قُضِي الأمر إذن. فقد نصّب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، متوِجًا موجة صعود الفاشية الشعبوية الجديدة على الجانب الغربي من الأطلسي هذه المرة. والمحتم أنه ولعقد مقبل على الأقل - ستعيش المجتمعات الغربية أجواء صراع آيديولوجي حاد بين قوى النظام القديم التي أفرزتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتيارات الشعبوية العنصرية ذات الطابع الفاشي التي صعدت إلى مراكز السلطة والتأثير في غير ما بلد أوروبي: من روسيا الجديدة في عهد الرئيس بوتين، إلى تيار الانعزال البريطاني، ولاحقًا في تيارات يمينية متطرفة على البر الأوروبي: هنغاريا وألمانيا وفرنسا، تبدو مرشحة وبقوة لإزاحة التيارات الليبرالية الحاكمة في كل انتخابات مقبلة، وانتهاءً اليوم بتولي ترمب المنصب التنفيذي الأرفع في الولايات المتحدة.
وكما علمتنا تجربة صعود الفاشية الإيطالية من بدايات عشرينات القرن الماضي، فإن هذه الموجة الشعبوية المتلفعة برداء العملية الديمقراطية والانتخابات إنما هي نتاج مناخات فشل اقتصادي حاد للطبقات البرجوازية الحاكمة في مرحلة معينة شديدة التكثيف، ما تلبث أن تنتج استقطابات عنصرية ودينية وقومية حادة سمتها السذاجة وشدة التسطيح، يكرسها انكماش اليسار وبهتان الحلول الاشتراكية - الاجتماعية وغياب الوعي الطبقي لمصلحة الانقسامات العمودية. وهكذا ننتهي إلى «زعيم» مفوه، يتحدث باسم «الشعب»، يريد «إعادة مجد روما» الغابر وإنقاذ «الطبقة الوسطى» من المعاناة الاقتصادية لمصلحة «الوطن» المسيج ضد قوى «العولمة» والأنظمة الاقتصادية العابرة للحدود، فيفكك من خلال ذلك التحالفات الطبقية القائمة لمصلحة تحالف جديد بين الرأسماليين والمؤسسة العسكرية والقوى اليمينية المتطرفة لا يمكن في نهايته أن يرتوي من دون حروب طاحنة.
لكن ما يقلق في فاشية القرن الحادي والعشرين اليوم - أقله مقارنة بفاشية القرن الماضي - أنها تتنامى في أكبر دول العالم الغربي وأكثرها تأثيرًا: من روسيا وعبر أوروبا إلى الولايات المتحدة، وهي ذاتها المجتمعات التي كان عليها أن تحالفت معًا رغم خلافاتها العقائدية والآيديولوجية الظاهرة لمواجهة المد النازي - الفاشي في دول المحور: ألمانيا وإيطاليا واليابان - أساسًا، وبالتالي فإن المغامرة هذه المرّة قد لا تمر بـ«سلام الحرب العالمية الثانية» الذي كلف البشرية 50 مليونًا من الضحايا، بل قد تطيح بتجربة الكوكب الأرضي كلّها بالنظر إلى التفوق التكنولوجي الهائل الذي تمتلكه «فاشيات» القرن الحادي والعشرين.
في ظل هذا المناخ الكئيب، تكبر صورة الزعيم الفرد الملهم حتى تغدو أكبر من الحياة ذاتها، وتتابع الجماهير خطاباته ومواقفه و«تغريداته» لتحدد اتجاه بوصلتها القومية. وهكذا تُختصَرُ روسيا بشخص الزّعيم بوتين، والولايات المتحدة بشخص الرئيس ترمب. لكن الحقيقة دائمًا أن هؤلاء الأشخاص في النهاية ما هم إلا خلاصة تحالفات مجتمعية يقفون على ظهرها وينطقون باسمها. بل وربما لا يعلم الكثيرون أن كلا الزعيمين؛ بوتين وترمب مثلاً «يتتلمذان» - إن جاز التعبير - على أيدي فيلسوفين - منظرين آيديولوجيين، يقوم كل منهما بصياغة النموذج الفكري الفلسفي والأساس النظري لسياسات صاحبه، ويقدمان لهما الربط الآيديولوجي الذي لا بد منه لمجموعة التوجهات الأخلاقية والعنصرية والدينية والقومية والطبقية التي يدعون إليها وذلك في خطاب لغوي - فلسفي متكامل.
في روسيا بوتين، هناك ألكسندر دوجين. في أميركا ترمب، هناك ستيف بانون.
وبين أفكار الرّجلين من التشابه ووحدة الحال ما يجعلهما أشبه بمدرستين متوازيتين لتفسير ذات النص. ألكسندر دوجين - الفيلسوف والمنظر السياسي النجم في أجواء مؤسسة الحكم الروسية - ينظّر لروسيا العظمى، الدولة القومية لكل الناطقين بالروسية عبر الفضاء الأورو - آسيوي، في إطار ثقافة مسيحية أرثوذكسية محافظة متجانسة، ويعادي الطبقة النيوليبرالية التي ورثت الاتحاد السوفياتي البائد وحاولت أخذ روسيا نحو النظام الرأسمالي المعولم، داعيًا إلى ثورة وطنية تقصي القيم الاستهلاكية البرجوازية وفوضى السوق، وتُعلي من شأن العمل النزيه، في ظل رأسمالية مسؤولة ذات ضمير. وهو من أشد المدافعين عن السياسات الرغماتية والخيارات السياسية للرئيس بوتين، وإن انتقده لعدم قيامه بما يكفي لتحقيق طموحات الأمة الروسية.
بدوره حدد ستيف بانون - الفيلسوف والمنظر السياسي الأقرب للرئيس ترمب في خطابه أمام مؤتمر عقد في الفاتيكان في 2014 - أي قبل ترشح ترمب للرئاسة، بل وقبل تنظيم استفتاء «البريكست» في المملكة المتحدة - معالم رؤيته لنظام عالمي جديد. فهو يرى أن الغرب كان تجمع دول وطنية ذات ثقافة يهودية - مسيحية طبقت شكلاً من رأسمالية ذات ضمير ديني وحدت نسيج المجتمعات الداخلي في إطار متجانس واضح المعالم قبل أن يتولى حزب دافوس - كما أسماهم، كناية عن النخبة المعولمة النيوليبرالية المهيمنة - تفكيك المكونات الأخلاقية المحافظة لهذه المجتمعات عبر سياسات الانفتاح والتربيط المعولم، والتنوع وتراجع سيادة الدول لمصلحة رأسمالية متوحشة عابرة للقارات وتنظيمات ملفقة كالاتحاد الأوروبي وغيره. وهكذا - يرى بانون - فقد الغرب روحه، وأصبح هدفًا سهلاً للفاشية الإسلاموية الدموية التي اعتبرها شيطانًا أكبر يهدد نموذج الحياة الغربي من جذوره.
بانون، يرى في بوتين وسياساته الشعبوية، حليفًا للولايات المتحدة لا عدوًا منافسًا خارجًا عن النسق الرأسمالي المعولم كما كانت عليه عقيدة النخبة الأميركية منذ سقوط حكم الرئيس الروسي - صديق الغرب الحميم - بوريس يلتسين. فبوتين، وفق بانون - يسعى إلى تحقيق الغايات ذاتها للتيار الشعبوي الأميركي: كسر النظام القائم على النيوليبرالية المعولمة، واستعادة الدولة الوطنية - القومية القائمة على القيم التقليدية المسيحية، ومواجهة «التطرف الإسلاموي».
هو نسق فكري فلسفي واحد إذن ينطلق منه جميع الفاشيين، ويسهل قيام تحالفات موضوعية بينهم. قد تقاوم النخبة المعولمة والهياكل القائمة في بيروقراطيات الحكم الغربية صعود هذه الفاشية الجديدة، وقد يجد بوتين وترمب - كلاهما - صعوبات عملية جادة في إيجاد حلول اقتصادية ناجعة تحسن من نوعية حياة الكتل الشعبية الأوسع نطاقًا على نحو سيفقدهما شيئًا من الشعبية. لكن في ظل غياب بديل فكري نظري أو فلسفة متكاملة لمواجهة المنظومة الفكرية الصاعدة لفلاسفة الشعبوية الجدد من أمثال دوجين وبانون، فإنه بات في حكم المحتم أن موجة الفاشية الجديدة ستستمر وتتصاعد، وأنها ستعيد تشكيل العالم والعلاقات الدولية في نظام عالمي جديد خلال عقد من السنوات أو نحو ذلك.
فلننتظر الرياح السوداء المقبلة من الغرب إذن..
فيلسوفان في بلاطي الرئيسين
نسق فكري يوحّد الشعبوية الجديدة من روسيا وعبر أوروبا إلى الولايات المتحدة
فيلسوفان في بلاطي الرئيسين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة