«سي آي إيه» تنشر 12 مليون صفحة من وثائقها السرية

بناء على قرار اتخذه أوباما في اليوم الأول لرئاسته ونفذه في اليوم الأخير

مدخل مقر «سي آي إيه»  في لانغلي فرجينيا («الشرق الأوسط»)
مدخل مقر «سي آي إيه» في لانغلي فرجينيا («الشرق الأوسط»)
TT

«سي آي إيه» تنشر 12 مليون صفحة من وثائقها السرية

مدخل مقر «سي آي إيه»  في لانغلي فرجينيا («الشرق الأوسط»)
مدخل مقر «سي آي إيه» في لانغلي فرجينيا («الشرق الأوسط»)

لم يكن الخبر الذي تناقلته شبكات أخبار كثيرة عن إفراج وكالة الاستخبارات المركزية (الأميركية) عن 13 مليون وثيقة سرية، دقيقا في صياغة معلوماته، إذ أن الوثائق المقصودة لم يتجاوز عددها حتى الآن عن 930 ألف وثيقة وإن كانت موزعة بالفعل على نحو 12 مليون صفحة. وفضلا عن ذلك فإن الوثائق المشار إليها كانت متوفرة فعليا في مقر الأرشيف الوطني للولايات المتحدة الكائن في مدينة كوليدج بارك بولاية ميرلاند على بعد عشرين دقيقة فقط من العاصمة واشنطن، ولم تكن إزاحة ستار السرية عنها أمرا جديدا.
لكن الجديد في الأمر هو ما ورد في البيان الرسمي الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) من أن الاطلاع على الوثائق المفرج عنها لم يعد يتطلب تحمل مشاق التوجه إلى الأرشيف الوطني والتنقيب المجهد عن المعلومات في ملايين الأوراق. فاعتبارا من يوم أمس أصبح بمقدور الباحثين التصفح في تلك الوثائق عن طريق الدخول إلى غرفة إلكترونية خاصة للتصفح كانت الوكالة قد أنشأتها في موقعها على الإنترنت، العام الماضي وبدأت في تحميل الوثائق المزاح ستار السرية عنها، إلى غرفة التصفح بصورة تدريجية، منذ ذلك الحين.
وكان من المقرر سلفا الإعلان نهاية العام الجاري عن اكتمال مشروع توسيع الأرشيف الإلكتروني لوثائق الاستخبارات عند الانتهاء من تحميل جميع الملفات المزاح عنها ستار السرية، غير أن الموعد قد جرى تعجيله على ما يبدو ليتزامن مع يوم العمل الأخير في البيت الأبيض للرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، حتى لا يذهب الفضل في جهود تعزيز الشفافية، إلى الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي لم يعد التوتر في علاقته بأجهزة الاستخبارات مخفيا على أحد قبل أن يباشر عمله الرئاسي.
أما الرئيس باراك أوباما الذي سيطلق عليه لقب السابق ابتداء من بعد ظهر اليوم الجمعة، فإن علاقته بالوكالات الاستخبارية لم يسدها أي توتر بل كان من أكثر الرؤساء الأميركيين إذعانا لتنفيذ ما توصي به تلك الوكالات. وكان أوباما منذ اليوم الأول لاعتلائه السلطة في فترة رئاسته الأولى قد أعلن تبنيه لسياسة تعزيز الشفافية في الجوانب التي لا تثير الصدام مع تلك الوكالات، وتخفيف القيود المفروضة على ملفات سرية قديمة من المؤكد أن يسهل الإفراج عنها عمل المؤرخين ويقدم شهادات موثقة لا تقدر بثمن.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن السند القانوني لإنشاء غرفة التصفح والإفراج عن المزيد من الوثائق السرية هو القرار الرئاسي التنفيذي رقم 13526 الذي وقعه الرئيس أوباما في العام الأول من فترة رئاسته الأولى، وتضمن إدخال تعديلات جذرية على أنظمة إزاحة السرية عن الوثائق الرسمية ذات الصلة بالأمن القومي الأميركي. ولعل أهم تعديل أدخله أوباما في قراره التنفيذي هو تحديد عمر السرية بما لا يزيد عن 25 عاما، بعد أن كان النص في الأنظمة السابقة بصيغة ما لا يقل عن 25 عاما. كما جعل قرار الإفراج عن الوثائق الحكومية أمرا إجباريا لا اختياريا، مع إعطاء الصلاحية لرؤساء الاستخبارات باستثناء الوثائق ذات الخطورة القصوى إلى ما لا يزيد عن 25 سنة إضافية.
وعند اتخاذ قرار إزاحة السرية كليا أو جزئيا عن أي وثيقة فإن الوكالات الاستخبارية يتوجب عليها حسب القرار الرئاسي ألا تعطي الأولوية لمحتوى المعلومات أو أهمية البيانات بقدر ما يتوجب عليها بالدرجة الأولى توفير الحد الأقصى من الحماية لمصادر المعلومات في الوثيقة أو الوثائق المعنية. وعلى هذا الأساس فإن بعض الوثائق عديمة القيمة زمنيا تظل في سياج من السرية لفترة أطول من العادة لمجرد أن المصدر الأجنبي لا يزال حيا، وقد تتعرض حياته للخطر في حال دلت المعلومات إليه كمصدر محتمل لها.
ولهذا السبب فقد لوحظ في نسبة كبيرة من الوثائق المنشورة في موقع سي آي إيه على الإنترنت اختفاء فقرات بكاملها أو بعض سطورها، والسبب في ذلك على الأرجح أن تلك السطور المعتمة باللون الأسود تتضمن تصريحا أو تلميحا إلى المصدر المطلوب حمايته.
وتشمل الوثائق المنشورة تقارير «استخباراتية» عُرضت على رؤساء تعاقبوا على حكم الولايات المتحدة الأميركية، منذ نشأة الوكالة إلى يوم تنصيب الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في العشرين من يناير (كانون الثاني) عام 1977. كما تتطرق أغلب الوثائق المنشورة لنشاط الوكالة ضد الاتحاد السوفياتي السابق وحلف وارسو في الحرب الباردة، بالإضافة إلى أحداث أخرى مثل حربي فيتنام وكوريا، وصولاً إلى مشاكل معاصرة مثل ظاهرة الإرهاب. كما تتضمن الوثائق معلومات حول الأطباق الطائرة التي يعتقد البعض أنها ظاهرة مفتعلة من تدبير وكالة الاستخبارات المركزية لكن الوثائق المزاح عنها ستار السرية لم تزح ستار الغرابة عن تلك الظاهرة التي لا تزال حتى الآن لغزًا محيرًا.
من بين قرابة المليون وثيقة سرية في الأرشيف الإلكتروني لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) يوجد نحو ألفين و500 وثيقة مدموغة بطابع «سري للغاية»، وتحظى بأهمية خاصة، لأنها عبارة عن تقرير استخباري يومي يقدم للرئيس الأميركي ويلخص خفايا ما يجري في العالم، وكواليس الصراعات السرية الدولية. ورغم أن الوكالة تقوم بشكل سنوي برفع صفة السرية عن عدد من الوثائق والعمليات والأنشطة التي انتهى تأثيرها بشكلٍ أو بآخر، بما في ذلك وثائق لا يتجاوز عمرها 10 أعوام، إلا أن نماذج تقارير في غاية الأهمية هي التقارير السرية اليومية للرئيس لأميركي اقتصرت في الأرشيف الإلكتروني على الفترة من يوم تنصيب الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون في 20 يناير (كانون الثاني) 1969، يوم تنصيب الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في 20 يناير 1977، وبالتالي فإن الوثائق تغطي فترتي الرئيسين نيكسون وفورد، في حين أن الوثائق الأخرى المنشورة تغطي فترة طويلة تمتد من بداية إنشاء الوكالة في الأربعينات إلى عام 1990. كما أن القانون يفرض على الوكالة الإفراج عن جميع الوثائق السابقة لعام 1992.
وبالنظر إلى الجدول الذي يوضح عدد التقارير السرية للغاية التي قدمتها وكالة الاستخبارات المركزية في كل عام من الأعوام الثمانية في عهد الرئيسين نيكسون وفورد، فإن العدد مختلف من سنة إلى أخرى، كما أنه يقل عن عدد أيام السنة، وتفسير ذلك إما أن الرئيس لا يتلقى التقرير اليومي في أيام الآحاد والعطلات الرسمية، وإما أن الوكالة تعمدت إخفاء بعض التقارير تجنبا للكشف عن مصادر أو معلومات محددة رغم مرور سنوات تزيد على الحد المنصوص عليه في القانون وهو 25 عاما من عمر تلك التقارير. وعلى الأرجح فإن مرور خمسين عاما على أي وثيقة سيكون كفيلا بالكشف عنها بقوة القانون، حتى لو اضطر المؤرخون والباحثون عن المعلومات إلى رفع دعاوى قضائيا للحصول على صور من تلك الوثائق.
ومن المفترض أن يكون الرئيس جيمي كارتر قد تلقى قبل تنصيبه رسميا نسخا خاصة به من ستة عشر تقريرا سلمتها وكالات الاستخبارات المركزية لسلفه الرئيس جيرالد فورد في الأيام العشرين الأولى من عام 1977، لكن الوكالة تفادت نشر التقارير التي قدمتها لكارتر بعد ذلك التاريخ. وحرمت الوكالة العالم بالتالي من معرفة أسرار ما جرى في ذلك العام المحوري تاريخ العالم ومنطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص خفايا ما جرى في كامب ديفيد، من منظور الاستخبارات الأميركية، طبقا للتوصيات والنصائح التي لا بد أنها قدمتها لرئيس البلاد في ذلك الوقت.
«سي آي إيه» حذرت البيت الأبيض فبل أعوام من مقتل الرئيس المصري أنور السادات بتراجع زخم شعبيته ومواجهته صعوبات في حكم بلاده. ومع ذلك فإن وثائق أخرى مدموغة بطابع «سري» وليس «سري للغاية»، تم تقديمها للبيت الأبيض في سنوات لاحقة من فترة رئاسة كارتر توقعت فيها وكالة الاستخبارات المركزية أن يواجه الرئيس المصري صعوبات كبيرة في حكم بلاده، وجاء في أحد التقارير أن شعبيته بدأت تتراجع وأعصابه بدأت تنفلت. وكان ذلك قبل سنوات من اغتياله في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1981.
ورغم أن مخزون غرفة التصفح الإلكترونية من الوثائق التي أزيح ستار السرية عنها يقتصر على أرشيف وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، ولا يشمل أي ملفات تابعة لبقية الوكالات الاستخبارية البالغ عددها 16 وكالة. ولكن باعتبار أن «سي آي إيه»، هي الوكالة المركزية الأولى المعنية بشؤون العالم الخارجي، فإن أرشيفها يحظى بأهمية كبيرة خارج الولايات المتحدة، لأنه لا يركز على الأحداث الأميركية المحلية بقدر ما يتعلق بالعالم ككل. ويؤكد محرك البحث في غرفة التصفح أن مئات التقارير السرية في ملفات الـ«سي آي إيه» لا تخلو من إيراد اسم دولة من الدول العربية أو اسم زعيم من زعماء العرب في الفترة مدار البحث.
وتفادت الوكالة نشر أي وثيقة تتضمن معلومات رسمية بشأن عدد عملائها ومقراتها حول العالم ولا بيانات واضحة حول طبيعة المهام والأنشطة الموكلة إليهم، إلا أن القضايا التي تتحدث عنها الوثائق تؤكد أن أعداد العملاء السريين يصل إلى الآلاف، أما العلنيون والإداريون فيصل العدد إلى عشرات الآلاف، موزعين على جميع أنحاء العالم لضمان الأمن القومي الأميركي والقضاء على تهديداته، فضلاً عن بسط النفوذ والهيمنة الأميركية على الدول.
وتشمل أنشطة «سي آي إيه» ثلاثة مجالات رئيسية، هي جمع المعلومات عن الحكومات الأجنبية والشركات والأفراد، وتحليل تلك المعلومات جنبا إلى جنب مع معلومات جمعتها وكالات استخبارات أميركية أخرى، وذلك لتقييم المعلومات المتعلقة بالأمن القومي وتقديمها لكبار صانعي السياسة الأميركية، وبناء على طلب من رئيس الولايات المتحدة، تنفذ الوكالة أو تشرف على النشاطات السرية وبعض العمليات التكتيكية من قبل موظفيها، أو الجيش الأميركي، أو شركاء آخرين. يمكنها على سبيل المثال ممارسة نفوذ سياسي أجنبي من خلال أقسامها التكتيكية، مثل شعبة الأنشطة الخاصة. وتتمتع الوكالة بموازنة ضخمة تزيد على الموازنات المرصودة لبعض الوكالات الأخرى. ورغم أن الوكالة يعتبر موظفوها مدنيين إلا أنها بدأت في السنوات الأخيرة تمارس أعمالا شبه عسكرية، إلى جانب إدارتها مركز معلومات مكافحة الإرهاب ومكتب آخر استحدث لمكافحة عمليات القرصنة الإلكترونية، إلى جانب القيام بعمليات اختراق مضادة.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.