من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيالhttps://aawsat.com/home/article/830156/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%83%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84
«دراكولا مصاص الدماء»... هكذا عرفناه من أفلام السينما الغربية متمثلة في شخصية الكونت دراكولا، الذي كان يمتص دماء ضحاياه مثل الخفافيش، فقط ليتحول الضحية بعد موته إلى كائن آخر من مصاصي الدماء. وهكذا جسّدت هوليوود هذه الشخصية التي برع في تمثيلها الممثل البريطاني الراحل الشهير كريستوفر لي، وسرعان ما تعددت الأفلام والمسلسلات المختلفة حول هذه الشخصية بأشكال مختلفة. ولقد ابتكر المخرجون وكتَّاب القصص وسيلة قتل هذا المخلوق الخيالي من خلال وسيلتين أساسيتين، هما: دق الخازوق في قلبه مباشرة فيموت، أو يُكشف لضوء الشمس الذي يحرقه لأنه كائن ليلي لا يعيش إلا في الظلام. وهكذا تسلسلت الروايات، غير أن الحقيقة هي أن هذه الشخصية لها أساس في كتب التاريخ، ولكن ليس كمصاص دماء بطبيعة الحال، بل كشخصية سادية متعطشة للدماء والقتل والتعذيب. الشخصية التاريخية التي اشتقت منها هذه الانحرافات الروائية هي للكونت فلاد ابن دراكولا، حاكم إقليم والاخيا (ولاشيا - أو بلاد الأفلاق - أكبر أقاليم جمهورية رومانيا الحالية) خلال القرن الخامس عشر، وينسب اسم «دراكولا» إلى والده وهو المرادف باللغة الرومانية لابن التنين. لقد ولد فلاد لأمير إقليم والاخيا، الواقع بين قوتين متحاربتين هما الدولة العثمانية الفتية والدولة المجرية. وكان على هذا الإقليم أن يوازن سياسته دائمًا بين عدوين كبيرين لا طاقة له بهما. واختار والد فلاد أن يتحالف مع العثمانيين ضد المجريين، ووفقًا لمعايير ذلك الوقت كان التحالف يتطلب ضمانات لتحاشي الخيانة والغدر، وفي هذه الحالة سلّم الأب ابنيه فلاد ورادو إلى السلطان العثماني رهينتين لضمان ولائه له. وعاش فلاد في كنف العثمانيين لسنوات طويلة، لكنه على الرغم من أنه لقي منهم معاملة حسنة للغاية تضمنت تدريبه على كل فنون القتال والحرب والحياة الرغدة، نشأ على كراهية العثمانيين والإسلام على حد سواء. وحقًا، رفض اعتناق الإسلام وتشرَّب الثقافة العثمانية تمامًا، إلا أنه كتم أمر كراهيته لهما منتظرًا لحظة عودته لقيادة بلاده. وهذا ما حدث عام 1448 عندما قتل والده بعد مؤامرة النبلاء ضده، فعاد فلاد ليتولى إمارة والاخيا، في ظاهره حليفًا للعثمانيين وفي باطنه عدوًا شديد العداوة لهم. وعلى الفور بدأ القائد الشاب التجهيز لمواجهة العثمانيين، إلا أن هذه الخطة كانت تحتاج إلى تأمين الجبهة الداخلية، وهو ما فعله بكل عنف وقسوة في استهانة كاملة بإنسانيته وإنسانية شعبه. إذ بدأ تشديد قبضته من خلال التخلص من طبقة النبلاء بعد دعوتهم إلى مأدبة عشاء لكنه لم يتخلص منهم بالقتل، بل جمعهم تحت تهديد السلاح ووضعهم كعمال لبناء الجدران وترميم الأسوار الدفاع حول عاصمته دون أية مراعاة لحالتهم الاجتماعية أو أعمارهم، فمات أغلبيتهم بعد مرور فترة وجيزة. أما على المستوى الشعبي فقد وضع دستورًا أخلاقيًا متشددًا للغاية، وكانت العقوبات أكثر من رادعة، فأغلبية عقوبات الذكور كانت قتل المذنبين على الخازوق وتركهم لساعات طويلة أو حتى أيام ليموتوا ببطء شديد، وكان يتلذذ وهو يراهم يتألمون ويرى في ذلك عبرة للرعية. ولكن الثابت تاريخيًا أن هذا الرجل السادي المريض كانت يشتاق إلى هذا المنظر، بدليل أنه قتل الآلاف من شعبه بهذه الطريقة البشعة، أما عقوبة الزانية فكان سلخها وتركها لتموت في الساحات العامة. ويقال إن أحد النبلاء دخل عليه ففزع من روائح الجثث المنتنة في الساحات، وعندما شكا له، أمر فلاد فورًا بجدع أنفه ووضعه على الخازوق هو الآخر. ويقال إن هذا الرجل المريض نفسيًا كان يتلذذ بمشاهدة مناظر القتل والتعذيب لدرجة أنه تعمد أن يكون حول قصره من كل الاتجاهات خوازيق يعدم عليها الناس. عودة إلى التسلسل التاريخي؛ بمجرد أن دانت لفلاد ولأخيه رادو السيطرة المطلقة على والاخيا بالقهر والدم، فتح الجبهة مباشرة مع العثمانيين ودخل في صدام عسكري مع السلطان محمد الثاني «الفاتح» في أعقاب فتح الأخير القسطنطينية بسنوات قليلة. وكان السلطان قد أوفد اثنين من السفراء ليتفاوضوا مع فلاد بدلاً من الحرب، وعندما طلب منهما خلع عمامتيهما، اعتذر السفيران، فما كان منه إلا أن أمر جنوده بدق المسامير في رأسيهما لتثبيت العمامتين. هذا التصرف الوحشي أثار غضب السلطان فنشبت الحرب بينهما لسنوات طويلة، وخلالها طبَّق فلاد كل التكتيكات التي تعلمها في البلاط العثماني، حتى إنه في عام 1462 جر جيش محمد «الفاتح» إلى معركة مفتوحة بالقرب من نهر الدانوب وهزم - متحالفًا مع المجريين - مقدمة جيشه هزيمة نكراء، وأقدم على قتل كل الأسرى على الخازوق كعادته، وقطع أيدي البعض وأرجلهم، وتركهم أمام أنظار جنود جيش السلطان المتقدم ليروهم. وهكذا، ازداد غضب السلطان وأقسم على الانتقام من فلاد بوضع رأسه على الخازوق أسوة بما كان يفعله مع الأسرى والمصابين. وبالفعل، عندما تقدم الجيش العثماني داخل والاخيا، وعلى الرغم من سياسة «الأرض المحروقة» التي لجأ إليها فلاد ليبطئ تقدم العثمانيين - وهو ما حدث - فإنه أخفق مع المجريين في مواجهة قوة جيش الدولة العثمانية الفتية المتصاعدة شهرًا بعد شهر. وفعلاً استطاع العثمانيون محاصرة قلعة دراكولا، لكن فلاد تمكن من الفرار بمساعدة الغجر وتوجه إلى إقليم ترانسلفانيا، شمال غربي والاخيا، المتاخم للمجر، محاولاً تحالفه مع المجريين الذين قبضوا عليه. وفي هذه الأثناء، نصّب السلطان الفاتح الأمير رادو بدلاً من أخيه حاكمًا لوالاخيا. وظل فلاد في المنفى حتى عام 1475 عندما جاءه خبر وفاة أخيه، فقرر العودة متوهمًا أن الشعب سيستقبله بالترحاب. إلا أن هذا لم يحدث بطبيعة الحال لأن الشعوب لا تنسى مجرميها. وبالتالي فإنه لم يصمد بعد اعتلائه العرش أكثر من شهرين، إذ مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قتل على أيدي الخدم أو أحد النبلاء. وفي كل الأحوال فقد قطعت رأسه وأرسلت مغطاة بالعسل إلى السلطان العثماني، الذي علّق على الخازوق في العاصمة أدرنة لتكون رمزًا للانتقام والعظة، لكل من تسوّل له نفسه خيانة العثمانيين بعد ذلك في أوروبا. وهكذا انتهت حياة هذا الرجل الدموي السادي الذي تناقلت أوروبا قصص فظائعه لقرون تالية. وبقي عالقًا في الذاكرة الإنسانية على اعتباره من أسوأ الحكام وأكثرهم تعطشًا لدماء شعبه وأعدائه على حد سواء، كما دخل إلى عالمنا اليوم من خلال روايات «دراكولا مصاص الدماء»، مع الإشارة إلى أن ثمة روايات تزعم أن فلاد كان في بعض المناسبات يضع الخبز في كوب من دماء أعدائه أو المذنبين من شعبه ويأكله! أخيرًا، أينما كانت الحقيقة، فإن أكل الخبز بالدم أو شرب الدم لا يختلفان كثيرًا، خصوصًا في السياسة والحكم. فالأمران يستويان، فإن لم ينل الشعب من أمثاله فإن التاريخ ينال منهم بالروايات والسير العفنة، تمامًا مثلما حدث مع الكونت فلاد ابن دراكولا.
منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسياhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9/5093698-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.
لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.
بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.
الخروج الفرنسي
الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.
يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.
ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.
حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.
وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.
ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.
لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.
وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».
يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.
أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.
الأميركيون أيضاً
حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.
ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.
وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.
وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.
البديل الروسي
لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.
لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.
ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.
وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.
رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.
جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.
استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.
كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.
المفاجأة الأوكرانية
اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.
تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.
لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.
رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي
خطر الإرهاب
في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.
لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.
في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.
في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.
في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».
يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.
ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».