مالك بن نبي.. رقابة المستعمر

يتفرد عطاؤه الفكري في مواجهته لسلطة خارجية

مالك بن نبي.. رقابة المستعمر
TT

مالك بن نبي.. رقابة المستعمر

مالك بن نبي.. رقابة المستعمر

يحتل المفكر الجزائري مالك بن نبي مكانة مرموقة في سياق المواجهات المعاصرة مع الرقيب في الثقافة العربية، المواجهات التي شغلت بتتبعها في مقالات سابقة في هذا المكان. ذلك أن ابن نبي المولود في قسنطينة بالجزائر عام 1905 عاش حياة تعد سجلاً متصلاً للهيمنة الاستعمارية الفرنسية التي عاشتها بلاده حتى استقلالها في مطلع ستينات القرن الماضي. وكان ذلك بالطبع سجلاً فكريًا ونضالاً ثقافيًا بعيدًا عن المقاومة العسكرية التي كانت تتأجج في الجزائر منذ أواسط الخمسينات. فقد خاض ابن نبي حرب مقاومة على جبهات الكتابة والتأليف والمحاضرة وأسفرت جهوده عن كثير من الأعمال التي تعد إضافة مهمة للفكر العربي الحديث، لا سيما في وجهه المقاوم للهيمنة.
يتفرد العطاء الفكري لمالك بن نبي، بالقياس إلى مثقفين ومفكرين آخرين من المغرب العربي، في كونه، كما أشرت، مواجهة لسلطة خارجية وليس لسلطة محلية، سياسية كانت أو اجتماعية أو ثقافية. غير أن سلطة المستعمر لم تكن كما قد يبدو لأول وهلة سياسية أو عسكرية محضة بقدر ما كانت سياسية ثقافية أو ثقافية ذات بعد سياسي، فمشهورة محاولة فرنسا أن تفرنس الجزائر لغة وثقافة، وكان ابن نبي أحد أوائل كتاب المغرب العربي الذين كتبوا بالفرنسية لأنها كانت الأيسر لهم في مراحل التعليم، لا سيما في فرنسا، إذ أنهى دراسته الجامعية. ومما لا شك فيه أن ذلك ترك أثره على المواجهة التي احتدمت فيما بعد بين المفكر الجزائري والهيمنة الفرنسية التي ابتدأت مبكرًا من خلال اللغة.
سعى ابن نبي أثناء وجوده في فرنسا إلى دراسة العلوم الإنسانية ودراسة الفلسفات الغربية وما يتصل بها من فكر اجتماعي ونفسي وأدبي، لكنه اصطدم بتعذر ذلك عليه بوصفه عربيًا جزائريًا، فانصرف مضطرًا إلى دراسة العلوم الهندسية دون أن ينقطع اهتمامه بالفكر والثقافة الفلسفية والأدبية التي استهوته ابتداءً. ولا شك أن تعرف ابن نبي على الفكر الأوروبي، والفرنسي بشكل خاص، في تلك المرحلة كان العامل الحاسم لاكتشافه القيود التي كان المستعمر يفرضها على الطموحات النهضوية والحضارية في البلاد المستعمَرة وأيضًا - ولهذا أهمية خاصة - على مستويات الهيمنة والوجوه التي تعبر بها عن نفسها.
ترك بن نبي كثيرًا من المؤلفات والمقالات التي تشترك في صياغة رؤيته بشكل عام لموقعه بوصفه مثقفًا جزائريًا وموقع الجزائر والعالمين العربي والإسلامي إزاء أوروبا والغرب إجمالاً بوجوهه الحضارية والاستعمارية آنذاك. غير أن اثنين من تلك الكتب، هما «شروط النهضة»، الذي صدر بالفرنسية عام 1948 وبالعربية عام 1957، وكتاب «مشكلات الحضارة: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» (1959)، يمكن التوقف عندهما من حيث إنهما يختزلان المواقف والرؤى الأساسية للمفكر الجزائري، لا سيما فيما يتعلق مباشرة بموضوعنا، وهو علاقة المفكر بالرقيب. وواضح أن الرقيب هنا ليس المعتاد، ليس حكومة وطنية أو مؤسسة ثقافية أو فكرية محلية، أو مجتمعًا عربيًا، وإنما هو دولة أجنبية تختلف في توجهاتها السياسية ومرتكزاتها الثقافية وعلاقتها من ثم بالبلاد والثقافة اللتين ينتمي المفكر أو المثقف هنا إليهما. هذا الوضع قابله ابن نبي بوعي مرهف ورؤية مبتكرة ابتدعت مصطلحات ومناهج في التعامل مع الرقيب اشتهر بعضها ويحتاج بعضها إلى قراءة مدققة لتبيانها.
لعل المصطلح الأشهر الذي لا يكاد ابن نبي يُذكر إلا ويُذكر معه هو «القابلية للاستعمار». ذكر المفكر الجزائري ذلك المصطلح في كتابه «شروط النهضة» مفصلاً في دلالاته وآثاره. والمصطلح جزء من مشروع ابن نبي في المقاومة الفكرية الثقافية التي ينهض بها، إلى جانب أطروحات أخرى لها جوانب منهجية مهمة بحد ذاتها. مفهوم ومصطلح القابلية للاستعمار ينقل الصراع مع المستعمر إلى أفق ثقافي وفكري أكثر رهافة وعمقًا مما كان مطروحًا ضمن المواجهة التقليدية التي تركز جهودها على الظاهر وتكاد تحصره في ذلك. الجميع يعلم أن المستعمر الفرنسي عمل في الجزائر وغيرها - لكن الجزائر بشكل خاص - على إفقار الشعب وتدمير إمكانياته وسرقة مقدراته على مختلف المستويات، الاقتصادية والثقافية بعد هيمنته على المستويين السياسي والعسكري. لكن ابن نبي كان مشغولاً بسبر الآثار الأقل وضوحًا، الآثار النفسية التي تحول المستعمَرين إلى أدوات في يد المستعمر، من حيث يشعرون أو لا يشعرون. يقول:
«إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا، من استعداد لخدمته من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دامت له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: (أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم)».
كتب ابن نبي هذا تحت عنوان «معامل القابلية للاستعمار» واضعًا الأمر في إطار عدم التكافؤ المعرفي والثقافي بين المستعمِر والمستعمَر بالقدر الذي يجعل من السهل على القوى الاستعمارية فرض هيمنة غير محسوسة إلى جانب الهيمنة المحسوسة. لكن الواضح هو أن تلك الهيمنة لا تتجه إلى عامة الناس وإنما إلى نخبهم المثقفة، فهم الذين يتحولون إلى أدوات تخدم المستعمر دون حتى أن يشعروا، إلى قابلين للاستعمار بتعبير ابن نبي. النخب هي التي لا تعرف تلك القوى معرفة كافية: «إن الاستعمار لا يتصرف في طاقاتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة وأدرك منها مواطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصواريخ يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقًا يتحدث فيها وأقلامًا يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له بعلمه وجهلنا».
المقصود إذن هم القادرون على التعبير والكتابة، أصحاب الأقلام، أولئك الذين لم ينهضوا بدراسة الاستعمار على النحو المتوقع منهم: «والحق أننا لم ندرس الاستعمار دراسة علمية، كما دَرَسنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية، وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر».
القابلية للاستعمار إذن ليست مشكلة العامة من الشعب أو المجتمع بقدر ما هي مشكلة أولئك الذين يتوقع منهم أن يعرفوا من يواجهون وما يواجهون وبإمكانهم من ثم مقاومة المستعمر. ولا شك أن ابن نبي الذي نشأ يتحدث الفرنسية ولا يكاد يجيد الكتابة بغيرها، الشاب الذي واجه سطوة المستعمر في فرنسا نفسها حين منع من دراسة معارف خشي المستعمر أن تستغل ضده، ذلك المفكر القادم هو الذي طور مفهومًا استنبطه من واقع الحال وصلب المعاناة. وما أحوجنا اليوم إلى تأسي تلك الجرأة في التفكير المبدع المستقل.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.