«سوسيولوجيا الشباب» تحت المجهر

بحثًا عن تفسير علمي للتطرّف والإرهاب

ابو محمد العدناني في شريط فيديو للتنظيم الارهابي قبل مقتله العام الماضي
ابو محمد العدناني في شريط فيديو للتنظيم الارهابي قبل مقتله العام الماضي
TT

«سوسيولوجيا الشباب» تحت المجهر

ابو محمد العدناني في شريط فيديو للتنظيم الارهابي قبل مقتله العام الماضي
ابو محمد العدناني في شريط فيديو للتنظيم الارهابي قبل مقتله العام الماضي

فرض السياق العام الذي يعيشه الوطن العربي منذ 2011 وبروز تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بقيادة أبو بكر البغدادي، وما صاحبه من تأثيرات جوهرية على الجيل الثالث من المسلمين بأوروبا وأميركا، ظهور تقليد علمي جديد وسط النخبة الأكاديمية العربية يتعلق بدراسة الشباب كظاهرة سوسيولوجية لافتة للنظر. ذلك أن مراكز الخبرة والمتخصّصين بالغرب، وجدوا أنفسهم أمام «هجرة معاكسة» للآلاف من الشباب المسلم المستقر في الغرب نحو العراق وسوريا للقتال في صفوف «داعش». كذلك غادر الآلاف من مواليد ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، الكثير من الدول العربية بلدانهم والتحقوا بتنظيم «البغدادي» الشيء الذي حوّل آيديولوجية «الخلافة» و«الجهاد المقدس» لواقع حقيقي – ولو عبر ادعاءات «داعش» – في زمن قياسي. أكثر من هذا أظهرت عدة دراسات أن «البنية التنظيمية» ومراكز صناعة القرار داخل التنظيم، منحت الشباب مكانة مرموقة، حيث شغلوا مناصب تنفيذية سياسية وعسكرية جد حساسة، ما جعل من «داعش» تنظيمًا إرهابيا شبابيًا معولمًا في الوقت نفسه.
ويبدو أن تغيرات السياق الاجتماعي للشباب المتدين بالغرب والوطن العربي، لا يشق مساره التاريخي في ظل اعتباط ثقافي، بل ينم عن إحساس جماعي للشباب بالأهلية الثقافية وإرادة التحرّر من الفكر المشيخي السلطوي عربيًا. كما أن هذا التحرك الفعال يهدف إلى خلق إعادة الاندماج في الطبقات والتشكيلات الاجتماعية مع تجاوز لهيمنة الشيوخ (أي كبار السن) السائدة في المجتمع التقليدي العربي. أما في الغرب، فيظهر أن الشباب المسلم اليوم أكثر انخراطًا فيما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو «مقاومة الأقوال المتداولة». وبالتالي، اعتبار الانتماء والآيديولوجيا الدينية أصلا في تحديد الخيارات وطرق العيش، وهو ما أنتج ثقافة «الهجرة المعاكسة» واختيار الصراع ضد العالم من أجل بناء «خلافة» يزعم أنها إسلامية.
في هذا الإطار يمكن الحديث مع السوسيولوجيتين الفرنسيتين كليمنتين رينو Clémentine Raineau، وآن ماري بتريك Anne - Marie Peatrik، عن الشباب باعتباره قضية وإشكالية اجتماعية، تتحدد من خلال النسق والدينامية المجتمعية دينية كانت أم علمانية. فالدينامية هي التي تنتج «طبقات اجتماعية» و«مجموعات عمرية»، في ظل نظام ديمقراطي أو استبدادي. وتتفاعل تصورات المجموعات والطبقات، وتتباين بشأن قضايا معرفية وسلوكية، منها الدين والسياسة والعنف، وغيرها من قضايا المجال العام. وعليه يمكن القول مع بيير بورديو أن «الشباب والشيخوخة ليسا معطيين بل هما بناءان عقليان أقيما على نحو اجتماعي في الصراع بين الشباب والشيوخ»؛ وأن هذا الصراع يزداد حدّة ويتحول إلى العنف باستعمال أدوات آيديولوجية قد تكون سياسية وقد تكون دينية، وقد تكون رمزية، أو مادية باستعمال السلاح.
صحيح أن التحوّلات الاجتماعية للشباب المتديّن بالغرب وعربيًا، تتداخل فيه عوامل عدة ومعقدة، منها العولمة والحداثة التي أنتجت مجتمع الشبكات بتعبير عالم الاجتماع مانويل كاستل. ومنها كذلك ما يتعلق بالسياسة وهيمنة السلطة التي تظهر في النظام العربي وهيمنته السلطوية من جهة؛ ومركزية التنظيم الاجتماعي الغربي وممارسته ما يطلق عليه بيير بورديو العنف الرمزي من جهة ثانية. هذا ما ينتج نمطًا خاصًا من الحياة الاجتماعية للفردية الغربية التي اعتبر جون بودون أنها «لا تعترف بغير الفاعلين في صميم هذه الحياة». الشيء الذي يعني أن الشباب المسلم في ضواحي المدن الكبرى الأوروبية، الذي يعاني من أزمة تعليم وبطالة ولا مساواة هو بالتأكيد خارج نسق الفعل الاجتماعي.
وهذا التهميش الواقع يحول هذه الفئات لمجتمع مصغر يخلق رابطًا اجتماعيًا جديدًا، يعتمد على الأسس الصلبة. ويكون في نفس الوقت قادرا على إبراز الكينونة الجماعية للمهمّشين. وهذا ما يفسر سطوة الدين في ضواحي بعض المدن الأوروبية كباريس وبروكسل. وذلك أن المحاولات الاجتماعية التي يقودها الشباب في هذه المناطق تحوّل الدين إلى سلاح ومحرّك فعّال في الصراع مع المجتمع الأكبر، وسياساته العامة الوطنية والخارجية المتعلقة بالشرق الأوسط. وكل هذا يحتاج لاستثمار منسوب الحقد الناتج عن الاغتراب والهشاشة، لتحشيد الفئة العمرية الشابة وتجنيدها في التنظيمات الإرهابية.
إن تراكم الحقد على الحياة والإحساس الجماعي بالتهميش والتمزّق على مستوى الهويّة من العوامل التي تجعل من الشباب المسلم أكثر انسجامًا.
وبالتالي أكثر قدرة على الحركة والتأثير، لدرجة تتجاوز في كثير من الأحيان القدرات والإمكانات الفكرية والمادية التي توفرها مجتمعات الضواحي المهمشة.
صحيح كذلك أن استعمال الدين هنا، لا يعبر فقط عن إحساس بضعف الكينونة الجماعية للشباب، ولكنه يعبر في الوقت نفسه عن البحث المستمر للتموقع داخل النسق الاجتماعي، ومواجهته من داخل الدولة الواحدة (تفجيرات باريس وبروكسل مثلا). أو مواجهته، في الخارج والإضرار بما يعتبر مصالح لهذه الدول بالشرق الأوسط، عبر الالتحاق بتنظيم البغدادي.
وفي هذا الإطار لا يمكن القول كذلك أن التحول المفاجئ للشباب بالغرب من عالم الجريمة والمخدرات إلى مربع التنظيمات الإرهابية ناتج عن الشخصية المريضة. لأن هذا التعميم يفتقد للأسس العلمية، ولا يستحضر الأبعاد المركبة المساهمة في عملية التحول، من الانحراف إلى العمل الإرهابي المنظم، الذي تساهم فيه عوامل سياسية ونفسية واجتماعية.
ثم إن هذه العوامل قد تكون بالدرجة الأولى، ذات بعد مرجعي تدفع الإنسان للنظر للواقع من خلال معتقداته الصلبة، وجعلها المحدد الوحيد للخيارات الصحيحة والخاطئة. وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني تيدور أدورنو، حيث اعتبر الفرد ميالا للسلطوية وامتلاك الحقيقة وعدم الاعتراف بالتعدد، خاصة، إذا تعلق بالجانب العقدي الديني.
كذلك فإن أن التطرّف الديني مرتبط أساسا بالتنشئة الاجتماعية والثقافية. وبالتالي، وجب النظر لتوسع التجنيد في صفوف الشباب المسلم بالغرب من زاوية ثقافية وتربوية؛ تشمل مضمون التمثلات الدينية عن الدين نفسه، من جهة، وأدوار الأسلوب التربوي المتشدّد، والعوامل الثقافية والمذهبية التي تفرزه في جغرافية بشرية غير الجغرافية التي ظهر فيها التطرف الديني تاريخيا.
وبالتالي يمكن القول: إن الشباب المتدين بالغرب يحتاج لعلاج معرفي ثقافي وتربوي، أكثر منه أمني. ذلك أن التوسع المبالغ فيه في المراقبة الأمنية المشددة، واتهام الشباب المسلم المتدين «بالمجانين» يجعلانه في حالة من الإحساس بالحرمان من الاستقلالية الفردية، ما يدفعه لتعويضها بالهجرة، وصناعة نجومية عالمية في دولة «الخلافة» المزعومة التي يقودها البغدادي.
ويشير جيرالد برونر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ديدرو بباريس، في كتابه «الفكر المتطرّف: كيف يصبح الناس العاديون متعصّبين» (الصادر بالفرنسيّة عام 2009) إلى شيوع هذا الوصف غير العلمي حتى في الوسط الأكاديمي.
ويعتبر أن استسهال النظر في معتقدات المتعصّبين، ووصفهم عادة بـ«المجانين»، لأن سلوكيّاتهم «غير منطقيّة» لا يقدم أي تفسير علمي للظاهرة، رغم الرواج الإعلامي الذي يحظى به. ذلك أن الاستناد لتدني المستوى التعليمي للشباب المتطرف، وانسداد أفقهم الاقتصادي، لا يفسر عدم تحول الأغلبية الساحقة ممن لهم نفس المشترك التعليمي والاقتصادي لمتطرفين وإرهابيين. أكثر من ذلك، يمكن الاستناد لخلاصة الكثير من الدراسات حول الشباب المسلم بالغرب الملتحق «بداعش»، لإثبات عكس ما هو رائج. ذلك أن هذه الدراسات تؤكد أن الشباب المتطرف هم من الطبقة المتوسطة والعليا، وأنهم على مستوى عالٍ من التعليم.
من جهته، يرى عالم الاجتماع نفسه أن التعصب هو «التزام راديكالي بفكرة راديكاليّة» (ص 210). وهذا يستوجب التضحية وبناء مسار حياتي غير عادي، يتسم ابتداءً بالقدرة على العطاء والذوبان في الجماعة. وفي هذا السياق يصف برونر المتطرّفين، بأنّهم أفراد قادرون على «التضحية بأثمن ما عندهم (وظائفهم، حرّيتهم...)، ولا سيما حياتهم، وفي كثير من الحالات حيوات الآخرين أيضًا، باسم فكرة معينة» (ص 91).
صحيح أن ذهنية وفكرة التطرف ضعيفة الانتقال بين الذوات، بمعنى أنها تظل محدودة في الوسط الاجتماعي المعتل وغير المتوازن، إلا أن فعاليتها العنيفة تعطيها صدى ووقعًا أكبر من حجمها الطبيعي. كما أنها تستطيع تمديد أمد حياتها لكون نواتها تتمركز حول «قيم ومعتقدات ذات شحنة صراعيّة ولادة، وحركية. وبما أنّ «البحث عن الاتساق والتنفيذ غير المشروط لبعض المقدّمات المنطقيّة يؤدّيان بسهولة إلى أشكال من التطرّف... فإنّ حجّة النقاء والتماسك العقائدي تتحوّل... إلى درع واقٍ يحمي المتطرّفين من عالم يعتقدون أنّ لديهم أسبابا وجيهة لكرهه أو احتقاره» (ص 79).
بكلمة، يمكن القول: إن الفكر المتطرف المنتج للإرهاب لا يخلو من عقلانية حداثية، تجعل من الصراع آلية ضرورية في النسق الاجتماعي. ولذلك يختلط الصراع الراديكالي الجيلي بين الضواحي المهمشة والمدن الراقية بالغرب، بالمعرفة الدينية المعولمة. ويتحوّل الصراع بين الشيوخ والشباب في المجتمع العربي التقليدي، في ظل أنظمة غير ديمقراطية لساحة عنف سياسي، يستعمل السلاح لأغراض سياسية بغطاء ديني متشدد ومنحرف.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.