أن تتحدث العربية في تل أبيب

منظومة مختلفة عن السياقات اللغوية في العالم العربي

أن تتحدث العربية في تل أبيب
TT

أن تتحدث العربية في تل أبيب

أن تتحدث العربية في تل أبيب

اللغة أشبه ما تكون بكائن حي، يتفاعل مع بيئته ويتماهى معها. ولذا تحدث العرب في ماضيهم لهجات متعددة، اختلفت بتنوع الثقافات المحلية السائدة في جغرافيتهم، فأهل الحضر كانت لهم لهجاتهم، وكذلك أهل البداوة. ولسان أهل اليمن كان مختلفًا عن لسان أهل الحجاز.
في وقتنا الحاضر، ورغم بقاء اللغة العربية الكلاسيكية بمثابة لغة مشتركة ومفهومة لأكثر من 200 مليون إنسان، فقد تطورت لهجات عربية محكية كثيرة بين الأقاليم والأمصار متأثرة بتقاطعات التاريخ والجغرافيا وتقلبات الأزمنة. فهناك لهجات مصرية وعراقية ومغربية وشامية وخليجية وغيرها مع تنويعات فرعية لا تكاد تحصى.
يتحدث ما يقارب عشرين في المائة من سكان الدولة العبرية اللغة العربية كلغة أم، إضافة إلى الأجيال الأولى من الإسرائيليين اليهود الذين تعود أصولهم لبلاد عربية - أغلبهم من العراق وسوريا واليمن وتونس ومصر ولبنان والمغرب- وهم ثلثا المجتمع الإسرائيلي في بعض التقديرات، رسميا، اللغة العربية هي لغة ثانية للدولة إلى جانب العبرية. لكن أي لهجة عربية تتحدث تل أبيب؟
يقول يوناتان ميندل إن «العربية الإسرائيلية» - وهو الاسم الذي أطلقه على موضوعه «اللغة العربية كما هي داخل إسرائيل»، في رسالته للدكتوراه، جامعة كمبردج بالمملكة المتحدة - هي منظومة قائمة بحد ذاتها مختلفة عن السياقات اللغوية العربية الأخرى في العالم العربي، تمتزج بها الهواجس السياسية والأمنية بالوقائع على الأرض وبالتاريخ والجغرافيا والثقافة معًا، على نحو جعل من تطور العربية في فلسطين المحتلة مساحة صراع وأداة آيديولوجية لتكريس هيمنة المنظومة العبرية على المكون العربي الفلسطيني. تعود علاقة المشروع الصهيوني باللغة العربية إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر - قبل قيام الكيان الإسرائيلي بمائة عام تقريبًا - وذلك عندما بدأت طلائع الهجرة الاستيطانية تتوجه إلى الأراضي المقدسة وتتوطن فيها بين سكانها العرب. فاليهود الفلسطينيون تحدثوا العربية بالطبع بحكم تعايشهم الطويل مع جيرانهم أهل البلاد الأصليين. ويقول ميندل إن يهود أوروبا الشرقية الذين هاجروا إلى فلسطين في القرن التاسع عشر واجهوا صعوبات اقتصادية جمة لصعوبة اندماجهم بالمجتمع المحلي بسبب عدم إتقانهم للغة العربية، وهم كانوا أصدروا لهم في وقت مبكر (عام 1839) أول قاموس عربي - يديشي (لغة اليهود الدينية قبل وضع اللغة العبرية الحديثة في القرن العشرين).
لقد كانت العربية لغة محكية على نطاق واسع بين الجاليات اليهودية في الدولة العثمانية، وحول البحر الأبيض المتوسط، وكُتبت كثير من النصوص اليهودية في العصور الوسطى بها أيضًا. ولما انطلق المشروع الاستيطاني في فلسطين، كانت توجيهات الحركة الصهيونية واضحة البوصلة بضرورة إتقان العربية بوصفها لغة الأغلبية، وكان من شروط الالتحاق بوحدة الدفاع الصهيونية - الذراع الأمنية والاستخباراتية للمنظمة الصهيونية السابقة للموساد - المهارة في استخدام السلاح، وركوب الخيل، والتحدث بالعربية بطلاقة.
ولا تنكر المصادر الإسرائيلية أن اللغة العربية كانت مصدرًا هامًا من مصادر تطوير اللغة العبرية الرسمية التي أعيد تكوينها بشكلها الحالي في 1912، لا سيما فيما يتعلق بالاصطلاحات الحديثة التي وضعها رواد النهضة العربية لوصف الاختراعات الحديثة والتكنولوجيات المستجدة، لكن ذلك أثار نقاشات هامة داخل المجتمع الإسرائيلي الناشئ، إذ ذهب البعض إلى تأييد ذلك «بوصفه استعادة لتراث عبراني نقله العرب ويستعيده الصهاينة اليوم»، وتدعيمًا ثقافيًا للأصول السامية لليهود، بينما رأى آخرون أنه يتعارض مع المهمة الصهيونية كما رسمها عراب الصهيونية الأول ثيودور هيرتزل بوصف الدولة العبرية مشروعًا ثقافيًا أوروبيًا متقدمًا في مواجهة البربرية الشرقية المتخلفة، وأن اللغة العربية لغة الأعداء، لا لغة الجوار.
انتصرت وجهة نظر هيرتزل في النهاية، لا سيما بعد الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939) التي قمعها البريطانيون بقسوة فائقة، واندفعت بعدها كتل اليهود الأوروبيين إلى البلاد الفلسطينية، فصار التوجه الرسمي لدولة الأمر الواقع الصهيونية هو تعلم اللغة العربية للأغراض العملية - كالزراعة مثلاً - والأمنية فحسب.
بعد قيام الدولة العبرية في 1948 وجرائم التطهير العرقي التي أسفرت عن إجلاء مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الدول المجاورة تكرست هيمنة العنصر العبري على التجمع السكاني في فلسطين المحتلة، وبدأت السلطات العبرية تعاني من نقص فادح في معلمي اللغة العربية، وأيضًا الكوادر المؤهلة لغويًا للعمل الاستخباراتي، وذلك على الرغم من الجذور العربية لكثير من الإسرائيليين بالنظر إلى مناخ الاستعلاء الذي شهده المجتمع الإسرائيلي المنتصر عسكريًا والمهيمن ماديًا في الأراضي المحتلة ومحاولة اليهود العرب التمايز عن الفلسطينيين المهزومين والمهمشين ثقافيًا واقتصاديًا من خلال تجنب الثقافة واللغة العربيتين.
هذا النقص في الكوادر المتحدثة بالعربية تسبب في مشكلات حادة للموساد ولوزارة الخارجية وللجيش الإسرائيلي معًا أثناء حرب 1973، فقد كان مسؤول المكتب العراقي والسوري في الخارجية مثلاً لا يحسن العربية، مما دفع شلومو غازيت الرئيس الجديد للاستخبارات الإسرائيلية في 1974 إلى إطلاق مبادرة جديدة لتحسين مستوى اللغة العربية في المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، استهدفت توفير ما قدر بـ250 كادرًا سنويًا يفترض منهم أن يكونوا قادرين على فهم ما يقوله العدو على الفور. الإطار العام لهذه المبادرة كان الأمن وحفظ الاستقرار، ولذلك فإن نتيجتها التراكمية أسفرت جيلاً من الإسرائيليين يتحدث عربية استخبارية المزاج، تستهدف أساسًا عزل الطرف الآخر وتقزيمه لا التقارب والانفتاح والتعاون، وكأنها لغة نقيضة للغة العبرية - اللغة القومية للإسرائيليين - وقد تأثرت أجيالٌ من الفلسطينيين الذين وظفتهم الاستخبارات الإسرائيلية في مجالات مختلفة بهذه اللغة الصامتة منعدمة الجذور الثقافية، وانتهت الكتب المدرسية التي تدرس العربية للطلاب الإسرائيليين - كلغة ثانية - إلى أن كتبت بأيدي خريجي الأجهزة الأمنية ذاتهم.
يتفاخر الإسرائيليون اليوم بأنهم دولة ثنائية اللغة، إذ أسقطت الإنجليزية من قائمة اللغات الرسمية التي اعتمدها البريطانيون وقت حكومة الانتداب، بينما تقرر الاحتفاظ بالعربية مع العبرية كلغتين رسميتين للدولة، حيث يمكن مثلاً التحدث بالعربية في قلب الكنيست الإسرائيلي. لكن الهدف الحقيقي من إبقاء ثنائية اللغة هذه - وفق ميندل - كان تمامًا نقيض الادعاء الفارغ بتقبل الأقلية العربية في المجتمع الإسرائيلي، بل كان ذلك سلاحًا لضمان عزل الأقلية العربية والحفاظ على يهودية الدولة. ولعل نظرة سريعة إلى أي من علامات الطرق في الأرض المحتلة تظهر ذلك بوضوح. فالإشارات تحمل الأسماء باللغة العبرية للمدن والمناطق إلى جانب لفظ اسمها العبري بأحرف عربية، مع إسقاط الأسماء العربية الأصلية المرتبطة بالأرض والتاريخ والسكان الأصليين. والمؤسف، حسبما تقول نانسي هاوكر في مراجعتها لكتاب ميندل، أن سياسات الانعزال اللغوي التي وضع الإسرائيليون أنفسهم فيها قررها آباء الدولة الإسرائيلية الذين كانوا يتحدثون ثلاث لغات على الأقل، وينحدرون من يهود شرق أوروبا والدولة العثمانية المتميزين بإتقانهم الفائق لعدة لغات على نحو مكنهم من الانخراط بالأنشطة الأكاديمية والثقافية والدبلوماسية عبر العالم كله.
بعد ستين عامًا على قيام الدولة العبرية ما زال الصراع بين طرفي المعادلة حول العربية في المجتمع الإسرائيلي مستمرًا، فقد حاولت عبثًا مجموعة من أعضاء الكنيست في 2008 تقديم مشروع قانون لإسقاط اللغة العربية كلغة رسمية ثانية لإسرائيل، بينما صوت الكنيست بأغلبية على إنشاء أكاديمية للغة العربية (مقرها حيفا) تكون بمثابة مجمع لغوي لإدارة اللغة العربية في إسرائيل على غرار الأكاديمية الإسرائيلية للغة العبرية.
بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وزميلتها الأكاديمية اللغوية يبدو أنه ستبقى اللغة العربية - الإسرائيلية لغة غرباء في محيط معادٍ، وأداة أمنٍ وانعزالٍ وفصلٍ وتهميشٍ للآخر، وكأنها نقيض - لغة، لا لغة!



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.