مقهى «آلاميركين».. يروي حكايات زمن «الأفندية» بمذاق القرن العشرين

تأسس ليخدم الطبقة المتوسطة وأصبح قبلة للكتاب والمثقفين

تأسس «آلاميركين» عام 1930 بعد «غروبي» الذي تأسس في عام 1924 وكان يخدم الطبقة الأرستقراطية ويجمع الهوانم والباشوات ونجوم السينما
تأسس «آلاميركين» عام 1930 بعد «غروبي» الذي تأسس في عام 1924 وكان يخدم الطبقة الأرستقراطية ويجمع الهوانم والباشوات ونجوم السينما
TT

مقهى «آلاميركين».. يروي حكايات زمن «الأفندية» بمذاق القرن العشرين

تأسس «آلاميركين» عام 1930 بعد «غروبي» الذي تأسس في عام 1924 وكان يخدم الطبقة الأرستقراطية ويجمع الهوانم والباشوات ونجوم السينما
تأسس «آلاميركين» عام 1930 بعد «غروبي» الذي تأسس في عام 1924 وكان يخدم الطبقة الأرستقراطية ويجمع الهوانم والباشوات ونجوم السينما

لا يزال التجول في وسط القاهرة التاريخية التي صُمّمت في عهد الخديو إسماعيل يشي بحكايات من الزمن الجميل، لكن هنا في تقاطع شارع عماد الدين مع شارع محمد فريد يروي مقهى «آلاميركين» حكاية أخرى عن طبقة «الأفندية» التي كانت ترمز للطبقة الوسطى وهو اسم فرنسي يعني على الطريقة الأميركية وقد كان ذلك قبل انتشار محال الوجبات السريعة بقرن من الزمان.
ما إن تعبر الواجهة الزجاجية الضخمة إلى قلب «آلاميركين» ستشعر بأنك عبرت لعالم آخر يسير إيقاعه بإيقاع الزمن الجميل.
يمنحك المقهى بنوافذه الكبيرة فرصة متميزة لتأمل جماليات شوارع القاهرة القديمة، طاولات منمقة... رجال ونساء يجلسون ويتحدثون ويتناولون أصناف الحلويات على رائحة القهوة الطازجة، على طاولة وحيدة يجلس رجل يرتدي بزة أنيقة ويتصفح جريدة غير مبال بإيقاع المدينة الصاخب بالخارج، بينما تجلس زمرة من الشباب العشريني يتصفحون هواتفهم الجوالة ويتناولون قطع الحلوى والكابتشينو بالبندق.
في كل ركن من أركان المقهى توجد لوحات لأصناف الغاتوه والحلويات التي صممها السويسري جياكومو غروبي ومعه نخبة من أمهر صناع الحلوى الفرنسيين، وكأنها تمثل متحفًا للحلوى وتروي تاريخ صناعة الحلويات في المحروسة.
قبل أن تختار الطاولة لا بد أن تتعلق عيناك ببوفيه الحلوى وأصناف وأشكال الشوكولاته الممهورة بشعار «غروبي»، ولا غرابة في ذلك لأن «غروبي» و«آلاميركين» كالتوأمين، ويحتفظان بنصيب كبير من التاريخ الاجتماعي والثقافي غير المدون للمصريين.
المتر وليد، المسؤول عن إدارة مقهى «آلاميركين» فرع عماد الدين، قال لـ«الشرق الأوسط»: «نحن ومطعم (غروبي) نعمل تحت مظلة إدارة واحدة منذ أكثر من قرن من الزمان، فقد تأسس (آلاميركين) عام 1930 عقب غروبي الذي تأسس في عام 1924 وكان يخدم الطبقة الأرستقراطية ويجمع الهوانم والباشوات ونجوم السينما، فكان تأسيس (آلاميركين) فكرة ابنه (أكيللي غروبي) ليلبي احتياجات طبقة (الأفندية) ولتكون أسعاره مناسبة لمن لا يستطيعون دخول (غروبي)».
ويشير إلى أنه لا يزال زبائن محال «غروبي» و«آلاميركين» وأحفادهم يعرفون قيمة منتجاتنا من الحلويات ومذاقها الفريد، خصوصًا المارون جلاسيه (أبو فروة المغطى بالشراب المحلى)، الذي وصل سعر الكيلو منه إلى 800 جنيه.
ويؤكد بفخر: «(جياكومو غروبي) كان أول من أدخل (الكريم شانتيه) و(الآيس كريم) إلى مصر، كما أن شوكولاته (غروبي) كانت ماركة مسجلة عالميا، وكان زوار مصر يأتون خصيصا لشراء تلك الشوكولاته التي كانوا يسمعون عنها».
وهناك قصة شهيرة يتم تداولها عن روعة شوكولاته «غروبي»، وهي أن الملك فاروق قد أرسل خلال الحرب العالمية الثانية 100 كيلوغرام من شوكولاته «غروبي» هديةً إلى الملك جورج ولبناته الأميرتين إليزابيث ومارغريت، فقد كان صيت الشوكولاته ذائعًا حتى في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
ويعكس حال مقهى «آلاميركين» أحوال المصريين ولا سيما الطبقة المتوسطة، ففي الستينات والسبعينات حينما زالت الفوارق الطبقية ما بين البروليتاريا والبورجوازية أو أصحاب الياقات الزرقاء من العمال وأصحاب الياقات البيضاء من الباشوات بعد ثورة يوليو (تموز) 1952، تحول مقهى ومطعم «آلاميركين» لملتقى للكتاب والمثقفين.
فلا غرابة إذن أن تجده مذكورًا في عدد من الأعمال الأدبية لكبار الأدباء المصريين، ليس كعنصر يتمحور العمل حوله، ولكن كمكان يؤدي الوظيفة الاجتماعية للمقهى كمنتدى للنقاش السياسي وملتقى آيديولوجي قبل أن يكون ملتقى ترفيهيًا.
جلس على طاولاته نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وخيري شلبي ومكاوي سعيد وإبراهيم عبد المجيد كما كان الفنان الراحل أحمد زكي من المترددين عليه بشكل دائم. أما الآن فيعتبر المقهى مكانًا مفضلاً لمن ينتمون لعليا الطبقة الوسطى أو أبناء الطبقات الراقية في ظل ارتفاع أسعار المشروبات والمأكولات بشكل جنوني، خصوصًا بعد تعويم الجنيه المصري وانهياره أمام الدولار.
أما عن ذكرياته مع المكان، يستكمل المتر وليد موليًا وجهه شطر النافذة المطلة على تقاطع شارع عماد الدين، قائلاً: «لن أنسى اليوم الذي جاء فيه الزعيم عادل إمام لتصوير مشهد مع النجمة هند صبري أثناء تصوير فليم (عمارة يعقوبيان)، في هذا اليوم كنت بالمقهى منذ منتصف الليل وبدأ الاستعداد للتصوير في تمام الساعة الثالثة فجرا واستمر التصوير حتى صباح اليوم التالي».
هناك فرع آخر لـ«آلاميركين» يطل على شارع 26 يوليو، لكن يبدو أن كثيرًا من العاملين الجدد لا يملكون ذكريات عن تاريخ المكان الشفاهي، ونصحني المتر وليد بالذهاب لحديقة «غروبي» بشارع عدلي للقاء أقدم العاملين بسلاسل محلات «غروبي»، الريس إبراهيم فضل.
وبالفعل توجهت إليه، إلا أن مقابلته أصعب من مقابلة مسؤول في أي وزارة، دون مبالغة، فهو الدينامو المحرك لـ«غروبي»، وبعد انتظار يقارب الساعة، جاء الريس فضل وهو رجل أنيق من أهل النوبة تخطى الـ85 من عمره يبدو في قمة أناقته وهو يرتدي الزي الأبيض والأسود المميز للعاملين في «غروبي».
وما إن طلبت إليه أن يخرج من جعبته حكايات وأسرار «غروبي»، تنهد طويلاً: «إنه تاريخ طويل جدا، يكفي أن جميع نجوم ومشاهير الفن والسياسة كانوا زبائن دائمين لدينا أما (آلاميركين)، فكان خاصًا بطبقة العمال والموظفين الذين يعملون بوسط القاهرة يمرون لاحتساء القهوة (على الواقف)»، ينظر بعينين شاردتين إلى طاولات محددة مسترجعًا عشرات السنين، قائلاً: «هنا كانت تجلس ليلى مراد ومحمد فوزي، وكانت هذه الطاولة المفضلة للعندليب عبد الحليم حافظ، وكانت ليلى فوزي ومريم فخر الدين من زبائني، ونادية لطفي وغيرهم كانت السيارات الفارهة تقف أمام سور الحديقة ومعها الشوفيرات وكان الزبائن يتحدثون اللغات الفرنسية والإيطالية واليونانية والإنجليزية طبعًا كان الزمن مختلفًا، وكان هناك عازفون موسيقيون، كان المكان راقيًا بمعنى الكلمة، وما يوجد عليه الآن من جمال لا يضاهي ربع ما كان عليه».
يعمل الريس فضل جميع أيام الأسبوع منذ التاسعة صباحًا وحتى الخامسة عصرًا، دون كلل أو ملل لكن تبدو على وجه الريس فضل علامات الحزن الممزوجة بنوستالجيا لزمن يتمنى كثيرون من أبناء الجيل الحالي العودة إليه.
ويستكمل: «كان هناك أدب واحترام في التعامل مع الزبائن، وكنت أعرف طلب كل واحد منهم ومشروبه المفضل وإفطاره كيف يحبه، وما إذا كان يرغب في السكر (بنسه) أو (ماكينة)»... لم يكمل الريس فضل حكاياته عن «غروبي» مفضلاً الصمت لأنه كما يقول بابتسامه باهتة: «قل للزمان ارجع يا زمان».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».