أين دروب الأمل في مواجهة مسالك التعصب والأصولية الغربية؟

تساؤلات في أوروبا

مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
TT

أين دروب الأمل في مواجهة مسالك التعصب والأصولية الغربية؟

مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)
مهاجرون يتم انتشالهم من عرض المتوسط إلى سفينة إنقاذ إيطالية قرب السواحل الليبية (أ.ب)

بادئ ذي بدء يجب القول إنه إن كان الخوف من الاختلاف هو العنصر الأساسي لهذه للأصولية، لذا يتوجب علينا السعي من أجل بناء الأسس التربوية والتعليمية لنتخطى هذا الخوف، وذلك عبر بعض المنطلقات، وهي جزء من كل وغير جامعة أو مانعة، بل قابلة للتطوير والإضافة والتحديث والحذف إن لزم الأمر.
إن تعريف ما هو غريب عنا هو الخطوة الأولى للتخلص من الخوف. ويستلزم هذا السلوك المنفتح قدرًا كبيرًا من الحساسية، ولن تكون المعرفة النظرية لعناصر الاختلاف العامل الرئيسي لنمو هذا الإدراك، بل الخبرات الحياتية هي من أهم الأسس التي يقوم عليها. إن الانخراط بنقاش منطقي مع الإنسان الأصولي أمر شبه مستحيل ولا طائل منه، لأن نزعته الراديكالية لا تنظر إلى ما هو منطقي، بل يبقى شغله الشاغل تحقيق أكبر قدر من الأمان الذاتي. في حين أن الخبرة التي يكتسبها الفرد من كل ما هو جديد تساعد على نضوجه الفكري وتنمي قدرته على التخلص من مخاوفه.
* الاهتمام بالتعليم
الأسرة هي المكان الأول الذي يتعلم فيه الإنسان سلوكياته تجاه المجتمع، وفيه يستكشف الطفل كل ما هو جديد داخل الأمان الذي توفره الأسرة، وبخطوات تدريجية وصغيرة ينفتح عالم رائع أمام عينيه. ومن أهم عوامل النمو الفكري للطفل التي يجب الحفاظ عليها عامل الفضول، ومعه يتعلم الطفل كيف يأخذ حذره من التجارب المؤلمة التي تصادفه. من الطبيعي أيضًا أن ينغلق الطفل على نفسه إذا وقع من هذه التجارب أكثر مما يستطيع استيعابه، لكن انطلاقته الأولى نحو التجربة الجديدة تنبع من الاهتمام والفضول وليس من الخوف أو الإدراك.
أعضاء الأسرة أول الناس الآخرين الذين يلتقي بهم الطفل، وهذا الانطباع البدائي عن آخر له تأثير جوهري على الطفل. فإن كان الانطباع سلبيًا فإن شخصًا آخر سيكون بمثابة العدو بالنسبة له. تستمر مهمة تعليم الطفل في المدرسة. وهناك يلتقي بأقرانه، وبطبيعة الأمر يحدث تنافس بينهم. غير أن تجربة الصداقة ستساعد على تنمية الثقة بالآخر أيضًا. ثم مع تجربة اللقاء مع أطفال من جنسيات وأجناس وأعراق مختلفة، إن كانت هذه التجربة إيجابية، سيتعلم الطفل التعامل باحترام ومحبة مع هذا الاختلاف.
وانطلاقًا من النقطة الأخيرة يأتي دور الهيئة التعليمية، وهي المدرسة. وعلينا أن نشجع إنشاء المدارس التي تحتضن الثقافات المختلفة، إذ إنها الركيزة لأجيال المستقبل في مجتمعات العالم التي أصبح فيها تعدد الثقافات والديانات أمرًا واقعًا. والبديل لمدارس متعددة الثقافات هو تنظيم معسكرات صيفية. ويجب أن تكون لنا رؤية مستقبلية وخطة لتوفير كل الإمكانات التي تسهم في بناء علاقة الصداقة والتضامن بين الثقافات والجماعات الإنسانية المختلفة. ومن ثم، عندما يدرك الطفل هذه التجارب الحياتية بطريقة سليمة تبدأ مرحلة إيجابية لتأسيس مفهوم احترام الرأي الآخر، ومن أهم ما يدرس في الغرب: الفلسفة والتاريخ.
* المنطق والانفتاح
في الغرب، الفلسفة تعرّف التساؤل والتدقيق في كل شيء، والبحث عن ماهية الأشياء وقوانينها، وهي محاولة للإجابة عن الأسئلة الأساسية التي يطرحها الوجود والكون. ولأن التساؤلات تتجدد مع كل ظاهرة جديدة في علوم الحياة وتطورها الطبيعي، تتجدد الإجابات التي توصل إليها العقل الفلسفي من قبل. والفكر العملي الواعي يترك دائمًا الباب مفتوحًا لهذه المستجدات، ويتطلع إلى نظرية مختلفة تساعده في التوصل إلى إجابة غير التي توصل إليها، فيكون هذا السلوك مضادًا تمامًا لسلوك ضيق الأفق عند الأصولي.
أما التاريخ فهو يعلم الإنسان أن جميع الحضارات تتغيّر مع مرور الزمان. كما أن التاريخ يظهر أمام أعيننا أن معظم الأعراف التي نثمنها متغيرة أيضًا، وفي ضوء التقدير المبالغ فيه من مصدر معين في حقبة محددة من الزمن تفقد مقولة «هذا ما جرى عليه العرف» الوزن الثقيل الذي نعطيه لها. ثم إن معرفة تاريخ الأشياء والأحداث مهم أيضًا لأنها تكشف لنا عن الجذور التي تربطنا بالماضي وتظهر لنا كيف بدأت الأمور. وتحت قشرة المتغيرات يشكل التاريخ هوية الإنسان التي تنمو من جذور ماضيها، متشربة بخبرات الزمن، ومستفيدة من دروس وأخطاء الماضي.
* إشكالية الهجرة
في بعض دول أوروبا، عندما يولد الإنسان وينشأ داخل حدود دولة ما، فإن هذا يجعله مواطنًا لهذه الدولة، له حقوق وعليه واجبات طبقًا للقوانين السائدة. ولكن عندما يولد أجنبي في البلد نفسه يحرم من الجنسية حتى يمارس الحقوق ويؤدي الواجبات نفسها. وبدلاً من أن ينادي البعض في الغرب بحقوق إنسانية لشعوب خارج حدود الدول الأوروبية - والغرب عمومًا، فإن الأحرى السعي لإعطاء هذه الحقوق للأجانب الذين ولدوا داخل أوروبا بدلاً من تهميشهم، ودفعهم دفعًا نحو التقوقع ثم الراديكالية والإرهاب.
كم من شعوب جاءت إلى أوروبا، تاركة بصمتها الإنسانية؟ إنهم يشكلون جزءًا من هويتها. وحركات الهجرة تثري دائمًا المجتمعات المضيفة، ليس فقط بسبب التبادل الثقافي الذي يحدث، بل لأن معظم المهاجرين يمثلون في معظم الأحوال أفضل الكفاءات في البلدان التي هاجرت منها.
اليوم بعض العقلاء والحكماء في أوروبا، خصوصًا، يتساءلون: «كيف لنا أن نطالب المهاجرين بالاندماج، وفي الوقت نفسه نعزلهم في مناطق - أو غيتوهات - محرومة من الخدمات التي تليق بحياة إنسانية كريمة... وكأننا نلقي بهم لأنياب العنف والإدمان؟».
* لا احتكار للحقيقة
لنأخذ هنا على سبيل المثال شكل المكعب، فنحن نرى من هذا الشكل 3 من جوانبه الأربعة. وفى كل مرة نحركه لرؤية الجانب الرابع من المكعب. نفس الشيء يحدث عندما نناقش الأحداث الحالية: ينظر شخصان لنفس الحدث، ولا يتفقان على رأي واحد، لأنهما ينظران إليه من جانبين مختلفين، وكل جانب يتكون من عدة عوامل يتميز بها عن الآخر، مثل الشخصية، والخلفية التاريخية، والمستوى الاجتماعي، ومكان السكن، وغيرها من الاختلافات. ولكل من هذين الرأيين نصيب من الحقيقة.
الحوار هو الذي يساعدنا على تبادل وجهات النظر المختلفة لنفس الحدث الذي يهم جميع الأطراف المشتركة. ولكن الحوار ليس بالعملية السهلة. فمن أجل أن نفهم وجهة نظر الآخر، يجب أن نترك وجهة نظرنا لفترة وجيزة، ونضع أنفسنا في مكان الآخر. فمن أجل رؤية جانب المكعب الغائب عن أنظارنا، يجب أن نتحرك نحوه، أن نبادر بالمحاولة حتى إن كنا نشعر بالخوف من أن تذهب عنا رؤيتنا الخاصة، والأمان الذي تضمنه قناعاتنا المألوفة لنا.
الديمقراطية التي تطبقها بلدان أوروبا تأسست بداية على مبدأ الحوار. وإذا أرادت الحفاظ عليها لا بد من أن تدرك أهمية هذا المبدأ. وفى الوقت نفسه يتطلب الحوار الحقيقي توفر المساواة بين الأطراف المشتركة، وأن تسعى إلى معرفة الحقيقة. ويعني أيضًا أن التواصل بين الأطراف لا يحدث بوصاية على الآخر، ولا يعني محاولة إقناع طرف برأي الطرف الآخر. وهنا للإعلام دور جوهري في تعزيز الحوار وبنيان الاحترام المتبادل. ولكن الواقع غير ذلك، فنرى أن الإعلام لا يهمه سوى تحقيق السبق الصحافي، الذي كثيرًا ما يسبب تفاقم المشكلات بدلاً من معالجتها.
لا أحد يملك الرؤية المطلقة، ولذلك وجب على الجميع ترك المساحة للآخرين، لأنهم يزيدون ثراء المعرفة بغنى جديد، نابع من خلفيتهم التاريخية وخبراتهم، فالآخر جدير باحترام فرديته.
* الحكمة والتسامح
عندما نعترف بمحدودية رؤيتنا نصل إلى خطوات التسامح، والتأني في التفكير قبل أن نقرر أو نرفض الرأي الآخر. والعصر الحديث يمثل أرضية صالحة لمبدأ الحوار والتسامح، بعد انهيار الآيديولوجيات الكبرى، وانتشار مبدأ النسبية في كثير من ميادين الفكر. غير أننا ما زلنا نواجه خطرًا ناتجًا عن سوء فهم لمبدأ التسامح، بأنه دلالة على ضعف فكري، فيتساءل البعض عن ضرورة ممارسة التسامح وهم في موقف اليقين بصحة فكرهم.
التحدي الذي يواجه الغرب الآن هو خلق التوازن بين قناعته بأنه على حق، وفي الوقت نفسه الاستجابة للرأي الآخر الذي نجد بعض حامليه أيضًا في موقع القناعة بفكره. وربما نستطيع مواجهة هذه المعضلة إذا وضعنا في الاعتبار النقاط التالية:
- هناك مسائل لا تستحق عناء الجدال، فالإنسان الحكيم يستطيع أن يعطي الأشياء حجمها الذي تستحقه دون مغالاة. كما أنه قد لا يتفق مع كثير من الأمور، ولكنه يستطيع تمييز الأمور الأكثر خطورة ويهتم بمواجهتها. وهو يستطيع التغاضي عن بعض الأخطاء حتى لا تسبب مواجهته لها أضرارًا أكبر. أما الأصولي المتزمت فيخاطر بحياته وبحياة الآخرين من أجل أفكار لا تستحق هذا العناء المبالغ فيه، لأنه لا يستطيع أن يضع كل مشكلة في حجمها الحقيقي.
- إن التسامح واحترام كرامة الإنسان تعود بفائدة أسمى من الضمانات الفردية أو تخص جماعة واحدة دون غيرها.
- الإنسان الحكيم يناصر ما هو حق. وطبقًا للقواعد والقوانين المتبعة في نظام ديمقراطي، حتى إن كان هذا يعني إنصاف جماعة أخرى غير تلك التي ينتمي إليها. أما الأصولي فيلجأ إلى أساليب عنيفة، مستغلاً مبدأ الديمقراطية لتجاوزه ويحقق أهدافه وأهداف الجماعة التي ينتمي إليها.
- إذا كان الغرب مسيحي الإيمان بالفعل، فقد أحب عيسى (عليه السلام) الخاطئ لكنه كره الخطيئة، وإذا أدرك ماذا تعني وصيته «أحبوا أعداءكم»، فعلى الغربيين التسامح مع الخاطئ وفي الوقت نفسه رفض الشر.
* هل للتسامح حدود؟
انطلاقًا من العوامل الثلاثة التي تنمي التسامح الناضج، نستطيع أن نتوصل إلى بعض النتائج:
أولاً: التغاضي عن أخطاء لا تمثل أهمية تذكر.
ثانيًا: احترام الآخر دائمًا.
ثالثًا: رفض الشر، وليس فاعله.
طبعًا من الخطأ أن نخلط بين التسامح والتهاون مع سلوكيات وأفعال عنيفة. ولكن أين هو الحد الذي يتوقف عنده التسامح؟ وكيف نحدد الشر ونحد منه؟
نستطيع أن نقول اليوم إن السلوك الذي لا يحترم الحقوق الإنسانية هو الحد الذي عنده يتوقف التسامح. وهى الأدنى من الحقوق التي اتفقت جميع الدول على مراعاتها، من أجل ضمان حياة كريمة للإنسان.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».