من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس
TT

من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس

وضع الكاتب واللاهوتي الإنجليزي توماس مالثوس أول نظرية بدائية شاملة حول السكان في دراسته الشهيرة «مقال حول مبادئ السكان» عام 1798، وفيها أشار إلى خطورة التطور غير المتكافئ بين سكان الأرض وقدرتهم على توفير الغذاء. ونبه لأول مرة بشكل دقيق إلى خطورة الزيادة السكانية لمستوى لا يعود للزراعة بعده أن تكفي لتغذية البشر. وضمن رسالته ذكر أن هناك الكثير من العوامل الطبيعية والسلوكية للإنسان التي أوقفت الزيادة السكانية عبر الأزمنة، متفادية بذلك الفجوة الغذائية حتى الآن، واستشهد بالأوبئة التي ضربت أوروبا من كل الاتجاهات على مدار العصور الماضية، إضافة إلى الحروب وضعف الصحة العامة، وهي كلها عوامل من شأنها وقف التزايد السكاني.
لقد كان مالثوس متأثرًا بشكل ملحوظ بانتشار وباء الطاعون في أوروبا عند منتصف القرن الرابع عشر. وحينذاك قضى هذا المرض على نحو ثلث سكان القارة، ما أعطاه وصف «الموت الأسود» الذي لم يجد أحد سبيلاً لوقف زحفه وهو يحصد الأرواح ويدفع الناس إلى سلوكيات متناقضة.
بعض المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت فسّرت ذلك الوباء، باعتباره غضبًا إلهيًا وقع على أوروبا لأنها انحرفت عن الروح الحقيقية للمسيحية، لا سيما أنه تزامن مع «الانفصال الكبير» داخل الكنيسة الكاثوليكية بوجود بابا في الفاتيكان وآخر في آفينيون (بجنوب فرنسا). وعزّز هذا الاعتقاد أن مدينة آفينيون - التي كانت تستضيف البابا الثاني كانت بين أكثر المدن تأثرًا بالطاعون في أوروبا، إذ هلك ما يقرب من نصف سكانها فيما وُصف بأنه عقاب إلهي. ولم تهتز أوروبا مثلما اهتزت لوباء الطاعون الذي لم تشهد أوروبا له مثيلاً من حيث عدد الضحايا إلا في الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأت رحلة أوروبا مع الطاعون - أو «الموت الأسود» كما سمي في ذلك الوقت - خلال الفترة من 1347 وحتى 1350، وتجمع المراجع التاريخية على أن الناقل الرئيسي وراء تفشي الوباء في أوروبا كانت إحدى السفن الإيطالية الآتية من سواحل القوقاز. وكان الوباء قد بلغ منطقة القوقاز - وفق المراجع - من آسيا بعدما حصد أعدادًا كبيرة من سكان الصين والهند. ولقد رفضت موانئ كثيرة استقبال هذه السفينة، لكنها لم تستطع منع انتشار الوباء، فبدأ هذا الموت المتحرك مسيرته من شبه الجزيرة الإيطالية إلى فرنسا، ومنها إلى وسط أوروبا، ثم الجزر البريطانية ثم لدول الشمال. ولم ينتصف عام 1348 إلا كانت كثرة من الدول الأوروبية قد سقطت ضحية لانتشاره.
كتب التاريخ أثبتت أن هذا الطاعون الكبير، الذي ضرب أوروبا، كان مركّبًا. وأغلب الظن أنه تم تشويهه مع الوقت بعدما انتقل عبر الحشرات الموجودة في وبر الجرذان. وكان منقسمًا إلى أنواع مختلفة على رأسها الطاعون «الرئوي Pneumonic، و«البوبوني - في العقد اللمفاوية - Bubonic». وكان أخطر أنواع الطاعون النوع الأول الذي كانت العدوى تنتقل فيه عبر الهواء وبالتالي، الأكثر فتكًا لأنه كان يؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي وما كان المصاب ليعيش أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر، أما باقي الأنواع فكانت أعراضها تظهر في شكل تورمات متناثرة في الجسم سرعان ما تأخذ اللون الأسود أو الرمادي جراء النزيف الداخلي.
وعبثًا حاول الجراحون البدائيون في أوروبا التصدي للوباء بوسائل الطب التقليدي الذي لم يكن ليجدي مع هذا المرض اللعين، فلم تفلح محاولاتهم لشفط الدم الفاسد في الأورام، كما لم تفلح محاولاتهم لمواجهته بأنواع من المأكولات. ولم يفلح أيضًا السعي لتطهير الأورام عبر الأعشاب الطبيعية أو حتى الكيميائية، فحقيقة الأمر أن وضعية الطب المتخلف في ذلك الوقت لم يكن أمامها أي فرصة لمواجهة هذا الوباء.
آثار الوباء كانت حقًا كارثية. وبالأخص، أن كثيرين - كما سبقت الإشارة - اعتبره أنه غضب من المولى سبحانه وتعالي لسوء السلوكيات، وقارنوا بين أحوالهم وما ورد في «العهد القديم» (التوراة) عندما ابتلى الله فرعون وشعبه جراء ظلمهم لبني إسرائيل. في حين فسره بعض المسيحيين على أنه التمهيد الإلهي ليوم القيامة وهو ما جعل الملايين يستعدون لنهاية العالم والعودة الثانية للسيد المسيح تمهيدًا للوقوف أمام بارئهم.
ولكن هذا لم يكن الشعور لدى الجميع، إذ أدى انتشار هذا المرض إلى سلوك متناقض بعض الشيء لدي كثيرين ظنوا أن نهاية العالم رخصت لهم اقتراف المعاصي والمفاسد والفجور على أساس أن أيامهم في الدنيا محدودة، فولغوا أكثر في الرذيلة التي انتشرت بشكل متناقض جدًا في أوروبا مع التيار الآخر.
عند هذا الحد وصل المواطن الأوروبي البسيط، ذو التعليم والثقافة المتدنية إلى حيرة فكرية وسلوكية لم تنته إلا مع انتهاء الطاعون في عام 1450، وبينما كانت الشعوب الأوروبية قد أعيتها الحيلة أمام هذا الوباء المميت ولم يكن باستطاعتها غير الانتظار والدعاء، كانت الطبقة الكنسية من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا المرض خاصة مع وجوب حضور القس لتلقين المحتضر والإصغاء لاعترافاته الأخيرة، ما جعل القساوسة والكهنة أكثر عرضة للمرض من غيرهم، وحقًا، تقدر بعض المصادر أن الكنيسة فقدت ما يقرب من ثلث طاقتها البشرية في هذا الوباء.
من جهة ثانية، كان لهذا الوباء أثره المباشر على الحياة الأوروبية، خاصة، بعدما قضى على ثلث السكان بلا تفرقة بين الطبقات منهم: ثمانية ملايين في فرنسا، ومليونان في إنجلترا على سبيل المثال. بيد أن الآثار الأساسية للوباء على القارة امتدت لتشمل متغيرات لافتة على التركيبة السكانية والإنتاجية الأوروبية. واعتبر بعض المفكرين أن هذا الوباء كان من الأسباب المحوَرية لضرب الإقطاع والقضاء التدريجي عليه، ذلك أن طبقة المزارعين كانت من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا الوباء، الذي أدى في النهاية إلى موت أو هروب الكثير من المزارعين الذين كانوا يزرعون الأرض ويحرثونها، ما ترك الأراضي الزراعية بلا رعاية وبدأ يؤثر مباشرة على الإنتاجية الزراعية في القارة. ولكن الأهم من ذلك أنه أدى إلى تحرير نسبي للمزارعين المربوطين بالإقطاعيات، وفقًا لهذا النظام العقيم، وبدأ المزارعون العمل الحر مطالبين بأجورهم مقابل عملهم بعد هجرتهم لإقطاعيتهم. ثم إن ندرتهم أدت إلى ارتفاع كبير في الأجور وأسعار الغذاء في القارة الأوروبية. وكذلك أدى إلى انتشار الثورات المحدودة بين هذه الطبقات ما ساهم في ضرب منظومة الإقطاع في أوروبا ككل.
أضف إلى ما تقدم، أن الغضب الشعبي من جراء هذا الوباء كان بحاجة إلى تنفيس سياسي واجتماعي، خاصة مع اعتقاد البعض أنه كان مؤامرة. وهنا كان اليهود من أوائل الضحايا لهذا الوباء، فتعرضوا لحملة من الاضطهاد في شتى الربوع الأوروبية، خاصة في سويسرا وفرنسا، حيث أحرق ما يقرب من ألفي يهودي في مدينة ستراسبورغ، وكذلك في مدينة بازل. أما في الأراضي الألمانية، فقد أدت هذه الموجة إلى هروب عشرات الآلاف من اليهود إلى بولندا، كما أن المدن شهدت اضطرابات كثيرة خاصة خلال العام الذي سبق انتهاء الطاعون في القارة الأوروبية التي تركها في حالة رثاء إنساني وتأثر اقتصادي واجتماعي لم تشهده من قبل.
وهكذا فإن «الموت الأسود» حصد الأرواح بالملايين وغيّر ن الخريطة الديموغرافية للقارة الأوروبية، فضلاً عن أنه غير من سلوكيات البشر على المستوى الفردي، ولم تشهد أوروبا وباءً مثل هذا إلا مع الحرب العالمية الثانية.
«الموت الأسود» كان من صناعة الطبيعة، أما الموت الثاني فكان من صناعة البشر أنفسهم، وهكذا يظل الإنسان أكبر عدو لبني الإنسان وحاصد الأرواح الأول حتى الآن وليس الطبيعة، تمامًا كما ورد في قوله تعالى «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ» (صدق الله العظيم).



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.