المخابرات الأميركية استخفت بالسادات ثم أشادت بحنكته ودهائه

تنبأت بفراغ في مصر بعد رحيل عبد الناصر... والأيام كشفت عكس ذلك

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
TT

المخابرات الأميركية استخفت بالسادات ثم أشادت بحنكته ودهائه

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)

حظيت مصر بنصيب وافر من تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، حيث تكرر ذكرها، في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية، أكثر من 16 ألف مرة، ازدادت تدريجيا من مرتين فقط عام 1941، إلى أن وصلت ذروتها عام 1975 منتصف عهد السادات، بتكرار بلغ نحو ألف مرة، ثم عادت إلى التناقص في أوائل عهد الرئيس مبارك، طبقا لنتائج محركات البحث. ومن غير المعروف ما إن كان الاهتمام قد عاد إلى وتيرته السابقة في التقارير التي لم يمر عليها 25 عاما؛ الفترة القانونية لإزالة ستار السرية عنها.
ومن أهم الفترات التي سلطت عليها التقارير الاستخبارية الضوء بالمعلومات والتحليل، فترة السنتين الأوليين من عهد السادات، حيث تضمن التقرير الأول المكتوب في اليوم التالي لوفاة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، استخفافا بخليفته وتشكيكا في قدرته على حكم مصر، ثم ما لبث الأمر أن تغير إلى إشادة بحنكة السادات أثناء مواجهته لمن أسماهم بمراكز القوى.

وفاة ناصر... وأزمة خلافته
الوثيقة الأولى مؤرخة في 29 سبتمبر (أيلول) 1970، وجاءت على هيئة مذكرة معلوماتية تحت عنوان «وفاة ناصر... وأزمة خلافته»، وتضمنت المذكرة جملة من الأحكام والاستنتاجات، من بينها أن وفاة جمال عبد الناصر تركت فراغا في مصر من الصعب ملؤه. ثم تطرقت إلى نائبه أنور السادات بأنه سيتولى الرئاسة بشكل مؤقت؛ لأن هذا هو ما ينص عليه الدستور المصري قبل أن يتم اختيار رئيس.
ووصفت المذكرة السادات بأنه شخصية يحيط بها الغموض، وظل سنوات طويلة في عهد عبد الناصر يتولى مسؤوليات رمزية، وتقلد مناصب كثيرة منذ مشاركته مع ناصر في حركة الضباط الأحرار. لكن المذكرة تستحسن في السادات معاداته للشيوعية وتصفه بالشخصية الانتهازية وغير مرتبط بآيديولوجية معينة.
وبشأن الثقل السياسي للسادات، تزعم المذكرة أنه شخصية لا وزن لها في دوائر اتخاذ القرار، بل وتجزم أن رئاسته لن تدوم سوى فترة انتقالية قصيرة. لكن المعضلة حسب ما ورد في المذكرة هو عدم وجود أي شخص آخر قادر على ملء الفراغ الذي تركه عبد الناصر. ولهذا فقد رجح محللو «سي آي إيه» أن تكون القيادة جماعية في الفترة المقبلة بالتقاسم بين 3 أشخاص بصورة رئيسية، هم علي صبري وحسين الشافعي وأنور السادات. أما الأشخاص ذوو النفوذ في صنع القرار، فقد ورد في المذكرة اسم سامي شرف وزير الدولة لشؤون الرئاسة ومدير مكتب الرئيس للمعلومات سابقا، إلى جانب وزير الإرشاد القومي محمد هيكل، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، وأمين هويدي مدير المخابرات العامة.
وطبقا لمعلومات المحللين الأميركيين في ذلك الوقت، فإن هؤلاء الأشخاص جميعا كانون يدينون بالولاء لجمال عبد الناصر، ولكنهم لا يدين بعضهم بالولاء لبعض، ويوجد بينهم تنافس وصراع مكبوت، توقع المحللون أن يخرج إلى السطح بعد انتهاء مفعول الحزن على عبد الناصر. وخلصت المذكرة إلى أن الجيش بقيادة الفريق فوزي سوف يلعب دور المرجح لكفة أي شخصية عندما يحين موعد المواجهة بين المتصارعين. وتطرقت المذكرة إلى قلق السوفيات على مصير علاقتهم مع مصر بعد رحيل عبد الناصر. ولكن الأغرب من ذلك هو القلق الإسرائيلي من المجهول بعد رحيل خصم عنيد لهم، رغم أن ساسة إسرائيل على المستوى الشخصي يشعرون بالرضا من رحيل ناصر.
وفي يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1970، أي بعد مرور أسبوع واحد فقط على وفاة عبد الناصر، قدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إيجازا للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عن الأوضاع في مصر، جاء في عنوانه أن مشكلة اختيار خليفة لعبد الناصر قد تم حلها، لكن مصر مقبلة على تغييرات إضافية وإعادة هيكلة لتركيبته القيادية. وتم إبلاغ الرئيس الأميركي بأن السادات اختير من قبل اللجنتين التنفيذية والمركزية للاتحاد الاشتراكي العربي. كما دعي أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) لحضور جلسة المصادقة على اختيار السادات رئيسا.
وأعادت الوكالة في هذا التحليل التذكير بأن السادات لا يتمتع بالكاريزما التي يتمتع بها ناصر، معربة عن اعتقادها بأن احتمالات استمراره في الرئاسة ستعتمد إلى حد كبير على موقف عدد من رجال عبد الناصر، منهم شعراوي جمعة، وسامي شرف ومحمود رياض.
وبعد نحو 5 أسابيع من المذكرة الثانية، قدمت وكالة الاستخبارات المركزية لصناع القرار في واشنطن تحليلا جديدا عن تصور الوكالة لمستقبل مصر من دون عبد الناصر. وجاء في التحليل أن الأشخاص الذين يديرون مصر بعد وفاة عبد الناصر لم يثيروا إعجاب الشعب المصري حتى ذلك الحين، ولكنهم تمكنوا من السيطرة على الأوضاع. والمشكلة وفقا للتحليل المشار إليه أن المصريين اعتادوا على قيادة الفرد الواحد القوي، وليس لهم تجارب مع القيادة الجماعية.
لكن المحللين حاولوا إنصاف أنور السادات هذه المرة بالقول إن الانطباع الذي كان سائدا عنه بأنه سياسي غير فعال، بدأ يتغير على نحو مفاجئ بعد قبوله تحمل المسؤولية، مشيرين إلى أن السادات اتخذ قرارات تنبئ عن دهاء، في إشارة إلى تعيينه علي صبري وحسين الشافعي نائبين له، دون منحهما أي صلاحيات تذكر.
ورغم الخلافات بين قادة مصر الجدد والصراعات الخفية بينهم فإنهم، حسب معلومات الوكالة، متفقون على أمر واحد، وهو استبعاد زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، من أدي دور في الدولة المصرية. ولمح التحليل إلى أن الثلاثة وهم من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار ومن زملاء عبد الناصر في حركة يوليو (تموز)، يحاولون العودة إلى المعترك السياسي دون جدوى.
وتوقع المحللون أن يبقى صنع القرار بأيدي 8 أشخاص، هم أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي.

حركة تصحيحية وحليف جديد لأميركا
وفي الرابع عشر من مايو (أيار) عام 1971، أي قبل حركة «15 مايو» التصحيحية، التي أطاح السادات فيها بخصومه، كانت الاستخبارات الأميركية بوسائلها الخاصة ترصد وتراقب ما يحدث، ولهذا فقد ضمنت الملف اليومي المعروض على الرئيس تلخيصا للوضع في مصر، حتى تلك اللحظة. وأبلغت الوكالة الرئيس نيكسون بالاستقالات الجماعية التي قدمها للسادات وزير الداخلية شعراوي جمعة، ووزير شؤون رئاسة الجمهورية سامي شرف، ووزير الحربية محمد فوزي، احتجاجا منهم على إقالة نائب الرئيس علي صبري من منصبه في الثاني من مايو 1971. ووصف الإيجاز شعراوي جمعة وسامي شرف بأنهما أقوى شخصيتين في مصر نفوذا في تلك الأثناء. وأوضح الإيجاز أن المستقيلين لا يمكن وصفهم باليساريين؛ لأن هذا الوصف لا ينطبق عليهم تماما، ولكن الأمر المؤكد هو أنهم لا يدينون بالولاء للرئيس السادات. واستنتجت الوكالة أن السادات يسعى للتخلص من هؤلاء؛ لأنهم في موقع المنافسة الندية لسلطته، إضافة إلى أن السادات سيكون مطلق اليد في التفاوض مع إسرائيل، بعد أن كان علي صبري ومجموعته يعارضون علنا التفاوض معها. وأشار الإيجاز إلى أن السادات قد عين بالفعل محافظ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرا للداخلية، وهو مؤهل للمهمة التي اختير لها بديلا لشعراوي جمعة. كما عين السادات رئيس الأركان محمد صادق وزيرا للحربية بديلا للفريق فوزي، وأشارت المعلومات المقدمة للرئيس الأميركي أن صادق يحظى بنفوذ ودعم في الجيش أوسع مما كان يحوزه سلفه.
ولفتت الوكالة في الإيجاز المشار إليه، إلى أن درجة الثقة العالية التي بدت على السادات وهو يتخذ هذه القرارات، تنم عن أنه قد نسق مع قيادات معينة في القوات المسلحة المصرية، وأن تلك القيادات شجعته على الإقدام على إقالة صبري وقبول استقالات زملائه لاحقا. ولمزيد من الاطمئنان فإن السادات قد سارع بتعيين البديل لفوزي، لضمان قدر أكبر من ولاء الجيش للرئاسة.
وعلى الصعيد المدني، أشارت الوكالة في إيجازها للرئيس الأميركي، إلى أن السادات يعد لإذاعة بيان عبر راديو القاهرة، تعتقد الوكالة أن صياغته تمت بطريقة تسعى لتحقيق هدف استقطاب التعاطف الشعبي، عن طريق الإيحاء بأن بعض المعزولين كانوا متورطين في «التآمر لفرض الوصاية والهيمنة على الشعب عن طريق القمع والإرهاب». وأوضح الإيجاز أن بيان السادات سيتم إذاعته بعد ساعات.
كما أوضح الإيجاز للرئيس نيكسون، أن السادات يحتاج لكل دعم يستطيع الحصول عليه؛ لأن خصومه يستندون على علاقتهم السابقة مع جمال عبد الناصر، فضلا عن أنهم تمكنوا خلال سنوات خدمتهم مع ناصر من تشكيل دوائر نفوذ خاصة بهم. وتوالت بعد ذلك التقارير التي تشيد بحنكة السادات ودهائه وتعترف بأنه استطاع ملء الفراغ الذي خلفه عبد الناصر، ولو أن ذلك تم بطريقته الخاصة.

عن الوثائق السرية
* لأن وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) تزيل أسماء مصادرها وبعض المعلومات التي قد تكشف عنهم من الوثائق المفترض أن السرية قد أزيحت عنها، فإن الوثائق المنشورة عن أي بلد لا تكشف بالضرورة عن معلومات جديدة على مواطني ذلك البلد، ولكن قيمتها التاريخية لا تقدر بثمن؛ لأنها توثق لأهم الأحداث أولا بأول، في حال تم جمعها وترجمة المهم منها بالتسلسل الزمني في أصل الوثائق. ولأن عمل الوكالة لا يقتصر على جمع المعلومات وعرضها على أصحاب القرار، بل يضاف إليه التحليل، فإن ذلك يفيد في معرفة رؤية الوكالة فيما يتعلق بالأحداث المحلية والصراعات كجهة محايدة، يهمها أن تقدم معلومات حقيقية لصانع القرار الأميركي بطريقة مبسطة، لكونه غير ملم على الأرجح بأوضاع البلد المعني أو متابع لأحداثه مثل أبناء ذلك البلد.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.