من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس
TT

من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس

وضع الكاتب واللاهوتي الإنجليزي توماس مالثوس أول نظرية بدائية شاملة حول السكان في دراسته الشهيرة «مقال حول مبادئ السكان» عام 1798، وفيها أشار إلى خطورة التطور غير المتكافئ بين سكان الأرض وقدرتهم على توفير الغذاء. ونبه لأول مرة بشكل دقيق إلى خطورة الزيادة السكانية لمستوى لا يعود للزراعة بعده أن تكفي لتغذية البشر. وضمن رسالته ذكر أن هناك الكثير من العوامل الطبيعية والسلوكية للإنسان التي أوقفت الزيادة السكانية عبر الأزمنة، متفادية بذلك الفجوة الغذائية حتى الآن، واستشهد بالأوبئة التي ضربت أوروبا من كل الاتجاهات على مدار العصور الماضية، إضافة إلى الحروب وضعف الصحة العامة، وهي كلها عوامل من شأنها وقف التزايد السكاني.
لقد كان مالثوس متأثرًا بشكل ملحوظ بانتشار وباء الطاعون في أوروبا عند منتصف القرن الرابع عشر. وحينذاك قضى هذا المرض على نحو ثلث سكان القارة، ما أعطاه وصف «الموت الأسود» الذي لم يجد أحد سبيلاً لوقف زحفه وهو يحصد الأرواح ويدفع الناس إلى سلوكيات متناقضة.
بعض المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت فسّرت ذلك الوباء، باعتباره غضبًا إلهيًا وقع على أوروبا لأنها انحرفت عن الروح الحقيقية للمسيحية، لا سيما أنه تزامن مع «الانفصال الكبير» داخل الكنيسة الكاثوليكية بوجود بابا في الفاتيكان وآخر في آفينيون (بجنوب فرنسا). وعزّز هذا الاعتقاد أن مدينة آفينيون - التي كانت تستضيف البابا الثاني كانت بين أكثر المدن تأثرًا بالطاعون في أوروبا، إذ هلك ما يقرب من نصف سكانها فيما وُصف بأنه عقاب إلهي. ولم تهتز أوروبا مثلما اهتزت لوباء الطاعون الذي لم تشهد أوروبا له مثيلاً من حيث عدد الضحايا إلا في الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأت رحلة أوروبا مع الطاعون - أو «الموت الأسود» كما سمي في ذلك الوقت - خلال الفترة من 1347 وحتى 1350، وتجمع المراجع التاريخية على أن الناقل الرئيسي وراء تفشي الوباء في أوروبا كانت إحدى السفن الإيطالية الآتية من سواحل القوقاز. وكان الوباء قد بلغ منطقة القوقاز - وفق المراجع - من آسيا بعدما حصد أعدادًا كبيرة من سكان الصين والهند. ولقد رفضت موانئ كثيرة استقبال هذه السفينة، لكنها لم تستطع منع انتشار الوباء، فبدأ هذا الموت المتحرك مسيرته من شبه الجزيرة الإيطالية إلى فرنسا، ومنها إلى وسط أوروبا، ثم الجزر البريطانية ثم لدول الشمال. ولم ينتصف عام 1348 إلا كانت كثرة من الدول الأوروبية قد سقطت ضحية لانتشاره.
كتب التاريخ أثبتت أن هذا الطاعون الكبير، الذي ضرب أوروبا، كان مركّبًا. وأغلب الظن أنه تم تشويهه مع الوقت بعدما انتقل عبر الحشرات الموجودة في وبر الجرذان. وكان منقسمًا إلى أنواع مختلفة على رأسها الطاعون «الرئوي Pneumonic، و«البوبوني - في العقد اللمفاوية - Bubonic». وكان أخطر أنواع الطاعون النوع الأول الذي كانت العدوى تنتقل فيه عبر الهواء وبالتالي، الأكثر فتكًا لأنه كان يؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي وما كان المصاب ليعيش أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر، أما باقي الأنواع فكانت أعراضها تظهر في شكل تورمات متناثرة في الجسم سرعان ما تأخذ اللون الأسود أو الرمادي جراء النزيف الداخلي.
وعبثًا حاول الجراحون البدائيون في أوروبا التصدي للوباء بوسائل الطب التقليدي الذي لم يكن ليجدي مع هذا المرض اللعين، فلم تفلح محاولاتهم لشفط الدم الفاسد في الأورام، كما لم تفلح محاولاتهم لمواجهته بأنواع من المأكولات. ولم يفلح أيضًا السعي لتطهير الأورام عبر الأعشاب الطبيعية أو حتى الكيميائية، فحقيقة الأمر أن وضعية الطب المتخلف في ذلك الوقت لم يكن أمامها أي فرصة لمواجهة هذا الوباء.
آثار الوباء كانت حقًا كارثية. وبالأخص، أن كثيرين - كما سبقت الإشارة - اعتبره أنه غضب من المولى سبحانه وتعالي لسوء السلوكيات، وقارنوا بين أحوالهم وما ورد في «العهد القديم» (التوراة) عندما ابتلى الله فرعون وشعبه جراء ظلمهم لبني إسرائيل. في حين فسره بعض المسيحيين على أنه التمهيد الإلهي ليوم القيامة وهو ما جعل الملايين يستعدون لنهاية العالم والعودة الثانية للسيد المسيح تمهيدًا للوقوف أمام بارئهم.
ولكن هذا لم يكن الشعور لدى الجميع، إذ أدى انتشار هذا المرض إلى سلوك متناقض بعض الشيء لدي كثيرين ظنوا أن نهاية العالم رخصت لهم اقتراف المعاصي والمفاسد والفجور على أساس أن أيامهم في الدنيا محدودة، فولغوا أكثر في الرذيلة التي انتشرت بشكل متناقض جدًا في أوروبا مع التيار الآخر.
عند هذا الحد وصل المواطن الأوروبي البسيط، ذو التعليم والثقافة المتدنية إلى حيرة فكرية وسلوكية لم تنته إلا مع انتهاء الطاعون في عام 1450، وبينما كانت الشعوب الأوروبية قد أعيتها الحيلة أمام هذا الوباء المميت ولم يكن باستطاعتها غير الانتظار والدعاء، كانت الطبقة الكنسية من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا المرض خاصة مع وجوب حضور القس لتلقين المحتضر والإصغاء لاعترافاته الأخيرة، ما جعل القساوسة والكهنة أكثر عرضة للمرض من غيرهم، وحقًا، تقدر بعض المصادر أن الكنيسة فقدت ما يقرب من ثلث طاقتها البشرية في هذا الوباء.
من جهة ثانية، كان لهذا الوباء أثره المباشر على الحياة الأوروبية، خاصة، بعدما قضى على ثلث السكان بلا تفرقة بين الطبقات منهم: ثمانية ملايين في فرنسا، ومليونان في إنجلترا على سبيل المثال. بيد أن الآثار الأساسية للوباء على القارة امتدت لتشمل متغيرات لافتة على التركيبة السكانية والإنتاجية الأوروبية. واعتبر بعض المفكرين أن هذا الوباء كان من الأسباب المحوَرية لضرب الإقطاع والقضاء التدريجي عليه، ذلك أن طبقة المزارعين كانت من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا الوباء، الذي أدى في النهاية إلى موت أو هروب الكثير من المزارعين الذين كانوا يزرعون الأرض ويحرثونها، ما ترك الأراضي الزراعية بلا رعاية وبدأ يؤثر مباشرة على الإنتاجية الزراعية في القارة. ولكن الأهم من ذلك أنه أدى إلى تحرير نسبي للمزارعين المربوطين بالإقطاعيات، وفقًا لهذا النظام العقيم، وبدأ المزارعون العمل الحر مطالبين بأجورهم مقابل عملهم بعد هجرتهم لإقطاعيتهم. ثم إن ندرتهم أدت إلى ارتفاع كبير في الأجور وأسعار الغذاء في القارة الأوروبية. وكذلك أدى إلى انتشار الثورات المحدودة بين هذه الطبقات ما ساهم في ضرب منظومة الإقطاع في أوروبا ككل.
أضف إلى ما تقدم، أن الغضب الشعبي من جراء هذا الوباء كان بحاجة إلى تنفيس سياسي واجتماعي، خاصة مع اعتقاد البعض أنه كان مؤامرة. وهنا كان اليهود من أوائل الضحايا لهذا الوباء، فتعرضوا لحملة من الاضطهاد في شتى الربوع الأوروبية، خاصة في سويسرا وفرنسا، حيث أحرق ما يقرب من ألفي يهودي في مدينة ستراسبورغ، وكذلك في مدينة بازل. أما في الأراضي الألمانية، فقد أدت هذه الموجة إلى هروب عشرات الآلاف من اليهود إلى بولندا، كما أن المدن شهدت اضطرابات كثيرة خاصة خلال العام الذي سبق انتهاء الطاعون في القارة الأوروبية التي تركها في حالة رثاء إنساني وتأثر اقتصادي واجتماعي لم تشهده من قبل.
وهكذا فإن «الموت الأسود» حصد الأرواح بالملايين وغيّر ن الخريطة الديموغرافية للقارة الأوروبية، فضلاً عن أنه غير من سلوكيات البشر على المستوى الفردي، ولم تشهد أوروبا وباءً مثل هذا إلا مع الحرب العالمية الثانية.
«الموت الأسود» كان من صناعة الطبيعة، أما الموت الثاني فكان من صناعة البشر أنفسهم، وهكذا يظل الإنسان أكبر عدو لبني الإنسان وحاصد الأرواح الأول حتى الآن وليس الطبيعة، تمامًا كما ورد في قوله تعالى «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ» (صدق الله العظيم).



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.