تقييم «سي آي إيه» لـ«الإخوان»: قوتهم في شبكتهم المالية وضعفهم في صراعاتهم

محللو الاستخبارات المركزية: الجماعة قادرة على كبح جماح التنظيمات الأكثر تطرفًا... ولكن لا يؤمن جانبهم

رغم مظاهرات الإخوان في ثورة يناير فإن تقرير «سي آي إيه» أكد أنهم لا يؤمن جانبهم
رغم مظاهرات الإخوان في ثورة يناير فإن تقرير «سي آي إيه» أكد أنهم لا يؤمن جانبهم
TT

تقييم «سي آي إيه» لـ«الإخوان»: قوتهم في شبكتهم المالية وضعفهم في صراعاتهم

رغم مظاهرات الإخوان في ثورة يناير فإن تقرير «سي آي إيه» أكد أنهم لا يؤمن جانبهم
رغم مظاهرات الإخوان في ثورة يناير فإن تقرير «سي آي إيه» أكد أنهم لا يؤمن جانبهم

من بين أهم الوثائق السرية التي نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هذا الأسبوع في موقع الوكالة على شبكة الإنترنت، بعد إزالة ستار السرية عنها، تحليل عن جماعة الإخوان المسلمين المصرية، يعود تاريخ إعداده إلى شهر أبريل (نيسان) من عام 1986، وتضمن توقعات تحقق كثير منها، خلال الثلاثين عاما التي تلت كتابته.
وفي الوقت الذي يكشف فيه التحليل عن جوانب قوة الجماعة مقابل مكامن ضعفها، فإن أهميته تكمن في أنه يفسر أسباب التذبذب في الموقف الأميركي من الإخوان، ويكاد التحليل يوحي بأن الولايات المتحدة، وليس الإخوان، من طبق فقه الضرورة في التعامل مع الآخر، إذ إن محللي الاستخبارات الأميركية ينظرون إلى الإخوان على أنهم يمثلون أهون الشرين بالمقارنة مع الجماعات الإسلامية الأكثر تطرفا. ويقر معدو التحليل - الذين لم تنشر أسماؤهم - بأن تمكين جماعة الإخوان المسلمين من بسط نفوذها على المجتمع المصري سوف يلحق الضرر بالمصالح الأميركية، ولكن في المقابل، فإن الصدام مع الجماعة التي يبلغ عدد أعضائها وقت كتابة التقرير 500 ألف عضو يشكل تهديدا أكثر خطورة على الأمن الأميركي.
وطبقا لفهم الاستخبارات الأميركية، فإن الإخوان المسلمين لهم أهداف استراتيجية بعيدة المدى وأخرى تكتيكية آنية. وتتمثل الأهداف البعيدة في إقامة مجتمع أصولي وإبعاد التأثير الغربي تمهيدا لتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، كما يراها الإخوان، في دولة تفصل بين الرجال والنساء وتمول مؤسساتها من الزكاة كنظام ضرائبي بديل. أما الهدف الآني الذي كانت جماعة الإخوان المسلمين تعمل على تحقيقه في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولم تتمكن من ذلك حتى الآن فهو استعادة شرعيتها بإزالة الحظر القانوني عليها، بما يمكنها من ترسيخ تفوقها على الجماعات الأصولية المنافسة كافة.
ولتحقيق الهدف المرحلي المؤدي للهدف الأبعد، بدأ الإخوان - وقت كتابة التقرير - في إظهار نوع من التعاون مع الحكومة المصرية، ضد الجماعات الدينية الأكثر تشددا، بالتوازي مع استمرار التركيز على اختراق مؤسسات التربية والتعليم والنقابات المهنية والاتحادات الطلابية، فضلا عن تنويع مصادر الربح والتوسع في الأنشطة التجارية التي ترفد الجماعة بإمكانات مالية ضخمة.
وكشف التقرير عن لقاءات أميركية تمت مع ممثلين عن الإخوان لم يسمهم، خلال الثلاث سنوات السابقة على كتابة التقرير. ولم تقتصر اللقاءات على «الإخوان» المصريين فقط، بل امتدت لتشمل ممثلين عن تنظيمات الإخوان المسلمين في كل من الأردن والكويت واليمن الشمالي وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة. ولم يوضح كاتبو التقرير أين تمت اللقاءات ومتى على وجه التحديد، لكنهم أشاروا إلى أن قيادات الإخوان المسلمين من جميع البلدان الوارد ذكرها يلتقون بصورة شبه دورية في أوروبا، بغرض التخطيط والتنسيق لأنشطة تنظيماتهم. (لم تشر الوثيقة إلى وجود تنظيم دولي لـ«الإخوان»، وإنما اعتبرت التنظيمات الموجودة في الدول العربية مجرد فروع للجماعة الأم في مصر).

موالاة مبارك
ومن الأسرار التي تتعلق بجماعة الإخوان المصرية، وتطرق التقرير إليها؛ أن الجماعة بدأت منذ صيف 1985 تحاول التقرب من نظام الرئيس مبارك وتستميل رجاله إلى جانبها، على أمل إغراء النظام بفكرة تشكيل تحالف معه ضد الجماعات الأكثر راديكالية. وحسب مصادر الاستخبارات الأميركية فإن قادة الإخوان تمكنوا من إقناع مسؤولين كبار في نظام مبارك بأن الجماعات الأخرى، وليس الإخوان، هي من تسعى لإشعال ثورة إسلامية في مصر على نمط ما جرى في إيران عام 1979 بنسخة سنية. وقدرت الاستخبارات المركزية عدد أعضاء الجماعات الأكثر تشددا في مصر ما بين عشرين إلى ثلاثين ألفا موزعين على عدد من الجماعات التي وصفتها بأنها جماعات متصارعة فيما بينها نتيجة للتنافس الشخصي بين زعمائها. وفي المقابل، فإن جماعة الإخوان المسلمين قد وصل عدد أعضائها إلى نصف مليون في تلك الفترة، وتعاني هي الأخرى من صراعات الأجنحة داخلها، خصوصا بين المعتدلين والمتشددين.
ويعتقد المحللون الأميركيون أن جماعة الإخوان قادرة بالفعل على كبح جماح الجماعات الأكثر تطرفا، لكونها جماعات منافسة تلعب في الساحة ذاتها، غير أن معدي التحليل سرعان ما يعودون في موضع آخر منه إلى التحذير من أن الإخوان لا يؤمن جانبهم؛ لأنهم جبلوا على الغدر بحلفائهم والتنصل من الشراكة مع الآخرين؛ وللتدليل على صحة هذا الاستنتاج أشار التقرير إلى أن الجماعة فشلت في أول اختبار لها من قبل النظام المصري لإثبات صدقيتها، حيث إنها دعمت المتشددين من مرشحي «الجماعة الإسلامية» في انتخابات اتحاد طلبة جامعة القاهرة على حساب المرشحين المتفق عليهم مع النظام.
ويضيف التقرير أنه رغم إنكار الجماعة الإسلامية أي دور لـ«الإخوان» في فوز مرشحيها، فإن الاستخبارات الأميركية، وفقا للتقرير، على قناعة بأن الإنفاق المالي الكبير أثناء الحملة الانتخابية لم يكن بمقدور أي جماعة تحمله باستثناء جماعة الإخوان ذات القدرة المالية الضخمة.
ويشير التقرير إلى أن الحوار لم يتوقف بين الإخوان ونظام مبارك رغم تعثره أحيانا جراء غياب الثقة، لكن المرشد في ذلك الوقت، عمر التلمساني، نجح في ترميم جزء من جدار الصدقية المفقودة، وأثبت قدرته على التعاون مع النظام في تجربة أخرى جرت في الإسكندرية، وترتب على ذلك حصول الإخوان على تنازلات من الحكومة كان من بينها السماح لهم باستئناف إصدار مطبوعتين هما «الاعتصام» و«المختار الإسلامي»، ولم تمض سوى شهور قليلة إلا وقد نجح التلمساني في الحصول على موافقة بإعادة إصدار مجلة «الدعوة» الأوسع انتشارا.
وفي الوقت الذي استمر فيه التعاون بين النظام والجماعة على استحياء فإنه لم يصل إلى درجة أن تبادر الحكومة برفع الحظر المفروض على الجماعة بصورة رسمية، وأثناء المفاوضات علمت الاستخبارات الأميركية أن نظام الرئيس مبارك وضع أمام الجماعة أربعة شروط مقابل منحها ترخيصا يعيد إليها شرعيتها.

شروط الرئيس لمنح الإخوان الشرعية القانونية
أولا: التخلي تماما عن العمل السياسي والاكتفاء بالنشاط الدعوي.
ثانيا: إعادة النظر في تحالفات الإخوان مع أحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب الوفد الجديد.
ثالثا: التوقف عن الاحتجاج على معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل.
رابعا: الابتعاد تماما عن محاولات التجنيد داخل الجيش المصري.
وترجح الاستخبارات الأميركية أن جماعة الإخوان رفضت هذه الشروط؛ وهو ما أعطى الحكومة المبرر الكافي للامتناع عن رفع الحظر عن الجماعة.
وفيما يتعلق بالتحالف مع حزب الوفد الجديد الذي بدأ في 1984، فقد جاء في التقرير، نقلا عن السفارة، أنه أسدى ثماره في الانتخابات البرلمانية؛ فمن بين 58 مقعدا فاز بها حزب الوفد الجديد كان نصيب الإخوان ثمانية مقاعد على الأقل؛ غير أن الإخوان كعادتهم يفتقدون للوفاء، على حد تعبير المحللين الأميركيين؛ حيث إن الإخوان الثمانية في البرلمان، تجاهلوا تماما قادة الوفد، وظلوا يصوتون بناء على تعليمات الجماعة دون أدنى تنسيق أو تشاور مع زملائهم الوفديين في البرلمان.

خطر بعيد المدى على المصالح الأميركية
خلص التحليل إلى أن تنامي قوة الإخوان المسلمين في مصر يشكل خطرا بعيد المدى على المصالح الأميركية باعتبار أن الجماعة بطبيعتها مناهضة للنفوذ الأميركي في العالم ولمعاهدة السلام المصرية مع إسرائيل، وتتوجس شرا من التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، ولا يؤمن جانبها في حال التقارب معها، بسبب فقدانها للصدقية مع معظم من تحالف معها أو تقرب إليها.
وفي الوقت ذاته يرى المحللون أن إضعاف الجماعة لا يخدم المصالح الأميركية؛ لأن الفراغ الذي يمكن أن تتركه في حال الإجهاز عليها سوف تملأه على الأرجح تنظيمات أكثر تطرفا، وأقل قبولا للولايات المتحدة بالمقارنة مع جماعة الإخوان.
وتوقع المحللون في حال امتناع الولايات المتحدة عن التدخل سلبا أو إيجابا أن تتصاعد قوة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري لما بأيديهم من شبكات مالية قوية، غير أنهم لن يشكلوا تهديدا فوريا على نظام مبارك إلا في حالتين، الأولى أن يستمر التدهور في الحالة المعيشية للمصريين إلى درجة قد تسمح لـ«الإخوان» باستغلال الوضع وتأجيج الشارع على النظام، والثانية أن يتلاشى دور التيار المعتدل في قياد الإخوان، ويسفر صراح الأجنحة داخل الجماعة عن بروز قيادات أشد تطرفا وأقل خبرة من المرشد عمر التلمساني، بما قد يستفز النظام إلى صدام مع مجتمع معبأ، وقد يصعب التحكم في النتائج.

شبكة الإخوان المالية
تضمنت الوثيقة الاستخبارية إشارة إلى أن الحكومة المصرية ساهمت دون قصد منها في رفد أفراد جماعة الإخوان بأموال ساعدتهم على بدء مشروعات تجارية صغيرة سرعان ما توسعت وأصبحت رافدا ماليا للتنظيم لا يستهان به، ويوضح التقرير أنه عقب الإفراج عن أعضاء الجماعة المسجونين منذ عهد الرئيس الراحل عبد الناصر، منحت الحكومة المصرية كل فرد منهم تعويضا ماليا يعادل ألف جنيه عن كل سنة قضاها في المعتقل. وقد يبدو المبلغ بسيطا للوهلة الأولى لكن بالنظر إلى عدد سنوات السجن الطويلة فإن الرقم تضاعف عدة أضعاف، فضلا عن أن القيمة الشرائية للجنيه المصري قبل ثلاثة عقود كانت عالية بالمقارنة بيومنا هذا.
ولم تكن المبالغ المقدمة من الحكومة مصدر التمويل الوحيد للجماعة، بل إن تبرعات المتعاطفين كانت سخية للغاية، خصوصا من مصادر خليجية ومهاجرين في البلدان الغربية. ويبقى المصدر الأساسي لتمويل الجماعة طبقا لمعلومات الاستخبارات المركزية هو شبكة الأنشطة التجارية المتشعبة التي تدر على الإخوان المسلمين أموالا طائلة بصورة قانونية. وحسب المعلومات الواردة في التقرير فإن الإخوان عمدوا إلى حماية استثماراتهم التجارية من إقدام الحكومة على مصادرتها بأن أدخلوا شركاء من غير أعضاء الإخوان واستقطبوا رجال أعمال كبارا لإدارة تلك المشروعات التجارية مع الحرص على عدم وضع الاستثمارات في سلة واحدة، إضافة إلى تجنبهم إيداع الأموال في البنوك المصرية تحوطا من استيلاء النظام عليها.
ويأتي على رأس المشروعات التجارية التي ينشط فيها الإخوان، المستشفيات، والعيادات الطبية، والمصانع الإنتاجية، وشركات الاستيراد والتصدير، وغير ذلك.
وتعدد الاستخبارات الأميركية في الوثيقة قائمة الشركات العملاقة التابعة لـ«الإخوان» أو ذات العلاقة الوطيدة بهم، زاعمة أن من بينها:
شركات للمقاولات، وبنوكا إسلامية، ومصانع لإنتاج البلاستيك، ومجموعات تجارية واقتصادية أخرى، تعتقد الاستخبارات الأميركية أنها مملوكة لأعضاء في الجماعة أو متعاطفين معها، وتدير سلسلة من الفنادق في القاهرة وخارجها.
وتشير الوثائق إلى أن رجال الأعمال الأثرياء من أعضاء جماعة الإخوان أو المتعاطفين يتبرعون بعشرة في المائة على الأقل من مداخيل أعمالهم لدعم الجماعة.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.