«داعش».. تشعل حرب المياه في العراق

استولت على «سدة الفلوجة».. وتصوب أنظارها إلى سد الموصل

«داعش».. تشعل حرب المياه في العراق
TT

«داعش».. تشعل حرب المياه في العراق

«داعش».. تشعل حرب المياه في العراق

شكل استيلاء «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف اختصارا باسم «داعش»، على مدينة الفلوجة خلال الأيام الماضية، مفاجأة ربما غير متوقعة في سياق الحرب بينه وبين الحكومة العراقية. فبالإضافة إلى البعد المعنوي لمثل هذا الأمر، فإنه وضع حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في زاوية حرجة، لا سيما أن التنظيم أعلن الفلوجة إمارة إسلامية.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحرب بين «داعش» ومن تحالف معها من ثوار العشائر والمجلس العسكري من جهة، والأجهزة الأمنية الحكومية ومن يقف معها من أبناء العشائر سواء على مستوى قوات «الصحوة» أو «مجالس الإنقاذ» و«أبناء العراق»، دون أن يتحقق حسم عسكري واضح لأحد الطرفين، فإن مفاجأة «داعش» التي لم يتوقعها أحد هي الإعلان عن قيام مسلحيها بقطع مياه نهر الفرات بعد سيطرتهم على «سدة الفلوجة».
هذا التطور المفاجئ في سياق المواجهة العسكرية جعل مسار الحرب يتخذ أكثر أبعاده خطورة، لا سيما البعد الطائفي، خصوصا أن التحكم في السدة سيؤدي إلى شح كبير في المياه بمحافظات الوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية.
ولم تتضح على نحو واضح استراتيجية «داعش» وراء غلق وفتح السدة بين فترة وأخرى، مما أدى بالفعل إلى غمر مناطق كثيرة غربي بغداد وصولا إلى حزامها فضلا عن القرى والنواحي المحيطة بالفلوجة.
ومن الأخبار التي تواترت أن المسلحين المنتمين إلى «داعش» بدأوا يصوبون نظرهم إلى سد الموصل الواقع على نهر دجلة، وهو أكبر سدود العراق. وفي حال إغلاق هذا السد، فإن المياه ستحجب عن محافظات عديدة تقع على النهر، من أهمها العاصمة بغداد، فضلا عن تكريت وواسط والعمارة جنوبا.
وإذا كانت الخطوة من الناحية التكتيكية ضد «داعش» لأن هذا الأمر من شأنه أن يوحد المواقف السياسية والاجتماعية ضدها، إلا أنها تراهن استراتيجيا على مسألتين مهمتين؛ الأولى إثارة العنف والصراع الطائفي بين السنة والشيعة باعتبار أن «داعش» محسوبة على السنة، والثانية إظهار ضعف الحكومة العراقية وعجزها عن فرض سيطرتها وسيادتها حتى على المياه التي هي جزء لا يتجزأ من سيادة أي دولة.
ولعل من أكثر المفارقات على صعيد حرب المياه التي أشعلتها «داعش»، هو أن الحكومة العراقية وجدت نفسها أمام معركة مياه جديدة تضاف إلى سابقتها مع دول الجوار. فقد فشلت الحكومات المتعاقبة في بغداد في التوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم المياه منذ تأسيس الدولة العراقية حتى الآن، مع دول الجوار، وهو ما جعلها تقع تحت الضغط التركي تارة، والإيراني تارة أخرى. لكنها اليوم تقع تحت ضغط داخلي جديد غير مسبوق عندما وجدت نفسها تخوض «حرب مياه» من طراز مختلف تماما، فلأول مرة ربما في العالم كله تخوض دولة حرب مياه مع مسلحين تمكنوا من السيطرة على بعض مصادر المياه.
هذا التحول في الحرب يتزامن مع انتخابات مصيرية على الأبواب، مما يجعل الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات.. فتكتيك «داعش» الجديد يقوم، بالإضافة إلى استخدامها المياه عامل ضغط على الحكومة العراقية بما في ذلك تشتيت الجهد العسكري، على توسيع رقعة انتشارها الجغرافي لتشمل بابل جنوبا وديالى وكركوك وصلاح الدين شمالا. كما أن هذا التنظيم الذي ولد من رحم «القاعدة» وتمرد عليه، لم يكتف بالدفاع عن «الإمارة» التي شكلها بالفلوجة، بل بات يهدد مناطق حزام بغداد، وهو ما حمل الحكومة العراقية على غلق سجن أبو غريب غربي العاصمة خشية هجوم مسلح عليه يؤدي إلى إطلاق سراح ما تبقى من نزلائه الخطرين بعد أن نجح التنظيم في يوليو (تموز) الماضي في تهريب أكثر من 600 سجين من بينهم «أمراء» في تنظيم القاعدة من ذلك السجن.
وبينما بدأت «داعش» تقترب من بغداد، حيث غمرت المياه مناطق قريبة من العاصمة، فإن احتمال سيطرتها على سد الموصل بات أحد الاحتمالات الواردة، وهو ما يمكن أن يعرض تكريت وسامراء ومدنا أخرى تمتد إلى بغداد إلى مخاطر جمة. وبقدر ما تعكس هذه التطورات مدى القدرات والخبرات العسكرية التي يتمتع بها هذا التنظيم، فإنه من وجهة نظر بعض داعمي الحكومة العراقية من زعماء الصحوات الجديدة، يبدو مختلفا إلى حد كبير.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور فارس إبراهيم، الأستاذ في جامعة الأنبار وعضو المجلس التأسيسي لـ«أبناء العراق»، لـ«الشرق الأوسط» إن «المشكلة لا تكمن في قدرات التنظيم بقدر ما تكمن في عدم وجود جدية لدى الحكومة في التعامل مع هذا الملف بطريقة حازمة». ويؤيد إبراهيم «عمليات عسكرية واسعة النطاق في الفلوجة وغيرها، لأن هذا هو الدواء الوحيد القادر على لجم هؤلاء»، بينما الحكومة العراقية، وعلى لسان القيادي في ائتلاف دولة القانون عدنان السراج، ترى أنها «أخذت على عاتقها المضي من خلال مسارين؛ الأول هو العمليات العسكرية التي أدت حتى الآن إلى تحرير الرمادي مع محاصرة الفلوجة. والثاني هو إبقاء الباب مفتوحا أمام الحلول السلمية بما في ذلك إعطاء فرصة لشيوخ العشائر لإيجاد حل سلمي لتجنب إسالة المزيد من الدماء». لكن الأمر بالنسبة لـ«داعش» يختلف. فبعد أن بدأت تتحكم في سدة الفلوجة، فإن الماء اختلط بالدم فنتج عن الاثنين لون ثالث أكثر قتامة.

* قصة «داعش»
* خلال السنة الأولى من مظاهرات الأنبار، التي امتدت إلى المحافظات الغربية ذات الأغلبية السنية كلها (صلاح الدين، وديالى، وكركوك، ونينوى) كان أحد أبرز الهتافات التي لفتت الأنظار وجرى تسويقها بوصفها دليل إدانة للمتظاهرين هو ذلك الهتاف الذي ردده القيادي في تنظيم القاعدة، شاكر وهيب: «نحن تنظيم اسمه (القاعدة).. نقطع الرأس ونقيم الحدود».
في هذا الهتاف جرى اختزال القصة كلها، ومنح رئيس الوزراء نوري المالكي نفسه أحقية وصف المظاهرات بأنها «نتنة» مرة، و«فقاعة» مرة أخرى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جرى اختزال وجود «القاعدة» وتنظيماتها بالأنبار في ساحة الاعتصام على الطريق الدولي السريع الرابط بين العراق وكل من الأردن وسوريا.
خلال معظم شهور السنة الأولى للمظاهرات (2013) لم تكن «داعش» قد ظهرت إلى الوجود، بل كانت التسمية الشائعة هي «القاعدة» ورمزها في ساحات الاعتصام شاكر وهيب صاحب الهتاف الشهير الذي بقيت قناة «العراقية»، وهي التلفزيون الرسمي، تردده في نشرات الأخبار بوصفه دليل إدانة للمتظاهرين ولساحات المظاهرات بدعوى أنها اختطفت من قبل تنظيم القاعدة. لكن تطورات الأوضاع في سوريا وتداعياتها خلقت أوضاعا مرتبكة في العراق حتى ظهر تنظيم «داعش» ليختزل عبارة «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وما هي إلا أشهر حتى بدأ التنسيق بين التنظيمين في كل من سوريا والعراق يؤتي أكله على صعيد التدريب والتجهيز والدعم والإسناد، وتساعد في ذلك الحدود شبه المفتوحة بين البلدين مع غياب الرؤية الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب طبقا لما يقوله لـ«الشرق الأوسط» الخبير الأمني ورئيس «المركز الجمهوري للدراسات الاستراتيجية» الدكتور معتز محيي عبد الرحمن. ومن تجليات غياب هذه الرؤية إصرار الحكومة على رفع خيام الاعتصام من منطلق أن الحكومة حققت مطالب المتظاهرين المشروعة، ما عدا تلك التي تحتاج إلى تشريعات من قبل البرلمان، وهي حجة لا تقنع المتظاهرين لسببين؛ الأول هو أن المتظاهر غير معني بالتفريق بين الحكومة والبرلمان لأنه يشعر أن مطالبه موجهة إلى السلطة المسؤولة سواء كانت حكومة أم برلمانا. والثاني هو أن من يريد استغلال ذلك يجد فرصته سانحة في خلط الأوراق، وهو ما حصل عندما أصرت الحكومة على رفع الخيام على أساس أن هناك نحو 35 قياديا في تنظيم القاعدة متحصنون داخلها. وتزامن هذا الأمر مع بدء عملية عسكرية في «وادي حوران» غرب الرمادي كانت القوات العراقية قد حققت نجاحات فيها، مع عملية رفع الخيام التي سرعان ما فتحت باب المجهول أمام الجميع، إضافة إلى أن التطورات التي تلت ذلك فاجأت الجميع.

* من الصحراء إلى قلب المدن
* الحرب انتقلت فجأة من وادي حوران إلى قلب مدينة الرمادي، في حين نجح المسلحون في الاستيلاء بالكامل على مدينة الفلوجة التي حظيت خلال عقد واحد من الزمن بأكبر قدر من الاهتمام العالمي بدءا بمعركتيها الأولى والثانية مع الأميركيين، وحتى الحرب الأخيرة التي تدور رحاها على أرضها بين «داعش» والحكومة.
وبعد أربعة أشهر من غموض الرؤيا، يقول الدكتور عبد الرحمن إن «الغموض لا يزال سيد الموقف؛ إذ لا يوجد ناطق عسكري رسمي يوضح سير العمليات وما انتهت إليه، بل ما نلاحظه هو أن هناك تهويلا إعلاميا في قنوات فضائية معينة، بينما ما يحتاج إليه المواطن هو توضيح الحقائق والتداعيات الخاصة بهذه المعركة».
وبشأن الحجة التي ساقتها الحكومة لرفع الخيام الذي أدى إلى كل هذه التداعيات التي وصلت أخيرا إلى استخدام المياه في الحرب، يقول عبد الرحمن إن «العمليات لم تسفر مثلا حتى الآن عن إلقاء القبض على رموز قيادات (القاعدة) ممن وزعت صورهم، والمعلومات تشير إلى أنهم تسربوا إلى مناطق أخرى؛ لأن (القاعدة) لا تتخذ معسكرات ثابتة وإنما تتنقل كأشباح، وهو ما يحتاج إلى حشد مجتمعي صحيح وتفادي التشكيك في هذا أو ذاك، وكذلك تجنب نقل المعركة إلى ساحات أخرى حتى لا تصبح ذريعة للبعض للتشكيك المضاد».
في السياق نفسه، وجزءا من التداعيات التي ترتبت على عملية نقل المعركة من وادي حوران إلى قلب المدن، يقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي شوان محمد طه في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه «في حين يوجد إرهاب في العراق، وهو ما يتطلب تكاتف الجميع للقضاء عليه، فإن ما نلاحظه للأسف هو أن هناك عملية ترويج سياسي له». وأضاف طه أن «العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة ضد الإرهابيين يجب أن تدعم من قبل الجميع، لكن الإرهاب و(داعش) ليسا موجودين في صحراء الأنبار فقط، وإنما هناك مناطق كان يجب التحرك عليها منذ زمن طويل، وبالتالي، فإن الإجراءات تأخرت كثيرا». ودعا طه إلى «عدم خلط الأوراق بين ما هو سياسي وما هو أمني حتى في إطار ما بات يصرح به بعض أعضاء البرلمان بشأن نوع من التقسيم المجتمعي بين من يؤيد أو يعارض، وهو أمر غير صحيح».
وبشأن المعلومات حول دخول عناصر إرهابية إلى ساحة اعتصام الرمادي، مركز محافظة الأنبار، قال طه إن «هذا الأمر لو صح فإن الحكومة تتحمل مسؤوليته بسبب عدم تنفيذ المطالب المشروعة طوال عام كامل، مما أدى إلى حصول تداعيات على صعيد ساحات الاعتصام، وهو ما جعل الإرهابيين يتوغلون فيها واتخاذها ملاذا آمنا لهم».

* صحوات قديمة وأخرى جديدة
* جاء استيلاء «داعش» على الفلوجة ليشكل مفاجأة ربما غير متوقعة في سياق الحرب بينها وبين الحكومة العراقية؛ فبالإضافة إلى البعد المعنوي لمثل هذا الأمر، فإنه وضع حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في زاوية حرجة، لا سيما أن التنظيم أعلن الفلوجة إمارة إسلامية. وظهر الشيخ أحمد أبو ريشة الذي كان طوال عام كامل أحد أبرز خصوم المالكي خلال قيادته مع شخصيات سياسية وعشائرية أخرى المظاهرات، ظهر ليقول إن تنظيم «داعش» أصدر عملة له. وجاء التحول لدى أبو ريشة إلى جانب المالكي بعد أن اضطر المالكي إلى محاباته لإعادة «الصحوات» القديمة التي كان قد شكلها أخوه الراحل عبد الستار أبو ريشة عام 2006 والتي كان لها بمساعدة الأميركيين على عهد الجنرال ديفيد بترايوس، الدور الأبرز في إقصاء وطرد تنظيم القاعدة من مدن محافظة الأنبار. وكان المالكي قد شكل صحوات بديلة لصحوات أبو ريشة أواخر عام 2013 بزعامة الشيخ وسام الحردان بعد انضمام أبو ريشة إلى المظاهرات مع كل من وزير المالية السابق رافع العيساوي والشيخ علي حاتم السليمان الذي يقود الآن تنظيم «ثوار العشائر»، وهو أحد الفصائل التي تقاتل القوات المسلحة العراقية، والنائب أحمد العلواني الذي اعتقل من قبل قوات «سوات» التي تعد من أشد الأجهزة العسكرية موالاة للمالكي.
وبين الصحوات القديمة، التي كان لأبو ريشة الدور الأبرز فيها، وصحوات الحردان ومجلس أبناء العراق بزعامة الشيخ محمد الهايس شقيق الشيخ حميد الهايس رئيس مجلس إنقاذ الأنبار، جرى مسار المواجهة في الأنبار بطرق بدت غير واضحة المعالم أدت فيما أدت إليه إلى نوع من الانقسام العشائري، وهو ما راهنت عليه الحكومة في إضعاف شوكة «القاعدة» التي أصبح اسمها الرسمي الآن «داعش».
ومع «داعش» تغير التكتيك والاستراتيجية معا، وهو أخطر ما يمكن حسابه في مجرى الحرب الذي لم يجد له صدى واضحا في الخطط والأساليب العسكرية المتبعة. وفي هذا السياق، يقول الدكتور عبد الرحمن إن «هناك مسائل أساسية لا بد من حسابها في المعارك، وهي المعلومات الاستخباراتية والتدريب والتجهيز، وهي كلها مما ينقص قواتنا المسلحة، وهو ما يجعل زمام المبادرة بأيدي المسلحين والإرهابيين إلى حد كبير، بالإضافة إلى غياب مبدأ الثواب والعقاب لمن يقوم بعمله من جهة، ويقصر من جهة أخرى». ويلفت عبد الرحمن النظر إلى مسألة مهمة هي أنه «في الوقت الذي يعمد فيه المسلحون إلى تغيير تكتيكاتهم هنا وهناك، نجد أن هناك ثباتا في الخطط لدى الأجهزة الأمنية مهما كانت الصدمات التي تتعرض لها، لا سيما على صعيد العمليات النوعية التي تقوم بها الجماعات المسلحة بين الحين والآخر».
وفي سياق تبديل الخطط والأساليب، فإن الشيخ رافع عبد الكريم الفهداوي، وهو أحد الشيوخ النافذين في محافظة الأنبار، الذي انضم إلى الحكومة لمقاتلة «داعش»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، ردا على سؤال بشأن قدرة العشائر في الرمادي عامي 2006 و2007 على طرد تنظيم القاعدة من مدن المحافظة وعجزها الآن على الرغم من دخول الجيش العراقي في حالة حرب ضروس مع التنظيم، قال إن «في المسألة جانبين مهمين؛ الأول يتعلق بالخطط والأساليب العسكرية التي لسنا معنيين بالحكم عليها، لكننا، ومن ملاحظاتنا البسيطة، نجد أن هناك خللا وقصورا في هذا الجانب، وهو ما استغلته التنظيمات الإرهابية إلى حد كبير. والثاني أن التكتيك الذي يتبعه تنظيم (داعش) اليوم يعمد إلى محاولة كسب السكان والاختفاء بينهم بطرق معينة، بالإضافة إلى استغلالهم معاناة الناس جراء عدم قيام الحكومة بتنفيذ المطالب المشروعة لهم، وهو ما يعني أنهم تمكنوا من استثمار المظاهرات لصالحهم بطريقة مبتكرة جدا، الأمر الذي جعل الفرز صعبا بين من هو إرهابي ينتمي إلى (داعش)، ومن هو من ثوار العشائر أو جهة أخرى تريد أن تسوق خطابا مفاده أنها ليست مع تنظيم القاعدة».

* مفاجأة المياه
* وفي الوقت الذي تستمر فيه الحرب بين «داعش» والأجهزة الأمنية الحكومية، دون أن يتحقق حسم عسكري واضح لأحد الطرفين، فإن المفاجأة التي لم يتوقعها أحد هي الإعلان عن قيام مسلحي «داعش» بقطع مياه نهر الفرات بعد سيطرتهم على «سدة الفلوجة». هذا التطور المفاجئ في سياق المواجهة العسكرية جعل مسار الحرب يتخذ أكثر أبعاده خطورة، لا سيما البعد الطائفي، خصوصا أن التحكم في السدة يؤدي إلى شح كبير في المياه بمحافظات الوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية. وبالفعل، فقد ارتفعت أصوات عديدة بهذا الاتجاه إلى الحد الذي جرى فيه إطلاق تسميات «معسكر يزيد» و«معسكر الحسين» في إحالة تاريخية إلى وقائع معركة وقعت عام 61 للهجرة. لكن غلق السدة، أدى، من بين ما أدى إليه، إلى غرق المناطق الغربية ذات الأغلبية السنية. ولم تتضح على نحو واضح استراتيجية «داعش» من غلق وفتح السدة بين فترة وأخرى، سوى أنها كشفت من وجهة نظر الخبراء والمتخصصين هشاشة أخرى لدى السلطات العراقية ليس على مستوى الأمن فقط، وإنما على مستوى لا يقل خطورة، وهو الضعف والتراخي الخطير في توفير الحماية المطلوبة للسدود والنواظم المنتشرة في العراق على نهري دجلة والفرات.
* السدود والنواظم في العراق
* على مدى عقود طويلة بقي التهديد المائي الأكبر بالنسبة للعراق هو إقدام تركيا على إقامة السدود على نهري دجلة والفرات وبالذات مشروع «غاب» الشهير على نهر الفرات الذي سيؤدي إلى خسارة العراق نحو 40 في المائة من أراضيه الزراعية. فبحسب تقديرات الخبراء والمختصين، فإن الحاجة الحقيقية للعراق من نهر الفرات لا تقل عن 500م3/ثا، في حين أن ما يحصل عليه حاليا لا يتعدى الـ200م3/ثا. أما المشروع التركي الآخر، وهو سد «أليسو» على نهر دجلة، فسيهبط بحصة العراق من النهر إلى 7.9 مليار متر مكعب سنويا، علما بأن منسوب المياه الفعلي عند الحدود 20.93 مليار متر مكعب!! ومع أن العراق خلال عهود الحكم الملكية والجمهورية أقام العديد من السدود والنواظم وعددها «25» سدا وناظما في عموم العراق، أبرزها الثرثار والموصل والحبانية وحديثة والورار والفلوجة وسد العظيم والكوت وبادوش ودربنديخان ودوكان وديالى وحمرين، فإن الخبراء والمختصين يشددون على أهمية البدء في إنشاء سدود ونواظم جديدة؛ إذ إن القسم الأعظم منها شُيد ضمن خطة مشاريع مجلس الإعمار في عقد الخمسينات من القرن الماضي. وإذا كان الكلام في الماضي ينصب على أهمية السدود والنواظم بالنسبة للزراعة والصناعة وتوليد الطاقة الكهربائية، فإن التكتيكات الأخيرة لتنظيم «داعش» حولت الاهتمام إلى كيفية حماية هذه المنشآت بطريقة تجعل من الصعب التحكم فيها من أي جهة كانت عدا الدولة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.