الحبيب المالكي... الحالة الفريدة

انتخب رئيسًا لمجلس النواب المغربي في ظل سياق وملابسات استثنائية

الحبيب المالكي... الحالة الفريدة
TT

الحبيب المالكي... الحالة الفريدة

الحبيب المالكي... الحالة الفريدة

أصبح الحبيب المالكي، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي، منذ يوم 16 يناير (كانون الثاني) الحالي، رئيسًا لمجلس النواب في المملكة المغربية، وهذا المجلس هو الغرفة الأولى في البرلمان. وللعلم، يترأس المالكي، بجانب منصبه الجديد، اللجنة الإدارية الوطنية للحزب التي تبت في القضايا المعروضة على أعضائها؛ إذ لا يعتمد قرار بخصوصها، ولا يجري تبنيه إلا بعد نقاش تختلف درجة حرارته. ولذا؛ توصف هذه اللجنة بأنها «برلمان الحزب» على غرار ما هو معمول به في أغلب الأحزاب السياسية المغربية الكبرى. وبناءً عليه، يصفه البعض الآن بأنه يرأس «برلمانين» اثنين. وتجدر الإشارة إلى أنه تولى هذه المهمة الحزبية لاعتبارات شتى، منها أنه حصل على المرتبة الثانية في السباق نحو الأمانة العامة لحزب الاتحاد الاشتراكي التي آلت في آخر مؤتمر للحزب إلى إدريس لشكر بغالبية الأصوات خلال الجولة الثانية من الاقتراع.

يعتبر منصب رئيس مجلس النواب في المغرب منصبًا ذا أهمية سياسية ووطنية كبرى؛ لأن من يشغله يغدو الشخصية الثالثة في هرم المؤسسات الدستورية في البلاد بعد الملك، ثم رئيس الحكومة. وجاء انتخاب الحبيب المالكي بفضل تمتّعه بمساندة أحزاب تختلف عقائدها عن الفكر الاشتراكي الذي يؤمن به حزبه، وتم الاختيار في ظل سياق وملابسات استثنائية جراء الانسداد السياسي الطويل الذي هيمن على المشاورات الحزبية التي أعقبت إعلان نتائج الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وكما هو معروف، تصدّر حزب العدالة والتنمية (توجهات إسلامية معتدلة) ترتيب الأحزاب، ولكن من دون الظفر بالغالبية المطلقة؛ نظرًا إلى نظام الاقتراع النسبي ذي العتبة الدنيا (3 في المائة بعدما كانت 6 في المائة)، وهو نظام يجبر الحزب المكلف زعيمه تشكيل الحكومة على الاستعانة بأحزاب أخرى، قريبة أو بعيدة عنه، لتأليف أغلبية برلمانية منسجمة. ولقد صعب على عبد الإله ابن كيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية جمعها؛ إذ إنه قبل أن ينتهي من أزمة تشكيل الحكومة دخل في تدبير معركة التنافس على رئاسة مجلس النواب.
الواقع، أنه تباينت الآراء بخصوص تعاطي ابن كيران مع الحالة السياسية التي يواجهها. فهناك من يعذره؛ لأن بعض القوى الحزبية الممثلة في مجلس النواب لم تطاوعه، إن لم نقل خذلته وناصبته العداء مع أنها كانت جزءا من غالبيته السابقة. إذ رفضت عروضه ومقترحاته التي لانت مع مرور فترات المشاورات، لكنها قوبلت بشروط تعجيزية من جانب مخالفيه. ومن ثم بدا لمتابعي الشأن السياسي في المغرب، وكأن ابن كيران بات إما شخصية غير مرغوب بها البتة، أو أن عليه الامتثال لمنطق القوى الحزبية المتكتلة ضده، وهي ممثلة أساسًا في حزبي «التجمع الوطني للأحرار» و«الحركة الشعبية»، بجانب اللاعب الخفي المتواري عن المشاورات، حزب «الأصالة والمعاصرة». وكلها، وبخاصة «التجمع»، اعترضت على مجمل اقتراحات ابن كيران لتجاوز الأزمة، كما أنه لم ينجح في استمالة «الاتحاد الاشتراكي» الذي قاده ضعفه العددي (20 مقعدا ا) إلى طلب الاحتماء بالقوى المعارضة له.
وعليه، يشكل انتخاب المالكي رئيسا لمجلس النواب، وعددهم 395 نائبا، حالة فريدة وغير مسبوقة في النظام البرلماني المغربي لم يعرف لها مثيل في ظل الدساتير القديمة، التي أعطت السلطة التشريعية صلاحيات محدودة لا تقارن بالتي خولها دستور 2011 لممثلي الأمة بالاقتراع المباشر؛ إذ حرص المشرّع، في كل الدساتير أن يكون رئيس الغرفة الأولى جزءا من الغالبية الحكومية ورئيسها.
* من هو الحبيب المالكي؟
ولد الحبيب المالكي يوم 15 أبريل (نيسان) من عام 1946 في مدينة أبي الجعد بمحافظة خريبكة (جنوب شرقي مدينة الدار البيضاء). وهو أستاذ بجامعة محمد الخامس - بالرباط، ورئيس مجموعة الدراسات والأبحاث حول البحر الأبيض المتوسط.
تلقى تعليمه الجامعي في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وتخرّج فيها مجازًا بالاقتصاد، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة باريس - السوربون في فرنسا.
يوم 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 عيّنه الملك الراحل الحسن الثاني أمينا عامًا للمجلس الوطني للشباب والمستقبل. كما تولى رئاسة المركز المغربي للظرفية الاقتصادية. ومنذ نوفمبر 1992 أصبح عضوًا بأكاديمية المملكة.
وخلال عام 1998 عيّنه الملك الراحل وزيرا للفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري ضمن تشكيلة حكومة التناوب. وكان قد انتخب نائبا برلمانيا عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال الولاية النيابية 1993 – 1997، وجدّد انتخابه في انتخابات 14 نوفمبر 1997 نائبا بالمجلس ذاته. كذلك، انتخابه في انتخابات 27 سبتمبر (أيلول) 2002 عن دائرة أبي الجعد.
ثم في عام 2002 عيّنه الملك محمد السادس وزيرا للتربية الوطنية والشباب، وفي 2004 عيّن وزيرا للتربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي. وجدير بالذكر، أن المالكي حاصل على «وسام العرش من درجة ضابط»، وكذا «وسام الاستحقاق الاقتصادي» من المعهد البرتغالي - العربي للتعاون. كما أنه وشّح بصفته أمينًا عامًا للمجلس الوطني للشباب والمستقبل عام 1998 في باريس باسم رئيس الجمهورية الفرنسية بـ«وسام الشرف من درجة فارس».
* مغزى رئاسته البرلمان
ثمة سؤال يطرح نفسه بشدة هو «ماذا يعني انتخاب المالكي، وهو متموضع حاليًا بين المعارضة والغالبية؟ وأي انعكاسات ستكون لذلك على مسار الحياة النيابية و«هندسة» الحكومة التي ينتظرها المغاربة منذ أكثر من ثلاثة أشهر؟ وهل ضرورة مصادقة البرلمان بغرفتيه على ميثاق الاتحاد الأفريقي، ليستعيد المغرب عضويته فيه، هي التي أملت اختيارا يبدو للوهلة الأولى أنه ضد المنهجية الديمقراطية وخارج النسق السياسي؟»... هذا وضع إشكالي استفاد منه حزب الاتحاد الاشتراكي الذي يتذيّل حاليًا قائمة الأحزاب الممثلة في مجلس النواب!
لقد طرحت تساؤلات كثيرة، ومعها ألوان من الأجوبة في غضون الأشهر الماضية. ولكن كلما لاحت تحليلات مقنعة، ظهر ما يبطلها في الحين، أو بعد وقت وجيز.
وبالتالي، لا يصح القول إن المغرب سيُراكم خبرات مفيدة من هذا التمرين الديمقراطي الطويل والشائك، بل ربما ضاعف الشكوك والخوف من انتكاسة تجربة الانتقال السلس التي علّقت عليها آمال كثيرة حتى اعتبرت حقًا استثناء بين أنظمة الحكم التي مستها رياح ما سُمّي بـ«الربيع العربي».
ويرى البعض أنه ربما تنطبق مقولة «رب ضارة نافعة» على الوضع السياسي في المغرب، ومجاراة الرأي القائل إن المعالجة التقليدية للقضايا الكبرى الطارئة والمستعجلة تستوجب حلولا جريئة، وليس شرطا أن تنال الإجماع المألوف كما يحدث بصدد القضايا العادية.
وبالتالي، كان حتميًا الاستعاضة عن الأسلوب العتيق بواقعية وبرغماتية تنتفي معهما الحدود المانعة بين المعارضة والغالبية، ولا سيما، أن التمايزات الآيديولوجية التي باعدت في الماضي بين التنظيمات الحزبية المغربية خفتت بمرور الزمن، ولم تعد بمثل سخونة عقود الصراع السياسي الغابرة.
في هذا السياق، يؤمن محللون بمسوّغات عملية فرضت اختيار المالكي للدور الذي أنيط به، من ضمنها مزايا متوافرة في الرجل قطعًا. فهو أكاديمي وباحث جامعي مرموق، ومتخصّص في العلوم الاقتصادية، له مؤلفات واجتهادات في مجال تخصصه أهلته لتولي مناصب رفيعة عدة: وزارتي الفلاحة والتربية الوطنية، وقبلهما أمانة المجلس الوطني للشباب والمستقبل. وهذا المجلس هيئة أحدثها الملك الراحل الحسن الثاني في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي عندما أحس بنذر التحولات الاجتماعية المتلاحقة في البلاد.
في المقابل، على الرغم من أن الحبيب المالكي حظي بإشادات من لدن محافل ثقافية وفكرية لقاء إسهاماته في إنجاز بحوث ودراسات استشرافية، فإن أثره في مواقع التدبير والتسيير التي مرّ فيها ليست بمثل قامته المعرفية في ميدان تخصصه على الأقل.
وكثيرون يعتبرونه أصلح للتأمل النظري منه في مجال الاحتكاك بالجماهير والحشود، والانخراط في المعارك الضارية.
وبهذا الاعتبار، يمكن القول إن المالكي من بين النواب القلائل الذين تتوفر فيهم شروط إدارة تدبير المؤسسة التشريعية.
والملاحظ هنا أن الأحزاب السياسية التقليدية فقدت، منذ بعض الوقت، القدرة على استقطاب النخب المؤهلة لبث الروح في أوصالها.
في هذا الصدد، كان لافتا ما صرح به المالكي بمجرد إعلان نتيجة التصويت لصالحه. إذ قال إنه «سيكون على المسافة ذاتها من المعارضة والغالبية»، علمًا بأنهما لم تتبلورا حتى اللحظة، في انتظار تشكيل الحكومة العتيدة، وهذا، من دون استبعاد حدوث مفاجآت قد تقلب الموازين والحسابات والمعادلات.
في أي حال، سواء نجح رئيس الحكومة المكلف ابن كيران أم أخفق، في تشكيل فريق غير قابل للتصدع، على المدى القريب فإنه لن يواجه، على الأرجح، صعوبات جمة في التعامل والتنسيق مع المالكي، شخصيًا. ذلك أن حزب العدالة والتنمية (بزعامة ابن كيران) زهد منذ البداية في رئاسة الغرفة البرلمانية الأولى واقترحها على غيره، فضلا عن أن ابن كيران سعى منذ بدء المشاورات إلى إشراك حزب الاتحاد الاشتراكي، كما فعل في الحكومة المنتهية ولايتها، ضمن فريقه الحكومي، في إطار تحالف أحزاب الكتلة الديمقراطية المجمدة.
وحدث ذلك قبل إطلاق التصريحات المثيرة لحميد شباط، أمين عام حزب الاستقلال، بخصوص الحدود التاريخية للمغرب؛ ما أزعج موريتانيا التي رأت فيها مسًا بسيادتها.
ولذا؛ هبّ الملك محمد السادس مبادرًا لإطفاء الحريق الذي أضرمه شباط، فأوفد ابن كيران إلى الجارة الجنوبية لطمأنة رئيسها وشعبها.
وهكذا أفشلت تداعيات تصريحات شباط آملاً راود ابن كيران بإنهاض الكتلة الديمقراطية، ووجد نفسه مضطرا على مضض، للاستغناء عن حزب الاستقلال كأحد مكوّنات الغالبية المحتملة. وبعدها ساد الاعتقاد بأن العقبة الصعبة ذللت، وأن تشكيل الحكومة بات ممكنًا، ولكن تبيّن لرئيس الحكومة المكلّف خلال جولات التفاوض اللاحقة أنه إذا فتح باب التنازلات سيصعب إغلاقه... وهو ليس مستعدا للمزيد منها.
* رؤساء مجلس النواب المغربي منذ 1959
يعد الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب المغربي الجديد الرئيس الـ12 منذ استقلال المغرب عام 1956. وفيما يلي أسماء ما تعاقب على المنصب حتى الآن:
المهدي بن بركة - رئيس المجلس الاستشاري (غير منتخب) 1956 – 1959.
الدكتور عبد الكريم الخطيب 1963 – 1965.
عبد الهادي بوطالب 1970 – 1971.
المهدي بن بوشتة 1971 – 1972.
الداي ولد سيدي باب ا1977 – 1983.
أحمد عصمان 1984 – 1992.
جلال السعيد 1993 – 1997.
عبد الواحد الراضي 1997 – 2007.
مصطفى المنصوري 2007 – 2012.
كريم غلاّب 2012 – 2014.
رشيد الطالبي العلمي 2014 – 2016.
الحبيب المالكي 2016.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.