من المعلومات والأسرار غير المعروفة.
ولكن في المقابل، ماذا عساها أن تعرف أكثر مما يعرفه المواطن السوداني، أو رجل الشارع الذي تصل إليه الأسرار أولا بأول دون تأخير. فمن المعروف أن السودان بطبيعته بلد مفتوح اعتاد مواطنوه على التعامل مع قضايا بلدهم بشفافية متناهية، فضلا عن أن العمل السياسي في السودان في كل العهود يجري على المكشوف، لا مجال فيه للخبايا والخفايا.
ومن الواضح أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لم تهمل متابعة قضايا بلد في حجم قارة بأكملها، هو السودان، فقد كانت التقارير من حيث الكم كثيرة جدًا، ولكنّ محللي الوكالة لم يكن يسمح لهم بالنزول الميداني لاستشراف المعلومات من منابعها، فأثبتت مضامين التقارير أن محللا يجلس على مكتب وثير في لانغلي بولاية فرجينيا (المقر الرئيسي لوكالة الاستخبارات الأميركية)، سوف يصعب عليه أن يلم بأوضاع بلد متنوع الثقافات مثل السودان.
ومع ذلك فإن تقارير «سي آي إيه» عن السودان يمكن أن تكون مدخلا لتقييم مراحل عديدة من تاريخ السودان المعاصر، ويمكن لأصحاب الأسماء الواردة في كل تقرير من تقارير الاستخبارات الأميركية ممن لا يزالون على قيد الحياة، إثراء الموضوعات والفترات التاريخية التي تطرقت إليها التقارير بالمزيد من النقاش والتفنيد للمحتويات خصوصًا ما كان منها مثيرًا للجدل.
ومع إدراكنا لوجود قصور في معلومات الوكالة عن الشأن السوداني فإن العديد من التحليلات تستحق القراءة والتأمل، ومن بينها الوثائق التي رأينا تلخيصها وإبراز جزء من محتوياتها بالقدر الذي تسمح به مساحة الصفحة.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.