استراتيجية «داعش» التقسيمية وراء عملية إسطنبول

بعد فتح صفحة العداء مع تركيا

إجراءات أمنية مشددة خارج نادي «رينا» في إسطنبول الذي تعرض لتفجير إرهابي وإطلاق نيران ليلة رأس السنة (غيتي)
إجراءات أمنية مشددة خارج نادي «رينا» في إسطنبول الذي تعرض لتفجير إرهابي وإطلاق نيران ليلة رأس السنة (غيتي)
TT

استراتيجية «داعش» التقسيمية وراء عملية إسطنبول

إجراءات أمنية مشددة خارج نادي «رينا» في إسطنبول الذي تعرض لتفجير إرهابي وإطلاق نيران ليلة رأس السنة (غيتي)
إجراءات أمنية مشددة خارج نادي «رينا» في إسطنبول الذي تعرض لتفجير إرهابي وإطلاق نيران ليلة رأس السنة (غيتي)

في الساعات الأولى من صباح يوم الأحد 1 يناير (كانون الثاني) الحالي هز هجوم إرهابي جديد تركيا واستهدف مطعم رينا وناديه الليلي، أحد أهم أماكن الترفيه والأكثر شهرة في مدينة إسطنبول، الذي كان يعج بمئات المحتفلين بالعام الجديد.
وكما هو معروف، تبنى الهجوم تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في اليوم التالي 2 يناير 2017، ليفتح فصلاً جديدًا في الصراع بينه وبين السلطات التركية.
بعد العملية الإرهابية الدامية التي هزت مدينة إسطنبول ليلة رأس السنة الميلادية، أوردت صحيفة «حرييت» (الحرية) التركية على صفحاتها أن الإرهابي منفذ العملية يتحدر من آسيا الوسطى، وعلى الأرجح من جمهورية قيرغيزستان، إلا أن هذه المعلومات لم يجر التأكد منها، ومن ثم ذكر أنه من جمهورية كازاخستان، وهو يُعرف ضمن الجماعة الإرهابية بكنية «أبو محمد خراساني»، وفقًا لصحيفة تركية ثانية هي «يني شفق»، كما زُعِم أن الإرهابي كان موجودًا في محافظة قونية بوسط الأناضول يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، قبل أن يتوجه إلى إسطنبول لتنفيذ الهجوم على مطعم ونادي رينا الذي أسفر عن سقوط 39 قتيلاً. من ناحية ثانية، ذكرت صحيفة «هافينغتون بوست»، أن منفذ العملية الإرهابية الآثمة التقى في مدينة قونية برجل اسمه الحركي «الشيخ يوسف»، وهو اسم مستعار لأحد عناصر «داعش» وتواصل معه لتنفيذ الهجوم، وفق صحيفة ثالثة هي «ستار» التركية.
في أي حال، يعد هجوم رينا الهجوم الثالث الذي ينفذه إرهابيو «داعش»، والذي يشارك فيه مقاتلون يتحدرون من جمهوريات آسيا الوسطى أو كيانات القوقاز، وكلها في الاتحاد السوفياتي السابق. وكان الهجوم الأول قد استهدف منطقة السلطان أحمد في إسطنبول في يناير 2015 ونفذته امرأة من جمهورية داغستان (ذاتية الحكم داخل روسيا الاتحادية). ثم في 28 يونيو (حزيران) 2016، استهدفت 3 هجمات مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول شارك فيها 3 رجال من جمهورية الشيشان (وهي مثل داغستان، جمهورية ذاتية الحكم داخل روسيا الاتحادية).
وفي هذا السياق، يشير الدكتور أحمد يحيى والدكتورة آن سبيكرد من «المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف» في تقرير صدر أخيرًا، إلى أنه «بمجرّد أن يكون منفذ الهجوم هو من آسيا الوسطى، فمن المرجح أنه يتكلم اللغة الروسية وأن يكون عضوًا أو لديه علاقات وثيقة مع (إمارة القوقاز الإسلامية)»، المجموعة فرعية في «داعش» تضم مواطنين من الشيشان وداغستان من بين آخرين يتمتعون بخبرة طولية من القتال ضد الروس والذين شارك بعض منهم في مرحلة «الجهاد» الأفغاني.
وخلال المقابلات التي أجريت مع عدد من المنشقين عن «داعش» غالبًا ما تمت الإشارة إلى الشيشانيين والكازاخستانيين والتركمان باسم «القوات الخاصة» في «داعش» كما عرف هؤلاء بأنهم من ذوي الخبرة العالية. وكمثال على ذلك، فإن عمر الشيشاني الذي قتل أخيرًا وعرف كـ«وزير الدفاع داخل (داعش)»، كان قد قاتل مع هذه المجموعة أيضًا، وفق ما ذكر التقرير.
والملاحظ أنه خلال السنوات الأخيرة، ضاعف «داعش» تهديداته تجاه تركيا من خلال بيانات بثها على الإنترنت أو عبر مجلة «رومية» الإلكترونية التابعة له. ولقد تزايدت وتيرة هذه التهديدات وحدتها مع الضربات الجوية التركية في منطقة الباب، بمحافظة حلب في شمال سوريا، التي استهدفت ودمرت مصالح «داعش» وقتلت أكثر من 150 من كوادره، فضلاً عن عملية «درع الفرات» في سوريا التي شنتها تركيا ومعها «الجيش السوري الحر» الذي تدعمه في شهر أغسطس (آب) الماضي، ناهيك بأن تركيا تعد اليوم الدولة الوحيدة إلى جانب سوريا والعراق التي تقاتل «داعش» مع نشر قوات نظامية تركية على الأرض.
في المقابل، نجح «داعش» في سياق حربه ضد تركيا باستغلال نقاط ضعف النظام التركي. إذ استخدم التنظيم الإرهابي، أولاً، عامل الحدود المشتركة لتكوين الخلايا ونشرها استراتيجيًا في جميع أنحاء البلاد. وحتى وقوع عملية الباب، كان التنظيم الإرهابي المتطرف قادرًا على دخول أراضي تركيا بكل سهولة عبر الحدود التركية السورية.
أضف إلى ذلك توافد ملايين من اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية، مما سهل تسلل عناصر التنظيم إلى هناك بينهم. ويعتقد أن «داعش» نجح في زرع كثير من الخلايا النائمة داخل تركيا، ولقد اجتذبت هذه الخلايا آلاف المقاتلين، بمن فيهم على الأرجح مئات المواطنين الأتراك. ويمكن أن يعزى ذلك إلى أنه عندما بدأت الحرب في سوريا تجاهلت تركيا خطر «داعش»، كما اتهمت بأنها غضت الطرف عن تهريبه المقاتلين والأسلحة عبر حدودها. وحسب رأي الدكتورين يحيى وسبيكرد، «ظنت تركيا أن هذا التنظيم الإرهابي سيسهم في إبقاء الميليشيا الكردية الانفصالية تحت السيطرة»، ولن يواجه تركيا بالسلاح.
كذلك فإن النظام التركي عانى كثيرًا من «الخضات» التي أضعفته بشكل ملحوظ نتيجة الاضطرابات السياسية والأمنية التي صبت كلها لصالح «داعش». إذ شن الرئيس رجب طيب إردوغان عمليتي تطهير؛ الأولى كانت عام 2013 بعدما استهدفت حملات مكافحة الفساد حلفاءه المقربين وابنه، والثانية بعد محاولة الانقلاب في يوليو (تموز) 2016. وكما هو معروف، أدت العملية الانقلابية الفاشلة التي اتهم أنصار الداعية فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة، إلى إقالة وسجن عدد كبير من كبار المسؤولين في الاستخبارات وفي قسم مكافحة الإرهاب، بجانب القضاة والمدرسين والموظفين الحكوميين. وعليه باتت تركيا تفتقر إلى قوة شرطة مدرّبة تدريبًا جيدًا وتتمتع بالخبرة اللازمة لمواجهة التهديد المتزايد من «داعش».
وبالفعل، تمكن التنظيم الإرهابي من استغلال نقاط ضعف أخرى داخل النظام التركي، لا سيما التنافر بين العلمانيين والإسلاميين، حيث اختيار المكان (أي مطعم ونادي رينا) والوقت (ليلة رأس السنة الميلادية) يسلطان الضوء على حسابات «داعش» الاستراتيجية. فالمطعم والنادي معروف باستضافته واستقطابه أبناء الطبقة الأغنى والعلمانية في تركيا. وأيضًا يشير توقيت الهجمات إلى حسابات «داعش» الاستراتيجية بما أن احتفالات ليلة رأس السنة شكلت مصدرًا للتوتر بين العلمانيين والمحافظين الذين لا يوافقون على هذه الاحتفالات.
وفي سياق متصل، يشير الدكتور يحيى والدكتورة سبيكرد في تقريرهما إلى «أن حزب العدالة والتنمية (الحزب الحاكم) إسلامي التوجّهات، نظم بدوره حملات مناهضة لاحتفالات عيد الميلاد، بحيث أصدرت وزارة التربية والتعليم أوامر بمنع احتفالات عيد الميلاد في المدارس، مما أسهم في تأجيج المشاعر المعادية لعيد الميلاد في البلاد».
ومع الهجمة الإرهابية الأخيرة، التي استقطبت قسمًا من المجتمع التركي المحافظ، اعتمد «داعش» استراتيجية تقسيمية سبق أن لجأ إليها أبو مصعب الزرقاوي لأول مرة في العراق، عندما تعمد العمل على تأجيج نيران الطائفية بين السنة والشيعة. واليوم من الواضح أن «داعش» يسعى في تركيا إلى إشعال الحرب بين العلمانيين والمحافظين، ويبدو أنه نجح - إلى حد ما - في مساعيه الهدامة هذه بما أن بعض المحافظين في تركيا برّروا العملية الإرهابية بل ورحبوا بها.
واليوم يدرك «داعش» جيدًا أن حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس إردوغان، هو الآن في موقف دفاعي، وأنه على الأرجح سيستجيب لهذا التحدي من خلال وضع مزيد من الضغوط على المجتمع التركي، وستثير هذه الضغوط سخط العلمانيين ومعارضتهم، ومن سيؤجِّج أكثر فأكثر مشاعر الخوف والغضب لدى هؤلاء، أما النتيجة فمزيد من التباعد في البلاد.
والواضح للمراقبين والمحللين على حد سواء أنه مع الهجوم على مطعم ونادي رينا، لا يسعى «داعش» إلى بث الذعر في البلاد وضرب اقتصادها فحسب، بل يحاول أيضًا تأجيج وتعميق خطوط التصدع الدينية والمذهبية والسياسية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.