من التاريخ: «الموت الأسود»

وضع الكاتب واللاهوتي الإنجليزي توماس مالثوس أول نظرية بدائية شاملة حول السكان في دراسته الشهيرة «مقال حول مبادئ السكان» عام 1798، وفيها أشار إلى خطورة التطور غير المتكافئ بين سكان الأرض وقدرتهم على توفير الغذاء. ونبه لأول مرة بشكل دقيق إلى خطورة الزيادة السكانية لمستوى لا يعود للزراعة بعده أن تكفي لتغذية البشر. وضمن رسالته ذكر أن هناك الكثير من العوامل الطبيعية والسلوكية للإنسان التي أوقفت الزيادة السكانية عبر الأزمنة، متفادية بذلك الفجوة الغذائية حتى الآن، واستشهد بالأوبئة التي ضربت أوروبا من كل الاتجاهات على مدار العصور الماضية، إضافة إلى الحروب وضعف الصحة العامة، وهي كلها عوامل من شأنها وقف التزايد السكاني.
لقد كان مالثوس متأثرًا بشكل ملحوظ بانتشار وباء الطاعون في أوروبا عند منتصف القرن الرابع عشر. وحينذاك قضى هذا المرض على نحو ثلث سكان القارة، ما أعطاه وصف «الموت الأسود» الذي لم يجد أحد سبيلاً لوقف زحفه وهو يحصد الأرواح ويدفع الناس إلى سلوكيات متناقضة.
بعض المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت فسّرت ذلك الوباء، باعتباره غضبًا إلهيًا وقع على أوروبا لأنها انحرفت عن الروح الحقيقية للمسيحية، لا سيما أنه تزامن مع «الانفصال الكبير» داخل الكنيسة الكاثوليكية بوجود بابا في الفاتيكان وآخر في آفينيون (بجنوب فرنسا). وعزّز هذا الاعتقاد أن مدينة آفينيون - التي كانت تستضيف البابا الثاني كانت بين أكثر المدن تأثرًا بالطاعون في أوروبا، إذ هلك ما يقرب من نصف سكانها فيما وُصف بأنه عقاب إلهي. ولم تهتز أوروبا مثلما اهتزت لوباء الطاعون الذي لم تشهد أوروبا له مثيلاً من حيث عدد الضحايا إلا في الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأت رحلة أوروبا مع الطاعون - أو «الموت الأسود» كما سمي في ذلك الوقت - خلال الفترة من 1347 وحتى 1350، وتجمع المراجع التاريخية على أن الناقل الرئيسي وراء تفشي الوباء في أوروبا كانت إحدى السفن الإيطالية الآتية من سواحل القوقاز. وكان الوباء قد بلغ منطقة القوقاز - وفق المراجع - من آسيا بعدما حصد أعدادًا كبيرة من سكان الصين والهند. ولقد رفضت موانئ كثيرة استقبال هذه السفينة، لكنها لم تستطع منع انتشار الوباء، فبدأ هذا الموت المتحرك مسيرته من شبه الجزيرة الإيطالية إلى فرنسا، ومنها إلى وسط أوروبا، ثم الجزر البريطانية ثم لدول الشمال. ولم ينتصف عام 1348 إلا كانت كثرة من الدول الأوروبية قد سقطت ضحية لانتشاره.
كتب التاريخ أثبتت أن هذا الطاعون الكبير، الذي ضرب أوروبا، كان مركّبًا. وأغلب الظن أنه تم تشويهه مع الوقت بعدما انتقل عبر الحشرات الموجودة في وبر الجرذان. وكان منقسمًا إلى أنواع مختلفة على رأسها الطاعون «الرئوي Pneumonic، و«البوبوني - في العقد اللمفاوية - Bubonic». وكان أخطر أنواع الطاعون النوع الأول الذي كانت العدوى تنتقل فيه عبر الهواء وبالتالي، الأكثر فتكًا لأنه كان يؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي وما كان المصاب ليعيش أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر، أما باقي الأنواع فكانت أعراضها تظهر في شكل تورمات متناثرة في الجسم سرعان ما تأخذ اللون الأسود أو الرمادي جراء النزيف الداخلي.
وعبثًا حاول الجراحون البدائيون في أوروبا التصدي للوباء بوسائل الطب التقليدي الذي لم يكن ليجدي مع هذا المرض اللعين، فلم تفلح محاولاتهم لشفط الدم الفاسد في الأورام، كما لم تفلح محاولاتهم لمواجهته بأنواع من المأكولات. ولم يفلح أيضًا السعي لتطهير الأورام عبر الأعشاب الطبيعية أو حتى الكيميائية، فحقيقة الأمر أن وضعية الطب المتخلف في ذلك الوقت لم يكن أمامها أي فرصة لمواجهة هذا الوباء.
آثار الوباء كانت حقًا كارثية. وبالأخص، أن كثيرين - كما سبقت الإشارة - اعتبره أنه غضب من المولى سبحانه وتعالي لسوء السلوكيات، وقارنوا بين أحوالهم وما ورد في «العهد القديم» (التوراة) عندما ابتلى الله فرعون وشعبه جراء ظلمهم لبني إسرائيل. في حين فسره بعض المسيحيين على أنه التمهيد الإلهي ليوم القيامة وهو ما جعل الملايين يستعدون لنهاية العالم والعودة الثانية للسيد المسيح تمهيدًا للوقوف أمام بارئهم.
ولكن هذا لم يكن الشعور لدى الجميع، إذ أدى انتشار هذا المرض إلى سلوك متناقض بعض الشيء لدي كثيرين ظنوا أن نهاية العالم رخصت لهم اقتراف المعاصي والمفاسد والفجور على أساس أن أيامهم في الدنيا محدودة، فولغوا أكثر في الرذيلة التي انتشرت بشكل متناقض جدًا في أوروبا مع التيار الآخر.
عند هذا الحد وصل المواطن الأوروبي البسيط، ذو التعليم والثقافة المتدنية إلى حيرة فكرية وسلوكية لم تنته إلا مع انتهاء الطاعون في عام 1450، وبينما كانت الشعوب الأوروبية قد أعيتها الحيلة أمام هذا الوباء المميت ولم يكن باستطاعتها غير الانتظار والدعاء، كانت الطبقة الكنسية من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا المرض خاصة مع وجوب حضور القس لتلقين المحتضر والإصغاء لاعترافاته الأخيرة، ما جعل القساوسة والكهنة أكثر عرضة للمرض من غيرهم، وحقًا، تقدر بعض المصادر أن الكنيسة فقدت ما يقرب من ثلث طاقتها البشرية في هذا الوباء.
من جهة ثانية، كان لهذا الوباء أثره المباشر على الحياة الأوروبية، خاصة، بعدما قضى على ثلث السكان بلا تفرقة بين الطبقات منهم: ثمانية ملايين في فرنسا، ومليونان في إنجلترا على سبيل المثال. بيد أن الآثار الأساسية للوباء على القارة امتدت لتشمل متغيرات لافتة على التركيبة السكانية والإنتاجية الأوروبية. واعتبر بعض المفكرين أن هذا الوباء كان من الأسباب المحوَرية لضرب الإقطاع والقضاء التدريجي عليه، ذلك أن طبقة المزارعين كانت من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا الوباء، الذي أدى في النهاية إلى موت أو هروب الكثير من المزارعين الذين كانوا يزرعون الأرض ويحرثونها، ما ترك الأراضي الزراعية بلا رعاية وبدأ يؤثر مباشرة على الإنتاجية الزراعية في القارة. ولكن الأهم من ذلك أنه أدى إلى تحرير نسبي للمزارعين المربوطين بالإقطاعيات، وفقًا لهذا النظام العقيم، وبدأ المزارعون العمل الحر مطالبين بأجورهم مقابل عملهم بعد هجرتهم لإقطاعيتهم. ثم إن ندرتهم أدت إلى ارتفاع كبير في الأجور وأسعار الغذاء في القارة الأوروبية. وكذلك أدى إلى انتشار الثورات المحدودة بين هذه الطبقات ما ساهم في ضرب منظومة الإقطاع في أوروبا ككل.
أضف إلى ما تقدم، أن الغضب الشعبي من جراء هذا الوباء كان بحاجة إلى تنفيس سياسي واجتماعي، خاصة مع اعتقاد البعض أنه كان مؤامرة. وهنا كان اليهود من أوائل الضحايا لهذا الوباء، فتعرضوا لحملة من الاضطهاد في شتى الربوع الأوروبية، خاصة في سويسرا وفرنسا، حيث أحرق ما يقرب من ألفي يهودي في مدينة ستراسبورغ، وكذلك في مدينة بازل. أما في الأراضي الألمانية، فقد أدت هذه الموجة إلى هروب عشرات الآلاف من اليهود إلى بولندا، كما أن المدن شهدت اضطرابات كثيرة خاصة خلال العام الذي سبق انتهاء الطاعون في القارة الأوروبية التي تركها في حالة رثاء إنساني وتأثر اقتصادي واجتماعي لم تشهده من قبل.
وهكذا فإن «الموت الأسود» حصد الأرواح بالملايين وغيّر ن الخريطة الديموغرافية للقارة الأوروبية، فضلاً عن أنه غير من سلوكيات البشر على المستوى الفردي، ولم تشهد أوروبا وباءً مثل هذا إلا مع الحرب العالمية الثانية.
«الموت الأسود» كان من صناعة الطبيعة، أما الموت الثاني فكان من صناعة البشر أنفسهم، وهكذا يظل الإنسان أكبر عدو لبني الإنسان وحاصد الأرواح الأول حتى الآن وليس الطبيعة، تمامًا كما ورد في قوله تعالى «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ» (صدق الله العظيم).