في الظهران ثقافة تعلو على النفط

مركز الملك عبد العزيز أنشئ بمناسبة مرور 75 عامًا على تأسيس شركة «أرامكو»

في الظهران ثقافة تعلو على النفط
TT

في الظهران ثقافة تعلو على النفط

في الظهران ثقافة تعلو على النفط

سيرى الناظر من بعيد ما يشبه الأحجار المكومة التي تشبه الثلاث أثافي في ثقافة الصحراء. سيراها وقد برزت على تلة بجانب مجمع شركة «أرامكو» السعودية بالظهران. وسيتضح للناظر بعد اقترابه أن ما أمامه ليس سوى مبنى ضخم وعجيب البناء قصد منه أن يحمل سمات البيئة التي بني فيها، البيئة التي تعمرها الحجارة وسط الصحراء المتاخمة للخليج العربي. إنه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي، المعروف اختصارًا بـ«إثراء»، مركز افتتحه الملك سلمان الشهر الماضي بعد أن بنته شركة «أرامكو» ليكون مركزًا عالميًا ينشر الثقافة، ليس في السعودية فحسب، وإنما أيضًا في الجزيرة العربية وغيرها من خلال تفاعله مع المكونات الثقافية المحلية والمكونات العالمية للثقافات الإنسانية.
المبنى الذي يشبه حصوات اجتمعت على تلة في مدينة الظهران يقع في المكان نفسه الذي حفرت فيه أول بئر اكتشفت فيها النفط عام 1938 لتغير وجه الحياة في هذه البقعة من الأرض وتسهم في تحريك عجلة الحياة في كل مكان على الأرض من خلال الطاقة التي ما زال العالم يبحث عنها ويعتمد عليها، والتي تعد السعودية أكبر منتجيها. أُريد للمبنى أن يحمل سمات البيئة، ليس الطبيعية البكر فحسب، وإنما البيئة التي صنعها الإنسان أيضًا حين تفاعل مع الطبيعة واكتشف مخزوناتها ليفيد منها. هو عمل هندسي ضخم صممه مكتب هندسي نرويجي متفوقًا به على ستة تصاميم أخرى من مكاتب محلية وعالمية منافسة. وحين زرت المبنى مع مجموعة من المثقفين والأدباء رجالاً ونساء قبل أيام - من ضيوف جمعية الثقافة والفنون بالدمام التي احتفت بالشاعرة السعودية فوزية أبو خالد - كان المكان يكتسب دلالات ضخمة ومتسارعة عبر شرح مدير المركز المهندس طارق الغامدي وعبر الطواف في أرجائه في معية شابات سعوديات، كن يشرفن على جوانب مختلفة من عمل المركز.
أنشئ مركز الملك عبد العزيز بمناسبة مرور 75 عامًا على تأسيس شركة «أرامكو»، الشركة التي بدأت عربية أميركية، كما يشير اسمها الحالي، ثم تحولت إلى شركة وطنية مملوكة بالكامل للحكومة السعودية وفي عملية تملك ابتدأت في عهد الملك فيصل رحمه الله واكتملت عام 1980. والحق أنه منذ منح الملك عبد العزيز امتياز التنقيب عن النفط لشركة «ستاندارد أويل» الأميركية وشركة الزيت العربية الأميركية، كما عرفت حينئذٍ، تلعب دورًا بالغ الأهمية في تطور المملكة، دورًا تجاوز الاقتصاد إلى الحياة الاجتماعية والثقافية، فمن غير الممكن كتابة تاريخ التطور الاجتماعي والثقافي السعودي دون الوقوف على الأثر الذي تركته «أرامكو» في حياة السعوديين على مدى أجيال، وهذا بالفعل ما نجده في كثير مما كتب عن تاريخ المملكة، مع أن الكثير ما زال بحاجة إلى الكتابة. ولن يكون من المبالغة لو قلت إن القليل من السعوديين لم تتصل حياتهم إما بـ«أرامكو» أو بأحد عمل في «الشركة»، كما هو اسمها التقليدي والتاريخي.
من هذه الزاوية يبدو مركز الملك عبد العزيز امتدادًا وترسيخًا لما ظلت «أرامكو» تقوم به على مدى عقود ليست أقل من عمر المملكة نفسها. يقول أحد الكتيبات التعريفية بالمركز إنه يسعى إلى أن يكون جسرًا بين العلوم والفنون، والحق أن الطواف بأرجاء المركز المدهش بسعته وتصميمه يرسخ هذا الانطباع فعلاً. في الجولة التي قمت بها مع بعض الأصدقاء من المثقفين والأدباء قبل أيام رأينا الأقسام الباهرة التي يتألف منها المركز. رأينا المكتبة التي صممت لتضمن نصف مليون كتاب باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى كتب رقمية وتعلم تفاعلي وغيرها. وكان هناك «برج المعرفة» الذي يهدف لبناء مهارات المستقبل لدى الشباب من خلال مفاهيم علمية حديثة، وكذلك «مختبر الأفكار» الذي يكفي اسمه ليدخل المشاهد في مختبر تفكير لم يعهده أكثرنا. يقول تعريف المختبر إنه يدعم الشباب المبتكرين يتمكنون من خلالها الانتقال «من مرحلة صناعة الفكرة إلى مرحلة تطويرها وتطبيقها»، بالإضافة إلى مساعدتهم في العثور على حلول للتحديات التي يواجهونها.
بالإضافة إلى تلك الأقسام المبتكرة بحد ذاتها هناك الجانب المتحفي في المركز. متحف الطفل هو الأول والوحيد من نوعه في المملكة، فهو فريد في أنه «يهدف إلى تنمية قدرات أبنائنا الذهنية منذ بداية طفولتهم من خلال إقامة معارض وأنشطة تفاعلية وترفيهية، تهدف إلى بناء عقول الأطفال وتنمية معارفهم». أما «المتحف»، أو المتحف بمفهومه المعروف، فيسهم في «تسليط الضوء على حقب مختلفة من تراث وتاريخ المملكة». وهو متحف يتضمن أربعة معارض: معرض فنون ويعرض نماذج متميزة من الفن السعودي والشرق أوسطي المعاصر، ومعرض «أجيال» ويركز على الهوية التاريخية والثقافية للمملكة، ومعرض «كنوز» ومعروضاته تتضمن «الفن والتراث الإسلامي من جاوة إلى غرناطة ومن دمشق إلى دلهي». وأخيرًا معرض «رحلات» وفيه صور من التاريخ الطبيعي للمملكة. هذه المعارض لا تزال في طور الاكتمال. وما يلفت النظر أن معظم ما تتضمنه هو الأول من نوعه في المملكة، ليس متحف الطفل فحسب، وإنما أيضًا معرض الفنون المعاصرة، فمن المؤسف أن المملكة حتى الآن ليس بها معرض دائم للفن السعودي أو العربي المعاصر على الرغم من طول عمر النشاط التشكيلي.
هذه الإنجازات يضاف إليها المسرح الذي يتضمن قاعتين؛ إحداهما قاعة المسرح التي تتسع لما يقارب الألف مقعد، والأخرى قاعة العروض البصرية. يضاف إلى ذلك كله ما يعرف بالقاعة الكبرى التي تستضيف «المهرجانات والمتاحف والمعارض الزائرة من كل أنحاء العالم»، إلى جانب المؤتمرات والاحتفالات. ومن هنا تعد هذه القاعة نقطة اتصال المركز مع العالم، وهي بذلك إضافة رئيسية للحياة الثقافية في المملكة ومنشط نوعي يسهم في توسيع دائرة النشاط من ناحية ويعمقها ويرفع مستواها من ناحية أخرى.
إن «أرامكو» من خلال مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي تستعيد وبقوة زمام المبادرة لتواصل دورها الرائد في دعم الحياة الثقافية التي تسهم بدورها في إثراء الحياة الاجتماعية بالفكر والثقافة والفنون. لقد جاءت رؤية 2030 لتكون دفعة قوية للمملكة في مسارات يتوقع منها الارتفاع بالاقتصاد المحلي إلى مستويات أقوى من ذي قبل اعتمادًا على مصادر بشرية وطبيعية متجددة، لكن الرؤية لم تقل الكثير أو ما يكفي عن الحياة الثقافية والاجتماعية، ومن هنا يأتي مشروع «أرامكو» المتمثل بمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي ليدعم هذا التوجه المحمود باتجاه القطاعين الثقافي والاجتماعي وتأكيد أهميتهما في أي عملية تطوير مقبلة.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!