تاريخ حافل لحماة القوانين في مسلسلات تلفزيونية مثيرة

رجل الشرطة السري مانيكس أقفل ملفه الخاص ورحل

«ماكلاود»: راعي بقر في المدينة - مايك كونرز في «مانيكس» بجانب سكرتيرته السمراء غايل فيشر
«ماكلاود»: راعي بقر في المدينة - مايك كونرز في «مانيكس» بجانب سكرتيرته السمراء غايل فيشر
TT

تاريخ حافل لحماة القوانين في مسلسلات تلفزيونية مثيرة

«ماكلاود»: راعي بقر في المدينة - مايك كونرز في «مانيكس» بجانب سكرتيرته السمراء غايل فيشر
«ماكلاود»: راعي بقر في المدينة - مايك كونرز في «مانيكس» بجانب سكرتيرته السمراء غايل فيشر

طغى اسم جو مانيكس على اسم مايك كونرز سريعًا ولازمه حتى بعد أن تخلى الممثل، الذي توفي قبل يومين عن 91 سنة، عن شخصية كونرز وحاول الانتقال إلى سواها.
مايك كونرز هو التحري الخاص الذي انطلقت حلقاته أول مرّة سنة 1967 وانتهت آخر حلقاته في سنة 1975 بعد نجاح كبير.
لكن مايك كونرز ليس اسمه الأصلي أساسًا فقد ولد سنة 1925 من أبوين أرمنيين واسمه المسجل آنذاك كان كريكور أوهانيان. في فترة الشباب، كان لاعب كرة سلة واعدًا ثم قاد طائرات حربية خلال الحرب العالمية الثانية وأسهم في القتال ضد الألمان. بعد الحرب عاد إلى الحياة المدنية وفي باله أن يواصل من حيث توقف: كرة السلة. في إحدى المرّات حضر المخرج ويليام أ. ولمان (نال فيلمه «أجنحة» أول أوسكار في تاريخ الجائزة سنة 1927 وكان عن طيارين في الحرب العالمية الأولى)، وشاهده وهو يلعب وعرض عليه التمثيل.
سنة 1952 ظهر في السينما لأول مرّة في فيلم عنوانه «خوف مفاجئ» من بطولة جاك بالانس وجوان كروفورد تحت اسم «توتش كونرز» (كما كان لقبه لاعبًا رياضيًا). وتحت هذا الاسم ظهر في أفلامه اللاحقة التي تنوعت بين البوليسي والحربي والوسترن. في عام 1958 قاد بطولة أول فيلم له تحت اسم مايك كونرز وهو «فرقة انتحارية».
خلال ذلك، كان ظهر في عدة مسلسلات أسبوعية تلفزيونية من بينها «State Trooper» و«Jefferson Drum» و«Wagon Train»، لكن أيًا منها لم يكن بنجاح حلقات «مانيكس» البوليسية التي قام ببطولتها مؤديًا شخصية ذلك التحري الخاص الذي يَضرب ويُضرب، لكن العدالة والقانون سيتحققان على يديه في كل مرّة.
* تاريخ فني
حلقات «مانيكس» كانت من بين الأكثر رواجًا، كما يدل على ذلك بقاؤها على الأثير لتسع سنوات حل فيها بطلها مئات القضايا الصعبة وتعرّض خلالها إلى ما يوازي ذلك العدد من الفخاخ المنصوبة والخدع والمخاطر. أداء مايك كونرز، الذي لم يدرس التمثيل مطلقًا، وقامته الطويلة وابتسامته العريضة حين يشعر بالخطر محاولاً المحافظة على هدوئه، ساقت له إعجابًا كبيرًا.
لكن «مانيكس» لم يكن وحده بين التحريين الذين سادت مغامراتهم الشاشة التلفزيونية في تلك الفترة، وما وفاته عن ذلك العمر المديد إلا تذكيرًا ببعض ما حفلت به محطات التلفزيون (أرضية فقط في ذلك الحين) من مسلسلات بوليسية أبطالها يشابهون مانيكس في إصرارهم على تحقيق العدالة. شخصيات غير رمادية. تعرف ما تريد وتقصده ثم تحققه.
طبعًا، تاريخ هذه المسلسلات يعود إلى الخمسينات، لكن طابعها المميز استمدته من الستينات وطوال السبعينات موفرة لكثير من مخرجي السينما العمل في نطاقها ولكثير من مخرجيها التلفزيونيين الانتقال إلى السينما في الوقت ذاته. مسلسلات التحري تنقسم، كما الحال في الأدب والسينما، إلى تحريين خاصّين وتحريين منخرطين في سلك البوليس الرسمي.
الفترة المعنية هنا، الستينات والسبعينات، شهدت أفواجًا من هذين النوعين. في نطاق التحريين الرسميين كانت هناك حلقات «هاواي - ڤايڤ أو» (من 1968 إلى 1980) التي قام ببطولتها، وفي جزر هاواي جاك لورد (وعاد إليها التلفزيون الأميركي في مسلسلات جديدة غير مميّزة أخيرًا) الذي كان ينتمي إلى بوليس هاواي مع فريق من المخلصين. الموسيقى التي تسبق كل حلقة التي وضعها مورتون ستيفنز لا تكاد تغيب عن البال حتى اليوم.
من دون أنغام مميزة قاد مايكل دوغلاس وكارل مالدن حلقات «شوارع سان فرانسيسكو» في الفترة ذاتها ولو بنجاح أقل.
وفي منتصف السبعينات وحتى نهاية العقد، انبرى ثنائي شاب لحل مشكلات نيويورك هما «ستاركسي وهاتش». اختيرا أن يكون أحدهما يهوديًا (أداه بول مايكل غلايزر) والثاني مسيحيًا أشقر الشعر (ديفيد سول) وأن يكون المتعاون الذي يفهم الشوارع بحذق أسود البشرة (أنطونيو فارغاس).
وثمة مسلسلات من بطولة تحرٍ واحد، أشهرها «كولومبو» (بطولة بيتر فولك) و«كوجاك» (تيلي سافالاس)، وهذان من مواليد المدينة الكبيرة، بينما جاء «ماكلاود» إليها من خلفية في الغرب (استيحاءً من شخصية كلينت ايستوود في فيلم دون سيغال «خديعة كوغان») ليحل مشكلاتها بطريقته الخاصة معتمرًا قبعة رعاة البقر.
المسلسل الإضافي الذي يمكن لنا أن نذكره هنا هو «باريتا» الذي لم يستمر لأكثر من 3 سنوات بين 1975 و1978 قبل أن يودع الأثير. المسلسل قدّم تحريًا من الطبقة العاملة ما يناسب الأدوار التي قام بها بطله روبرت بلايك أكثر من مرّة. وفي لفتة من الزمن وجد بلايك نفسه في المحكمة بتهمة قتل زوجته عن طريق توظيف قاتل محترف للغاية. صحيح أن التهمة أسقطت عنه بعد سنوات من المداولات، لكن مستقبله في التلفزيون أو في السينما انتهى.
* بوليس رسمي وخاص
معظم ما قدّمه التلفزيون من مسلسلات بوليس رسمي قام به تحريون يطبّقون القانون بحذافيره. لديهم كتاب يتبعونه، وإن شطح بعضهم صوب أساليب استفزازية. لكن التحري الخاص، ذلك الذي يقصده الزبائن، إما هربًا من تسليم القضية إلى البوليس، أو لأن البوليس لم يساعدهم، هم في الواقع أكثر إثارة.
مانيكس كان لافتًا برحابة صدره وقوته وقدرته على تحمل الصعاب. كذلك لأن المسلسل جعله يستخدم ممثلة أفرو - أميركية غايل فيشر لتؤدي دور السكرتيرة في وقت كان ظهور «الأقليات» قليلاً ومتباعدًا، خصوصًا في مثل هذه الأدوار.
من ناحيته، عرف «ملفات روكفورد» نجاحًا كبيرًا موازيًا (1974 - 1980) بفضل ترتيب الإنتاج والفكرة لشخصية تحرٍ يعيش في «هوم موبيل» (بيت تجره سيارة) على الشاطئ. روكفورد، كما لعبه ببراعة مذهلة أحيانًا وجيدة على الدوام الراحل جيمس غارنر، كان يعيش في ذلك المنزل الكائن على شاطئ البحر العمومي اقتصادًا للنفقات (وهو كثيرًا ما تصدى لقضايا بالمجان) بلا سكرتيرة، ولو أن والده المتبرّم كان شريكه الوحيد في المكان.
بدوره كان وسيمًا ويحمل بدنًا رشيقًا على عكس بطل حلقات «كانون» (من 1971 إلى 1976) التي قام بتمثيلها - وبشجاعة - الممثل البدين ويليام كونراد. بدانة الممثل ساعدت البرنامج، الذي تزوّد أيضًا بقصص جيدة من مطلعه، على التميّز. هذا التحري، قد لا يكون رشيقًا وقد تتعبه المطاردات الطويلة، لكنه لا يقل قوّة عن رفاقه. هذه التوليفة كانت نجحت سابقًا عندما قام الممثل رايموند بَر ببطولة حلقات «بيري ماسون» و«آيرونسايد». هو بدوره لم يكن رشيقًا، لكنه كان، على الأقل، أكبر قامة من ويليام كونراد. وخصوصيته في «آيرونسايد» أنه كان مقعدًا. صحيح أن المسلسلين يتحدّثان عن محامٍ للقضايا الصعبة، لكنهما حويا ما يلزم من شؤون التحريات في كل حلقة.
هؤلاء قادوا السهرات التلفزيونية في تلك السنوات الرائعة من الستينات والسبعينات. كانوا مميزين وملتزمين ومثيرين لما يطلبه الجمهور من مطاردات وخطر وقتال. هذه الضروريات ما زالت ماثلة اليوم في مسلسلات اليوم، لكن الشخصيات ما عادت تبهر كما فعلت سابقًا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)