التطرّف حالة انقسام وتشظٍ هوياتي

مناقشة في دعوة «المقدسي» لتوحيد المقاتلين في سوريا

مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
TT

التطرّف حالة انقسام وتشظٍ هوياتي

مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)
مواطنون من الرقة يتطلعون إلى علم «داعش» يرفرف فوق أحد المباني بالمدينة (غيتي)

تبدو الدعوة إلى «الوحدة» و«الاتحاد» دائمة وفاعلة لدى مختلف حركات التشدد الديني والآيديولوجي معا، حسب تصورات الأمة لدى كل منهما، على أساس ديني أو عنصري أو لغوي، حركات قطرية أو حركات معولمة. ولكن لم تكن تجاربها وممارساتها يومًا عامل توحد أو توحيد، بل ظلت حالة انقسام ورافد انشطار وضعف في الفضاء العام للأمة والدولة وفي فضائها الخاص بخصوص علاقتها بغيرها من الجماعات المتشددة.
إن خطابات جماعات وأحزاب التشدد الديني والآيديولوجي حركات طرح وقسمة، وليست حركات جمع وإضافة. وكثيرا ما يكون العداء والانقسام فيما بينها أكثر من عدائها للآخرين وخصوصًا المختلفين معها، وهو ما سنمثل به في حالة «الجماعات المقاتلة في سوريا» التي صعدت أخيرًا الدعوة لتوحيدها وكان آخرها ما طرحه المتشدد الأردني «أبو محمد المقدسي».
كان الانقسام واضحا في تاريخ حركات آيديولوجية يمينية يسارية وقومية بعثية، كما كان بين فرعي البعث في سوريا والعراق في ثمانينات القرن الماضي، وكما هو ماثل بين جماعات التطرف الديني العنيف في سوريا والعراق الآن. ولا يزال الانشطار والانشقاق سمة أكثر وضوحا في تاريخ وواقع الأحزاب الراديكالية واليمينية المتشددة - شرقا وغربا - منذ عهد بعيد، رغم صحوة اليمين العالمية الآن. فالأصل أن التطرف رافد تشتت، وحالة انقسام وتصفية، وليس قاموسه الانغلاقي الطردي والتمييزي، الذي يحتكر الحق والحقيقة، إلا تشظيا هوياتيا تكارهيا لا يعرف الاحتواء، بل يفجر نزعات الانفصال ودعوى الانقسام، التي يفتقد اعتدال احتوائها وفن إدارة اختلافاتها.
التشدد والنزعات الانفصالية
ووفق ما نسميه «متتابعة الغلو» يبدو التشدد والتطرف حالة انشطار بنيوي وداخلي، تتناسل منه فروع أكثر تشددا من أصله، وتنزع شرعيته صانعة شرعيتها.
هكذا خرج «داعش» من بطن «القاعدة»، وخرجت الأخيرة من مخاضات الحركات الراديكالية السابقة العهد وحقبة «المجاهدين الأفغان». وتظل الأزمات المستعصية والعالقة - كما هو في سوريا والعراق الآن - سياقا مناسبا لتوالد وإثمار الغلو والتشظي العنيف المستمر من شجرة العنف «المقدس».
تبدو المسألة أكثر وضوحا إذا ربطنا بين نزوع وصعود التطرف العنيف وجماعاته في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ووصولاً لزلزال الانتفاضات العربية عام 2011. وبين صعود النزعات الأقلوية والانفصالية لدى طوائف دينية وأقليات قومية وإثنية.
إن الاعتدال وحده هو القادر على تحقيق الوحدة، لأنه يستطيع إدارة الاختلاف واحتواءه، أما اليمينية شرقًا وغربا - فهي انعزال يناسب انغلاقها، ولا تتسع لأكثر من حضور الذات الضيق النافي للآخرين، وحال تحققه ينتج التشظيات والانشطارات في بنية الهوية الواحدة والدولة الواحدة لمزيد من الانقسام ليس غير، ويصدق عليها الأثر الإسلامي «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
تعجب أمثال أبي الحسن الأشعري (ت 324 هجرية) وأبو الفتح الشهرستاني (ت 548 هجرية) وغيرهما من مؤرخي «مقالات الإسلاميين» أو مبحث «الملل والنحل» من تناسل الغلو وازدياد عدد الخوارج وفرقهم، حتى انقسموا فيما بينهم إلى عشرين فرقة وطائفة، يكفّر بعضها بعضًا، ورصدوا هذا التكاثر أو التشظي بلغتنا، في حالة كل فرق الغلاة من الباطنية وخروج بعضها من بعض وعلى بعض بشكل واضح ومعهود.
كذلك لم تشتهر طائفة أو فرقة أو جماعة متشدّدة بنجاح ما سعت إليه من محاولة توحيدية كبيرة. بل لم تنجح أحيانًا في توحيد ما تحت يدها من أرض، وهو ما شاهدناه في اقتتال «إمارة» طالبان مع سائر الميليشيات الأفغانية الأخرى، ونشاهده اليوم في قتال «داعش» لاحقًا سائر الجماعات الراديكالية التي تلتقي معها أحيانًا في المرجعية والأفكار والأهداف.
تاريخيا كذلك، لم تتح لأي جماعة متشددة - آيديولوجية أو دينية - لم تمكِّن لمفهوم الاختلاف وإدارته - عقلانيا أو ديمقراطيا أو إنسانيا - أن تؤسس دولة قوية ووحدوية. بل سريعا ما انهارت تجاربها الوحدوية التي أقامها اليمينيون والآيديولوجيون المتشدّدون عربيا في خمسينات القرن الماضي. إنها لم تصمد عند أول تحد ولو موج ماء، ولم يبق منهم إلا الأكثر مرونة وتدربا وتقديرا للواقع لا الانقلاب عليه، كما كانت تعابير أمثال المودودي وميشال عفلق أيضا.
من هنا، كانت غالبية تجارب المتشددين هامشا في التاريخ وهامشا في الواقع. وباستثناءات قليلة كإمارة الخوارج الأولى في الأحواز التي قضى عليها المهلب بن أبي صفرة، لم نعرف دولا كبيرة للمُغالين والمتشدّدين. ومن حضر منها استخدم أدوات مختلفة من المرونة والاحتواء وقوانين التاريخ والسياسة درعا للبقاء.
نادرا ما تحدث وحدة أو اتحاد بين تنظيمين أو مجموعتين متشددين. ولا تكون إذا حدثت إلا مؤقتة، وفي سياقات محددة ومحدودة، لتحقيق هدف ما كحالة توحيد مجموعات «الجهاد المصري» الوحيدة مع محمد عبد السلام فرج عام 1979 التي أنتجت اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونجاح الثورة الإيرانية التي ألهبت حماس سائر الإسلاميين. لكن سريعا ما انفك عقد وحدتهم في السجون خلافا على ولاية «الضرير والأسير» وقتال «الطائفة الممتنعة» و«العذر بالجهل» بعد راديكالية مختلفة، كانت موالية لـ«القاعدة» سابقا، بغية الحصول على الدعم أو تماسا مع الألق التي أحدثته حينها وينتهي الآن.
ومن هذه الحالات المحدودة للتوحّد ما حدث لبعض الوقت بين قادة «المجاهدين الأفغان» بعد جلاء الاتحاد السوفياتي عام 1989. لكن سريعا ما عادوا يقتتلون على غنائم السلطة والنفوذ. أو ما حاوله «أبو مصعب الزرقاوي» بعد قدومه إلى العراق عام 2004 من توحيد الجماعات الراديكالية في مجلس شوري وتنسيقي واحد فيما بينها، إلا أنها كذلك سريعا ما انقسمت وتقاتلت... وكان أول رافضي زعامة «الزرقاوي» أول من استضافه واستقبله في بيته، وعرّفه على سائر التنظيمات المتطرفة في العراق، ألا وهو قائد «جيش المجاهدين» المعروف «أبو عبد الله المنصور» الذي كان أول من أحل «الخليفة» الداعشي المزعوم دمه بعدما بدأ ينشط في سوريا، وكان من أسباب خلافه مع «أبو محمد الجولاني» فيما بعد.
وراهنًا، تشهد حركات متطرفة مثل «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» الأفريقيتين انشقاقات وخلافات قوية على قيادتها وانقسام عناصرها بين القيادات المتنازعة. ولنناقش فيما يلي دعوة أطلقها المنظر المتشدد الأردني «أبو محمد المقدسي» لتوحيد الجماعات المقاتلة في سوريا في ظل تراجعاتها ووطأة الحرب عليها، كجزء من حالة العجز عن طرح خطاب «وحدوي»، بل واستحالته لدى أفكار الجماعات المتشددة.
يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الماضي نشر المنظر الأردني المتشدد «أبو محمد المقدسي» وثيقة له تدعو لاتحاد الجماعات المقاتلة في سوريا واندماجها، بعنوان «الموازنة بين الاندماج والثوابت» في ست ورقات. وحاول «المقدسي» من خلال هذه الوثيقة ملامسة هذه الدعوة، التي يتوجه إليها قبل شهور وأثارت عليه عددا من كتاب ونشطاء «القاعدة» الذين يرونه يميل للتصالح مع «داعش»، كذلك أثارت عليه الداعشيين الذين لا يصارح ولاء وبراء منهم، بعدما كان أشد انتقادًا لهم في السابق.
في هذه الوثيقة لم يسم «المقدسي» أيا من الجماعات التي يستهدفها ويدعوها للاتحاد فيما بينها، والتي ينطبق عليها ما وضعه من شروط لجوازه، وهي: التوحيد والحاكمية وألا تكون مرتبطة بأي قوى خارجية أو تؤمن بالديمقراطية - أو ما يسميه «الإردوغانية» ويعتبرها من شرك الطواغيت. كذلك لم يسم أيا من تلك التي يستثنيها دون أن يسميها، وخاصة الجماعات المقاتلة الراديكالية، التي يشمل بعضها، ولكنها الأكثر مرونة واستعدادا للتحاور والقبول بغيرها من الفصائل.
رفض «المقدسي» إطلاق القول بأن «جهاد الدفع لا شرط له» مقيدا له بالتوحيد واستهداف تحكيم الشريعة والكفر بالقوانين الوضعية، لكنه بدا مرتبكًا يفتقد الضبط حين لم يسم ولم يحدد أطرا لدعوته أو سياقا لها. داعيا لها على استحياء ربما لتخفيف حدة التوتر بين الجماعات المقاتلة في سوريا - وخصوصا الأقرب إليه... أي «جبهة النصرة» (أو جبهة فتح الشام كما تسمت فيما بعد) و«داعش».
أغلب الظن أن «المقدسي» يحاول بهذه الدعوة الخجولة استعادة مكانته الرمزية لدى الجماعات المقاتلة المتطرفة في سوريا، بعد تحولات تدريجية شهدها خطابه في السابق إزاء «داعش». إذ كان منظرو «داعش» وشرعيوه قد شنوا على «المقدسي» حملة ضروسا ونقدا حادا، وخاصة في أعقاب إعدام «داعش» الطيار الأردني «الشهيد» معاذ الكساسبة في يناير (كانون الثاني) 2015، والذي كان وسيطًا في الإفراج عنه. غير أن الدواعش خدعوه ولم يقبلوا ما طرح عليهم من حل وسط يومذاك.
لكنه، بعد فترة نجده يحاول استعادة شعبيته لديهم بتراجع عن وصفهم بـ«الخوارج» وتحاشيه تعميم اتهاماته بل وإيجاد الأعذار لهم وتقديم النصرة وإيجابها تجاه حرب التحالف الدولي عليهم. ثم الدعوة لاتحاد الجماعات المقاتلة في الساحة «جهاد دفع» ضد العدو الصائل (الخارجي الذي لا يميز) والمسكوت عنه في دعوته. كما يبدو أن رباطه بتنظيم «القاعدة» والظواهري قد تراجع قليلا فلم يعد يذكره أو يصفه كما كان يصفه، بـ«حكيم الأمة»، ولم يعد يدافع عن «القاعدة» وخطابها كما كان يفعل. وهو الموقف الذي بدا واضحا ويتميز به عن غيره حتى أقربهم إليه «أبو قتادة الفلسطيني» أو أبعدهم عنه الذي خاض ضده معركة كبيرة وهو المصري د. طارق عبد الحليم.
ويبقى، أن أهم من تحولات «المقدسي» وارتباكاته، أن وثيقته نفسها ورؤيته نفسها أظهرتا ارتباكا عميقًا. فهو من يحصر دعوته للوحدة في جماعات بعينها، ويستعين في خاتمته بنص مطول لابن تيمية (رحمه الله) من الفتاوى لا يضع فيه شرطا لـ«جهاد الدفع»، ويدعو لتجاوز الخلافات الجزئية بين المسلمين حال ألم بهم خطر. ونص ابن تيمية هنا - كما كانت سيرته - واقعي تمامًا، فهو من ناصر ووقف ودعم نظريًا جهود أمراء المماليك وسلاطينهم، وخاصة السلطان الناصر بن قلاوون، حتى من سجنه منهم، في وجه الحملات التترية والصليبية، وهذا رغم كونه حنبليا وكونهم أشعرية حنفية. وهو من دعا في عدد من مؤلفاته ورسائله للعذر بالخلاف وتجاوز الشقاق الحاد بين المسلمين، وعدم التعصب للطوائف والفرق، مثل كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» ورسالة «رفع الملام» وفي الفتاوى ومنهاج السنة وغيرهما.
ختاما، إن توحّد المتشددين أمر بعيد المنال في أي مكان، ويظل دعوة حيية خجولة ومرتبكة، تكتفي برفع شعارات الوحدة والدعوة إليها، ولكن هو في بنيته حالة انشطار وتشظ كما هو في تجربته المزيد من الانقسام لا يمكن أن يصنع توحدًا.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».