جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض

ابن أسرة يهودية سيكون مستشار ترامب والناصح المؤثر

جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض
TT

جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض

جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض

من النادر حدوث مصاهرة في الولايات المتحدة بين أسرة يهودية بولندية الجذور سقط أجدادها ضحايا للمحرقة النازية، مع أسرة مسيحية تعود جذور أجدادها إلى ألمانيا النازية ذاتها. ولكن هذا بالضبط ما حصل بين أسرة كوشنر اليهودية الأرثوذكسية ممثلة بالشاب جاريد كوشنر، نجل الملياردير اليهودي تشارلز كوشنر إمبراطور العقارات في ولاية نيوجيرسي ومؤسس شركات كوشنر - الذي عيّنه حموه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أخيرًا مستشارًا له وأسرة ترامب ممثلة بالشابة إيفانكا ابنة الرئيس المنتخب وإمبراطور العقارات في ولاية نيويورك. وكانت إيفانكا في ذلك الوقت قد بدأت بالعمل في شركة والدها في حين أن جاريد كان قد تولّى مهام والده في إدارة ممتلكاته العقارية الضخمة، لأن الأب كان قد اعتقل وحوكم بتهم كثيرة، من بينها التحايل على أنظمة الضرائب والتبرعات وأمضى في سجن فيدرالي نحو سنتين.
يبدو أن الثراء الناتج عن النشاط العقاري وحده هو ما جمع بين أسرتي كوشنر وترامب، وكان الجسر الرابط بين الفتى جاريد كوشنر والفتاة إيفانكا ترامب، مثلما هو جسر جورج واشنطن يربط بين مسقط رأس جاريد في ولاية نيوجيرسي، ومسقط رأس إيفانكا في ولاية نيويورك المجاورة ولا يفصل بين الولايتين سوى نهر الهدسون. ذلك أنه قبل انخراط كوشنر في حملة «حميه» دونالد ترامب الانتخابية لم يكن تُعرف له أي توجهات سياسية سوى أنه يعلق في مكتبه صورة للرئيس الديمقراطي الراحل جون كينيدي وأخيه روبرت كينيدي، كما يعرب عن اعتزازه بكثير من الرؤساء الديمقراطيين ولم يسمع منه أي إشادة أو فخر بأي رئيس جمهوري.

لقاء مرتّب
ومن المفارقات أيضًا أن اللقاء الأول بين جاريد وإيفانكا عام 2007 لم يكن تلقائيًا ولا عفويًا بل مرتبًا من جانب أصدقاء مشتركين لهما، ليس بغرض تزويجهما، وإنما بغرض خلق فرص تعامل تجاري بين الأسرتين. واستمرت اللقاءات والمواعدة بين الشاب والفتاة أكثر من سنتين ولم يتم الزواج إلا بشرط كان صعبًا جدًا على أسرة ترامب ولكن الأسرة لم تتدخل لمنع الزيجة المشروطة.
لقد اشترطت أسرة كوشنر على ابنها جاريد للقبول بزواجه من مسيحية بروتستانتية أن تعتنق خطيبته الديانة اليهودية، وهذا ما حصل بالفعل. وهو الأمر الذي استفاد منه لاحقًا «المرشح الرئاسي» ترامب للدفاع عن نفسه بأنه ليس معاديًا للسامية. ومن ثم، كانت هذه المصاهرة النادرة بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ ترامب، اليميني المتشدد، من تهمة خطيرة، لا سيما بعدما استغل خصومه جذوره الألمانية فشبّهوه بزعيم النازية أدولف هتلر.
وعلى الرغم من أن 27 في المائة فقط من يهود أميركا صوتوا لصالح ترامب، مقابل أكثر من 72 في المائة صوتوا لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، فإن ترامب - على ما يبدو - يسعى لاستثمار صهره لاحقًا لحمايته من التهمة ذاتها، التي يخشى من تسليطها عليه أثناء وجوده بالبيت الأبيض في حال اختلفت توجهاته وسياساته مع ما يرضي إسرائيل ومناصريها.
ولهذا عندما بدأ الرئيس الأميركي المنتخب يتلقى التقارير الاستخبارية المصنّفة في «غاية السرّية»، فوجئ مسؤولو الاستخبارات الأميركية بطلب غير مسبوق من رئيس أميركي، هو السماح لشخص آخر من أسرته بالاطلاع على تلك التقارير. هذا الشخص الذي أراد ترامب إشراكه في أدق الأسرار هو صهره جاريد كوشنر، زوج ابنته إيفانكا. وبالطبع، لم يُسمح لكوشنر على الفور بالاطلاع على التقارير الاستخبارية السرّية، ليس لأنه نجل سجين مُدان بـ18 جناية، ولا لأنه يهودي الديانة يُخشى منه أن يسرّب الأسرار لإسرائيل، بل بكل بساطة لأنه لا يحمل صفة رسمية تجبر الوكالات الاستخبارية على فحص سجله الأمني وقياس نسبة الخطورة من اطلاعه على الوثائق المصنّفة «سرّية» أو «سرّية للغاية»، ومن ثم منحه التصريح الأمني أو إبلاغه بالرفض. وعادةً، يكون القرار على ضوء نتيجة الفحص - الذي قد يستغرق شهورًا - في سجل الشخص وشبكة ارتباطاته الخارجية والداخلية، وفي نهاية المطاف إما أن يمنح تصريحًا أمنيًا شاملاً، أو جزئيًا، أو يُرفض منحه التصريح دون إبداء الأسباب.

الصهر... المستشار
وهكذا، من منطلق رغبة من الرئيس ترامب بتسهيل الأمر على صهره، البالغ من العمر 36 سنة، في الحصول على تصريح أمني يؤهله للاطلاع على أسرار الدولة التي لا يطلع عليها سوى الرئيس ونائبه، وتمكُّنه في الوقت ذاته من تقديم الاستشارات للرئيس بشأن القضايا المطروحة أمامه، كان لا بد من إصدار قرار بتعيينه رسميا مستشارًا له ليعمل إلى جانبه في البيت الأبيض. ومن ثم، تبدأ إجراءات حصول الصهر على التصريح الأمني المطلوب.
غير أنه ظهرت معضلة غير متوقعة أمام ترامب وصهره هي وجود تشريع يعود إلى بداية عقد الستينات من القرن الماضي جرى إصداره حينذاك للحد من المحاباة في الوظيفة العامة. وينصّ هذا التشريع على منع كبار مسؤولي الحكومة الفيدرالية من تعيين أقاربهم لشغل الوظائف العامة. ويبدو أنه قد التشريع المشار إليه سُنّ عقب اختيار الرئيس الأميركي الراحل جون كيندي شقيقه روبرت كيندي وزيرا للعدل، وهو الأمر الذي جوبه في حينه بمعارضة قوية، لكنه لم يحُل دون المصادقة على التعيين في مجلس الشيوخ.
والواقع أنه إذا كانت المصادقة على التعيينات في مجلس الشيوخ تمثل سدًا منيعًا أمام المحاباة، أو حتى أمام اختيار أشخاص يفتقرون إلى الأهلية تحوم حولهم الشبهات، فإن الوظائف المساعدة والاستشارية في البيت الأبيض لا يشترط في المعينين لشغلها أن يمروا على مجلس الشيوخ للحصول على مصادقة المجلس. وبناءً عليه اعتبر ترامب أن عدم اشتراط المصادقة من مجلس الشيوخ بمثابة استثناء من شبهة المحاباة، وفي ضوء ذلك أصدر قراره بتعيين صهره مستشارًا له في البيت الأبيض.
هذا القرار لم يكن مفاجئًا، إذ إن كوشنر كان من أقرب المستشارين المؤثرين على ترامب طوال حملته الانتخابية للرئاسة، ولكن خلفية كوشنر الدينية وروابط والده بقادة إسرائيل الحاليين والسابقين جعلت البعض يتساءل عما إذا كان كوشنر سيلعب دور «رجل اللوبي الإسرائيلي» في البيت الأبيض، غير أن مناصري إسرائيل ينظرون إلى جاريد كوشنر من زاوية عكسية باعتباره في رأيهم درع ترامب القوي وحامي حماه من اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة.

رجل إسرائيل
قد لا يكون جاريد كوشنر صهر الرئيس المنتخب – الذي سيتولى منصبه رسميًا يوم 20 يناير (كانون الثاني) الحالي – الشخص النافذ اليهودي الوحيد في البيت الأبيض، إلا أنه بلا أدنى شك سيكون الأكثر تأثيرا من بين جميع مستشاري ترامب بسبب قربه العائلي منه، ومقدرته على الوصول إليه في أي لحظة يشاء دون سابق موعد.
أما تهمة المحاباة المتصلة باختيار كوشنر للعمل في البيت الأبيض فمن الصعب إثباتها. ذلك أن الصهر الشاب خريج جامعة هارفارد، أعرق جامعات أميركا، كما يحمل درجة الماجستير في إدارة الأعمال وكذلك الإجازة في القانون من جامعة نيويورك المرموقة. وهذا، مع أن منتقدي تعيينه يجادلون بأنه لم يضمن في الأساس القبول في جامعة هارفارد إلا بعدما تبرّع أبوه للجامعة بمبلغ مليونين ونصف المليون دولار. وتكرّر الأمر كذلك مع جامعة نيويورك إذ تبرع الأب للجامعة بثلاثة ملايين دولار قبل أن حصول ابنه على القبول فيها.

منتقم خجول... وابن وفي
من ناحية أخرى، على الرغم من أن كل مَن كَتب عن جاريد كوشنر أو قابله خرج بانطباع جيد عن هدوء الرجل ودماثة أخلاقه، فإن بعض المقربين منه يصفونه بأنه ميال إلى الانتقام، خصوصًا، بعد نجاحه في إبعاد حاكم ولاية نيوجيرسي كريس كريستي عن حميه الرئيس المنتخب بعدما كان كريستي أحد أبرز المرشحين لتولي منصب نائب الرئيس في بطاقة ترامب الانتخابية.
كذلك تسبب كوشنر في حرمان كريستي من لعب أي دور في فريق ترامب الانتقالي بعدما اختاره حموه مديرًا للفريق. ويعود سبب حقد كوشنر المفترض على كريستي أن الأخير كان يتولّى موقع المدعي العام في ولاية نيوجيرسي وهو من تولّى محاكمة أبيه تشارلز في التهم المنسوبة إليه. ومن بين التهم المخجلة إدانته بالاتفاق مع إحدى بائعات الهوى للإيقاع بزوج أخته، بعدما كان قد أعد العدة في أحد الفنادق لتصوير اللقاء بينها وبين المستهدف من أجل تحريض أخته لاحقًا على زوجها، لكن الخطة فشلت.
ويبدو أن منظر اعتقال «كوشنر الأب» كان له أثر كبير في نفسية «كوشنر الابن» لدرجة أن الأخير ألغى خططه للعمل في مجال المحاماة لأنه حسب ما صرح به لأكثر من صحيفة أميركية - لم يعد يرغب أن يعمل مدعيًا عامًا ويلحق الضرر بأي أسرة أو يسجُن أحد مثلما حدث لوالده المحامي. وكانت إجازة المحاماة قد سُحبت من والده في كل من ولايتي نيويورك ونيوجيرسي عقب إدانته.
وحسب ما قالته إيفانكا لوسائل إعلام أميركية فإن العلاقة بين زوجها ووالده هي علاقة صداقة ومحبّة غير عادية بين أب وأبنه. وتؤكد بعض المصادر الإعلامية أن جاريد أنفرد من بين جميع إخوته وأخواته بالحفاظ على زيارة والده أسبوعيًا في سجنه إلى أن تم الإفراج عنه. وتقول مصادر أخرى إن الأب استمر في إدارة أعمال شركاته من داخل سجنه، كما أنه بعد خروجه من السجن ظل المسؤول الرئيسي عن تسيير شركاته وليس الابن الذي ينسب إليه الفضل شكليًا.
ومثلما أجاد جاريد التعامل مع والده والاستفادة منه إلى أقصى حد فقد عرف أيضًا كيف يتعامل مع حميه و«رئيسه» ترامب ليستفيد من إلى أقصى حد.
ويجمع المقربون منهما أن جاريد كوشنر أصبح الرجل الهامس في أذن الرئيس الجديد وصاحب التأثير الكبير عليه. وعليه، يتوقع هؤلاء أن يلعب داخل ردهات البيت الأبيض دورًا مهمًا للغاية، وقد يتفوق على نائب الرئيس مايك بينس في نفوذه. وللعلم، اصطحب ترامب كوشنر معه إلى البيت الأبيض خلال لقائه مع الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وبالمناسبة، يتهم الديمقراطيون كوشنر بالتحايل على القانون الفيدرالي لمكافحة محاباة الأقارب، الصادر عام 1967، بالقول إنه لن يحصل على راتب مقابل عمله الاستشاري. غير أن المدافعين عن هذا التعيين يستدلون بقرار الرئيس السابق بيل كلينتون تعيين زوجته هيلاري في منصب رئيسة برنامجه للرعاية الصحية عام 1993.

لمحة عن نشأته
في أي حال، ومع تعدد النجاحات التي حققها جاريد كوشنر، ترى بعض المصادر الإعلامية الناقمة على ترامب والمقربين منه تصفه بأنه كان تلميذًا فاشلاً ومدللاً، وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة يهودية خاصة في مسقط رأسه بلدة ليفينغستون بولاية نيوجيرسي، وهي عمليًا إحدى ضواحي مدينة نيويورك. ولقد تزوج كوشنر من إيفانكا عام 2009 ولديهما حاليًا ثلاثة أطفال، وهما حريصان بشكل كبير على الظهور بصورة مثالية على شبكات التواصل الاجتماعي.
ومن نشاطاته المبكرة أنه قبل زواجه اشترى صحيفة «نيويورك أوبزرفر» عندما كان عمره 25 سنة فقط، وذلك مقابل مبلغ 10 ملايين دولار. وخلال الحملة الانتخابية جعلها المنبر الأول للدفاع عن ترامب خاصة عندما كان يتعلق الأمر بمعاداة السامية. وعمومًا، يوصف كوشنر بأنه هادئ في كلامه وخجول أمام الكاميرات. وسبق له التعهد بأنه سيتخلى عن أعماله الخاصة ليتولى مسؤولياته الجديدة. وأفادت تقارير بأن جاريد وإيفانكا وأطفالهما انتقلوا إلى منزل في أحد الأحياء الراقية العاصمة واشنطن، يتجاوز ثمنه 5 ملايين ونصف المليون دولار.

ما يتوقع منه
حول توجهات كوشنر السياسية المستقبلية، يقول مسؤولون في الفريق الانتقالي لترامب إن «صهر الرئيس» سيركز مبدئيًا في منصبه الجديد على السياستين التجارية والشرق أوسطية، وخصوصًا أن لوالده علاقات وثيقة بقادة إسرائيل الحاليين والسابقين.
وفي هذا السياق، قال ريتشارد بينتر، الذي عمل محامي البيت الأبيض للشؤون الأخلاقية في عهد جورج بوش الابن، في تصريح لوكالة «أسوشييتد برس» أن خيارات كوشنر لتولي منصب في البيت الأبيض خيارات محدودة بسبب ارتباطاته العائلية بالرئيس، لكن القانون لا يمنع كوشنر من العمل مستشارًا غير مدفوع الأجر، وثمة اتفاق عام على أن كوشنر سيلعب دورًا حاسمًا في تحديد شكل الرئاسة من خلال عمله مستشارًا لشؤون السياسة. وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن علاقات كوشنر جيدة بشخصيات واسعة النفوذ مثل وزير الخارجية هنري كيسنجر، والقطب الإعلامي اليميني الملياردير روبرت ميردوخ. ومع أنه مثل حميه لم يشغل من قبل أي منصب حكومي، فهو يبدو الآن أهم من كثيرين تولوا مناصب عامة في حياتهم.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.